ملف «كورونا»: هل ستتجاوز رياح التحقيقات الحدود البرازيلية؟
مع مطالع الشهر الجاري أيّار/مايو، قامت الشرطة الفيدرالية في البرازيل بمداهمة منزل الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، كجزءٍ من تحقيق حول تزوير محتمل لبطاقات اللقاح ضدّ فيروس كوفيد-19. وأعلنت الشرطة في وقت لاحق أنها نفّذت 16 أمراً متعلّقاً بالبحث والمصادرة، بالإضافة إلى ستة أوامر اعتقال وقائيّة في العاصمة «برازيليا» وفي مدينة «ريو دي جانيرو»، فيما لم يتم الكشف عن أسماء الأفراد المستَهدَفين.
وفقاً للمحقّقين، قام مسؤولون مقرَّبون من بولسونارو بإنشاء شهادات تطعيم مزوّرة بحيث يمكن للمسافرين الذين لم يتلقّوا التطعيم، بما في ذلك بولسونارو وأفراد عائلته وأقاربه، دخول الولايات المتحدة الأمريكية وتجنّب متطلّبات التطعيم الإلزاميّة. وهذا ما أكّده بولسونارو ذاته للصحفيين في وقت لاحق، حيث أكّد أنه لم يتلقَّ اللّقاح وأنّ منزله قد تعرّض للمداهمة، لكنّه نفى أيَّ دور له في تزوير الوثائق.
من المعروف لكثيرين ربّما أنّ مواقف الرئيس البرازيلي السابق من مسألة اللقاحات والتطعيم كانت قد أثارت جدلاً كبيراً في حينها، حيث شكّك في فعالية اللقاحات وأمانها على الأشخاص، واعتبر أنّ الفيروس «لا يستحقّ المخاطرة». وخلال فترة رئاسته، أمر بسريّة تمتدّ لمائة عام على بطاقة التطعيم الخاصّة به، ممّا يعني أنّ الناس والصحافة لن يتمكّنوا من الوصول إلى المعلومات حول اللقاحات التي تمّ تطبيقها على بولسونارو لمدّة قدرها 100 عام.
لكن بعد تولّي الرئيس الجديد لويز إيناسيو لولا دا سيلفا مقاليد الحكم في البلاد منذ كانون الثاني/يناير 2023، وعدَ بمراجعة جميع أوامر السريّة التي أصدرها بولسونارو خلال فترة ولايته الرئاسية. وحتى الآن، لم يتمّ اتخاذ قرار بشأن كسر أمر السريّة على بيانات لقاح بولسونارو، لكن فريق الحكومة القانوني الحالي يثق بأنّه من الممكن كسر السريّة.
وفي حديث شديد اللهجة من قِبَل لولا دا سيلفا، يوم الأحد 14 أيّار/مايو، أشار إلى أن الرئيس السابق جاير بولسونارو سيكون مضطراً لمواجهة التبعات الناجمة عن الأكاذيب التي تم ترويجها أثناء ولايته، مؤكّداً أنه «متورّط» على عكس ما يقول. وكان من اللافت في حديث دا سيلفا المشار إليه، تأكيده أنّ الوباء قتل 700 ألف شخص في البلاد (ثاني أعلى نسبة وفاة حول العالم بعد أمريكا) وأنه كان من الممكن إنقاذ 300 ألف شخص في حال تم التعاطي مع الوباء بشكل سليم من جانب بولسونارو وفريقه.
وفي الحقيقة ليس ملف كورونا هو الملف الوحيد الذي يجري تداوله والنقاش حوله في البرازيل في هذه الأيام، فهنالك غيره من الملفات الأخرى التي يسعى الرئيس الجديد لحلّها ما بعد سلفه الليبرالي وحكومته اليمينيّة الغربية، التي توصَف بكونها الحكومة الأكثر تشدّداً منذ عقود. ومن بين هذه الملفّات وعلى رأسها ملف تأميم الشركات، والجديد في هذا الأمر، هو وعدُ لولا بأنه سيثبت الفساد الحاصل في عملية بيع شركة «إلتروبراس» في كلام صدر عنه مؤخراً، وكانت فكرته الأساسية: «الخصخصة جريمة ضدّ الوطن».
وعلى الرغم من كثرة الملفات التي يجري العمل عليها في الداخل البرازيلي، فإنّ فتح ملف كورونا بالتحديد له خصوصية من نوع ما، فهو من جانب مرتبط بالخسائر الهائلة للأرواح البشرية التي تكبّدتْها البلاد، ومن جانب آخر فهو ملفٌّ له طبيعة دولية، بمعنى أنه من الممكن أن يكون لفتحه تأثيرٌ دوليٌّ أبعد من البرازيل.
وربما أولى الدول التي تخطر على البال مع حديث مثل هذا، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لعدّة أسباب:
الأول: سجّلت الولايات المتحدة الأمريكية أعلى نسبة وفيات حول العالم (أكثر من مليون ومئة ألف حالة وفاة).
الثاني: كشفت الجائحة عن أوجه قصور وعجز كبيرين في القطاع الصحّي الأمريكي، الأمر الذي كان صادماً لكثيرين في حينه، والذي فتح الباب واسعاً أمام نقاشٍ حَمَلَ أبعاداً كبيرةً متعلّقة بالنظام العالمي القائم كلّه (الرأسمالية) وبدائله، وذلك وسط ظهور حقيقي وفعلي لطريقة أخرى وقيم أخرى في التعاطي مع الجائحة، ومثل ذلك ما أظهرته الصين.
الثالث: الاستخدام السياسي الأمريكي لملف «كورونا» في الصراع الدولي الجاري، وابتزاز الصينيّين فيه بعد تصريحات ومقولات لا تختلف في جوهرها عمّا قاله بولسونارو في البرازيل، فلا يختلف موقف الأخير عن موقف ترامب الذي قلّل من مخاطر الفيروس ومن أهمية اللقاح.
وعن الاستخدام السياسي الأمريكي لملف كورونا، فسبق أن عالجت «قاسيون» هذه المسألة في مادة حملت العنوان: لماذا تلوّح أمريكا بورقة «كورونا» في وجه الصين؟! حيث تظهر المادة المشار إليها كيف أصبح ملف «كورونا» ورقة بيد واشنطن، تلوّح بها بوجه الصين كلّما استدعت الضرورة ذلك، وكيف تحوّلت هذه الورقة إلى أداة للابتزاز والاستثمار السياسي.
الآن، ومع فتح ملف كورونا المرتبط ببولسونارو في البرازيل، فإنّ فتح الملف ذاته في أمريكا هو احتمال وارد، فالجائحات العالمية المرتبطة مباشرة بالوضع الصحّي وحياة الناس على مساحة الكوكب، ليست مسائل داخلية مرتبطة بدولةٍ محدّدة، بل مسائل عالمية، بمعنى أنّ سياقاً محدّداً في التعاطي معها في بلدٍ ما، مع ما ينتج عنه من محاسبة وكشف للحقيقة، قد يجعل من هذا السياق نهجاً في التعاطي مع الملف نفسه لدى دولٍ أخرى، خصوصاً أن خطر الجائحة انخفض إلى مستوياته الدنيا الآن، ولم تعد تشكّل «كورونا» حالة طوارئ صحيّة عالمية بعد أنْ حصدَت أرواح أكثر من 20 مليون إنسان حول العالم!