«تمرُّد بريغوجين»... رأس جبل الجليد!

«تمرُّد بريغوجين»... رأس جبل الجليد!

يطغى في وسائل الإعلام رأيان في قراءة أحداث يوم السَّبت الماضي 24 حزيران في روسيا؛ الأوّل يقول إنّ ما جرى هو هزّة كبرى لروسيا وهو بدايةٌ لتفكُكِها ولانهيار نظامِها وهو تكثيفٌ لفشلِها في أوكرانيا وإلخ وإلخ، وأمّا الثّاني فيقول إنّ ما جرى هو مجرَّدُ غيمةِ صيفٍ عكَّرتْ السَّماء الروسيّة لبضع ساعاتٍ ومرّتْ وانقضى الأمر.

بطبيعة الحال، ليس من الصَّعب الانتباهُ إلى أنّ كلا الرأيَين خاطئٌ، ولكنَّ الصَّعبَ حقّاً هو تكوينُ رأيٍ موضوعيٍّ بما جرى، يسمَحُ بتوقُّعِ القادِم. ومن الضَّروريِّ في هذا الإطار، وضْعُ أكبرِ قدرٍ ممكن من المعلومات والأسئلة في متناول القارئ في إطار محاولة الفهم والتّحليل، ولنبدأْ بالسُّؤال البسيط التّالي:

هل كان «العصيان» مفاجئاً للسلطات الروسية؟

قبل أحداث 24 حزيران، إذا كان الإعلام الغربي قد كتب -مثلاً- عشر مقالات عن «احتمالات تمرد بريغوجين»، فقد كُتبتْ في الإعلام الرُّوسي، الرّسمي وغير الرّسمي والمعارِض، مئاتُ المقالات حولَ الموضوع، وقُلِ الأمرَ نفسَه بما يخصُّ الإعلامَ المرئيَّ والمسموع.

كانتْ «قاسيون» قد نشرت منذ أيّام، ترجمةً للقاءٍ مع قسطنطين سيفكوف جرى قبل أكثر من شهر ونصف من «العصيان»، وبالتحديد بتاريخ 6 أيار الماضي، ونشرتْه كنص وكفيديو، يمكن الرُّجوع إليهما عبر الروابط المرفَقَة.

يعرضُ سيفكوف عدداً كبيراً من الأفكار والأسئلة المهمّة في حديثه، وسنستخدِمُ بعضَها فيما سيأتي ضمن هذه المادّة، ولكنْ قبل ذلكَ نحاولُ من خلال حديثِه الإجابةَ عن السُّؤال الذي وضعناه أعلاه: (هل كان العصيان مفاجئاً للسلطات الروسية؟).

حول هذا بالذات، وبعد أن يعرض سيفكوف عدداً كبيراً من الأسباب التي تدعو إلى الرِّيبة والحذر من سلوك بريغوجين ومما يمكن أن يُقدِمَ عليه، يطرح سؤالاً مباشراً: إذا كان بريغوجين قد أعلن أنه سيغادر أرتيوموفيسك/ باخموت لـ«يلعق جراحه»، (أي سيغادر هو وقواته أرضَ المعركة مؤقَّتاً، بذريعةِ لعق الجراح، باتجاه الأراضي الروسيّة)، فإلى أين سيذهب؟ ولماذا؟ ومن المعلوم أنه ذهب فعلياً إلى روستوف وبقي فيها فترةً قبل أن يعلنَ عصيانَه.

بعد حشدِه لمجموعةٍ من الحقائق حول فاغنر وحول بريغوجين، وربطه لها بما أسماها «محاولة انتقام اللِّيبراليِّين»، وبالطابور الخامس، وكذلك بالضَّربات بالمسيَّرات على الكرملين قبل شهرين، ينتهي سيفكوف إلى طرح السُّؤال التّالي على محاوِرِه: (إذا كنتُ أنا وأنت ها هنا وعلى الهواء مباشرة، نرى ما يقوم به بريغوجين، فهل يا ترى أجهزةُ المخابرات الرّوسيّة ومخابرات الجيش وإلخ لا ترى ولا تعلم؟ هي ترى، وتعلم).

وبالفعل، فإنّ السؤال محقّ؛ فأيُّ انقلابٍ ذاك الذي يجري الحديثُ عنه بشكلٍ علنيٍّ وواسعِ النّطاق، قبل أشهر من وقوعه؟ أضفْ إلى ذلك أنّ تشكيل فاغنر، والذي يقال إنّ عدد عناصره يصل إلى 25 ألف مقاتل، يأخذ مساعدات مباشرة من السلطات الروسية كما أفصح الرئيس الروسي عقب أحداث السبت، وقال إنّ الحكومة الروسية دفعت لفاغنر ما يصل إلى 1 مليار دولار خلال العام الماضي.

هنا أيضاً ليس من الصعب التنبّؤ بأنّ السلطات الروسية حين تمنح أسلحةً وذخائرَ وأموالاً لـ«شركة خاصّة عسكريّة»، فهي تضعُها بالتّأكيد تحتَ الرّقابة إلى هذه الدَّرجة أو تلك، وتضعُ بين صفوفِها مقاتِلين وقادةً يتبعون لها بشكلٍ مباشَر معلَنٍ أو غير معلَن، وذلك على الأقلّ من وجهةِ نَظَرِ الحفاظِ على مصالح السُّلطاتِ نفسِها.

كلُّ ذلك، يجعلُ من «عنصر المفاجأة» أمراً نافلاً في أحداث السبت 24 أيار، وبالحدّ الأدنى فإنّ الأمورَ لا يمكن تفسيرُها وفهمُها انطلاقاً من هذا العنصر.

001

لماذا لم يتم منعه إذاً؟

إذا كانت الأدلّة والمؤشّرات على أنّ الأمرَ ليس مفاجئاً بالنسبة للسلطات الروسية، فإنّه ينبغي على الفور -قبل بناء أيّة استنتاجات- استبعادُ بعض الأقاويل المغرِقة في التآمر، وخاصة تلك التي تطرح الفرضية التالية:

السلطات الروسية هي نفسها من نظَّمتْ الموضوع باستخدام بريغوجين، وكلُّ شيء متَفَقٌ عليه مسبقاً وإلخ وإلخ... بل وإنّ انتقال بريغوجين إلى بيلاروس هو لعبةٌ عبقريّة تجهيزاً للانقضاض على كييف من الشِّمال، أيْ من الحدود البيلاروسية... وإلخ وإلخ.

أبسط ردٍّ منطقيٍّ على هذا الكلام يتمثّل في نقطتين:

  • إذا كان المطلوب هو نقل فاغنر إلى الحدود البيلاروسية الأوكرانية، قرب كييف تجهيزاً للهجوم، فإنّ من الممكن القيام بذلك بشكل سرّي أو علني، وعلى مراحل، ولا حاجة لمسرحيّةٍ كبرى للقيام بذلك.
  • الخسائر التي ترتبت على «المسرحية» إعلامياً وسياسياً، ورغم أنها ليست خسائر كارثية، إلا أنها خسائر بكل الأحوال، وليست خسائر هيِّنة، ولا يمكن تبريرُها بأيٍ من حبكات المؤامرات التي يجري تسويقها.

وإذاً، تبقى أمامنا الفرضية التالية: السلطات الروسية كانت على علمٍ مسبق بالعصيان الذي حصل، ربما لا تعلم التاريخ الدقيق، وربما لا تعلم الخطّة الدقيقة للعصيان، ولكنّها على علمٍ بأنه سيجري.

(ينبغي التذكير بأنّ السلطات الروسية قبل أكثر من شهرين من العصيان، قد بدأت بالعمل على الإلزام القانوني للمتعاقِدين مع فاغنر على إمضاء عقودٍ مع وزارة الدفاع وإلا فإنّ عليهم تسليم سلاحهم والتوقُّف عن القتال، ما يعني عمليّاً قراراً ضمنياً بإخضاع فاغنر بشكل نهائي).

بالعودة إلى الفرضيّة التي نطرحُها، وبما أنَّ السُّلطات الروسية على علم مسبق، وكما هو واضح منذ أشهر، فإنه كان لديها الوقتُ الكافي لتقوم بحساب الاحتمالات، وبين تلك الاحتمالات القمع المسبق لأيّ إمكانية عصيان لدى بريغوجين، بما في ذلك إمكانية اعتقاله. ولكن لماذا لم تقم بذلك؟

هل لأنّ السلطة الروسية لا تملك القوة الكافية لذلك؟ قطعاً لا، وأيُّ محاولة للمقارنة بين فاغنر والجيش الروسي، هي ضربٌ من العبث.

هل لأنّ ذلك سيكلف خسائر بشرية وسياسية كبيرة يمكن تفاديها؟ ربما الأمر كذلك، ولكن هذا يحمل في طياته معاني إضافية، ويسمح بسؤال إضافي:

هل لأنّ الأمر (أي القمع الاستباقي لفاغنر) لن يكون مفهوماً في صفوف عامّة الرُّوس وفي صفوف العسكريّين، وبالتالي يمكن أنْ تترتَّبَ عليه عواقبُ أكبر من عواقب العصيان ذاته؟ هذا احتمالٌ جِدّي، ولكنّه يسمح بالتفكير بسؤال آخر أيضاً:

هل لأنّ هنالك من يدعم فاغنر ضمن جهاز الدولة المدني والعسكري، ويرفض الإجهاز عليها؟ (علينا أن نتذكر حدثاً مثيراً للاهتمام حقّاً جرى قبل شهرين: لسببٍ ما، أواخر نيسان من هذا العام، جرى إعفاء أحد نوّاب وزير الدفاع الروسي من مهامه؛ اسمه ميخائيل ميزنتسيف. بعد أسبوع واحد، ظهر ميزنتسيف مع بريغوجين بوصفه مستشاراً له ومعاوناً وعضواً في مجلس قيادة فاغنر!)...

003

ما الأمر إذاً؟

المؤكَّد هو أنّ هنالك انقساماً جدّياً داخلَ جهاز الدَّولة الروسي وداخلَ المجتمع الرّوسي. هذا الانقسام لا يتعلّق بالموقف من معركة أوكرانيا فحسب، بل ومن خيارات روسيا الاستراتيجيّة داخلياً وخارجياً، وضمناً من طبيعة النظام السياسيّ المأمول ضمنها، وطبيعة النظام الدّولي المطلوب.

قبل المضيّ أبعد من ذلك، ربما من المفيد أن نشير إلى لقاءٍ إعلامي هو أحد الأمثلة على أشياء كثيرة لا يراها المتابع العربي، ويحتاجها لاستكمال فهم صورة الأمور في روسيا. اللّقاء المعنيّ هو لقاءٌ مع شخصٍ اسمُه سيرغي ماركوف، جرى نشرُه قبل أيامٍ على إحدى القنوات الروسية. ماركوف بحدّ ذاته ليس بالشخصية المهمّة، ولكنه ليسَ نكرةً أيضاً، هو نائبٌ سابق في الدوما، و«عالمِ سياسة» و«خبير». ولكن المهمّ هو الأفكار التي يقولها، وأهمُّ منها، السماح بظهورها على الإعلام الروسي.

ضمن اللقاء، يقول ماركوف أفكاراً من قبيل: «العولمة أمرٌ لا مفرَّ منه، وعلى روسيا أن تتنازل عن جزءٍ من سيادتها، لأنّ ذلك في مصلحتها، ولأنَّ هذه هي طبيعةُ الأمور». «الأمريكان ليسوا بالسُّوء الذي يتمُّ تصويرُهم به، وهم يمكن أنْ يريدوا الخيرَ لروسيا، ويمكن أنْ يتمَّ التفاهمُ معهم»، وإلخ...

بالتوازي مع وجود هذا النوع من الحديث، هنالك تنامٍ سريعٌ وواسعٌ للآراء الأكثر جذريّة في التعامل مع الواقع الروسي الدّاخلي ومع المعركة الخارجية؛ آراء ترى أنّ روسيا لا يمكنها ليس أنْ تنتصر فحسب، بل لا يمكنُها حتى أنْ تبقى موحَّدَة، إذا لم تنتقِلْ فوراً إلى نمطٍ عادلٍ في توزيع الثَّروة، وإلى ضرب الأوليغارش داخل المنظومة والذين يشكّلون نقاطَ الاستناد والاختراق الأساسيّة للغرب، وهو ما درجتْ الإشارةُ إليه بأنه «الطّابور الخامس»؛ الخطابُ الذي أدلى به زوغانوف أمينُ عامّ الحزب الشّيوعي الروسي، والذي ترجمته قاسيون ونشرته ليس إلّا مثالاً من بين آلاف، بل وعشرات آلاف الأمثلة.

0

خلاصة أولية

منذ 2008، كان حزبُ الإرادة الشعبيّة، (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في حينه)، قد رأى أنّ روسيا ستدخُل مرحلةَ صعودٍ سريعٍ في قدراتها ومركزها الدُّولي، وأنّه مع هذا الصُّعود ستشتدُّ التناقضاتُ الدّاخلية فيها. وفي مشروع برنامج الحزب المصاغ عام 2013، عبّر الحزبُ بشكلٍ أوضحَ أنّ روسيا محكومةٌ بالاستدارةِ ضدَّ الرأسماليّة نفسِها في الدَّاخل، في إطار مواجهتِها الوجوديّة مع الغرب. ومنذ بدأتْ معركةُ أوكرانيا، عبّرتْ قاسيون بشكلٍ متكرِّر عن أنّ المعركة الأساسيّة التي تخوضُها روسيا مع الغرب، ليست في أوكرانيا، ولا في أيِّ مكانٍ آخر خارجها، بل هي بالذات المعركة الدّاخلية، وببعدِها الاقتصاديّ الاجتماعي بالدرجة الأولى.

«حادثة بريغوجين» هي البداية فحسب؛ وهي تعبيرٌ عن أنّ المعركة الدّاخلية قد بدأتْ فعلاً، وأنها ستسخن وستشتدّ فيما سيأتي من أشهر. هذه المعركة ومتابعتُها ستكون مهمّةً أهمّيةً كبرى ليس للرّوس وحدَهم، بل وللعالَم بأسره؛ لأنّ الغربَ إنْ نجحَ بكسرِ روسيا من الدّاخل فإنّ جدولَ عمل الانتقال نحو عالَم ما بعد الهيمنة الغربيّة، سيكون قد تعرَّضَ لضربةٍ كبرى...

من جهةٍ مقابِلة، فإنّ نجاحَ قوى الشَّعب الروسي بتنظيفِ جهاز الدّولة والمجتمع من الطابور الخامس اللِّيبرالي، والذي يتطلَّب بالضرورة إجراءاتٍ حاسمة وجذريّة في الجانب الاقتصادي الاجتماعي، لن يكونَ نجاحاً لروسيا وحدَها، بل وسيسهم مساهمةً حاسمةً في رسم معالم واتجاهات النّظام العالمي الجديد، قيد التشكل... وهذا الأمر ليس بالجديد على روسيا، التي أثّرتْ تأثيراتٍ حاسمة في تاريخ أوروبا والعالم عدّة مرات خلال القرون الماضية، بينها على سبيل المثال لا الحصر: هزيمة نابليون 1812، ثورة أكتوبر 1917، النّصر على النازية 9 أيار 1945...