متى يكتمل استيعاب صدمة التسوية السورية-التركية؟

متى يكتمل استيعاب صدمة التسوية السورية-التركية؟

شكّل لقاء موسكو لوزراء دفاع سورية وتركيا وروسيا، صدمةً لأوساط واسعة، محلية وإقليمية ودولية. ولا تزال آثار هذه الصدمة مستمرةً حتى الآن.

البعض ما يزال مصراً على رفض تصديق ما يجري، وعلى تعليق آمالٍ وأوهامٍ على أنّ التسوية السورية- التركية لن تمضي أبعد مما مضت حتى الآن، أو أنها حتى وإنْ كانت ستسير قدماً فإنّ ذلك لن يكون في القريب العاجل، بل ربما سيحتاج سنوات عديدة قادمة.

وبطبيعة الحال، فإنّ المتشددين من كل الأطراف، والمتضررين من هذا الاتجاه الذي سيقود نحو بدء تنفيذ 2254، يحاولون تعزيز هذه الأوهام عبر جملة من «التحليلات» التي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:

  • ما جرى هو مجرد ألعابٍ ابتزازية وانتخابية، سواء من الجهة التركية أو من السورية.
  • لن يُكتب لأيّ مشروعٍ النجاح ما دام الأمريكي غير موافقٍ عليه.
  • التعقيدات الواقعية أمام سير التسوية حتى نهاياتها هي تعقيدات ليست صعبة الحل فحسب، بل هي مستحيلة الحل، سواء في الشمال الشرقي أو في الشمال الغربي.

الأمريكي يتنشط باتجاه التخريب

رغم المحاولات المستميتة للتمسك بحبال الهواء، وبالأوهام «المريحة» (هي أوهام مريحة فقط لأولئك الذين يناسبهم استمرار الاستنزاف واستمرار الأزمة واستمرار الارتزاق عبرها)، رغم ذلك كلّه، إلا أنّ قدراً ما من استيعاب الوقائع المستجدة قد بدأ بالتسرب إلى عقول الغربيين ومعهم أتباعهم من المتشددين من كل الأطراف. وعلى أساس هذا القدر من الاستيعاب، انطلقت حركة نشطةٌ بقيادة أمريكية، تشبه تلك التي شهدناها عقب قمة طهران.

بين ملامح هذه الحركة، يمكن أنْ نميّز الاتجاهات التالية:

  • التصريحات الرسمية الأمريكية الرافضة لما أسمته «تطبيع العلاقات مع النظام».
  • التصريحات الأوروبية التي جاءت صدىً للأولى، ومتأخرة عنها بعض الشيء، والتي أكدت على ما أسمته اللاءات الثلاث: (لا للتطبيع، لا لرفع العقوبات، لا لإعادة الإعمار).
  • قانون الكبتاغون، وما يفتحه من إمكانياتٍ لمزيد من الحصار والابتزاز، ليس اتجاه سورية فقط، بل واتجاه دول الجوار القريب والبعيد.
  • محاولة تنشيط المجموعة المصغرة الغربية، عبر دعوتها للاجتماع في جنيف خلال الأيام القليلة القادمة.
  • سيلٌ من المقالات والدراسات الغربية المصدر، وخاصة الأمريكية، والتي تسعى لتسليح رافضي التسوية بالأفكار اللازمة للعمل ضدها. وبين تلك الأفكار، وربما على رأسها، فكرة توحيد المعارضة في الشمال الشرقي والشمال الغربي بدعمٍ أمريكي، ليتحول الشمال السوري بأسره إلى منطقة عازلة بوجه أي تسوية سورية- تركية، وبوجه عملية استعادة وحدة سورية الجغرافية والسياسية.
  • في السياق الإعلامي نفسه، تجري محاولة اختلاق أزمة حول فكرة وجود أربعة أطرافٍ في أستانا بدلاً عن ثلاثة. والحقيقة أنّه من الصحيح أنّ ضامني أستانا هم ثلاثة، ولكن مسار أستانا هو مسار رباعيٍ منذ اللحظة الأولى؛ فالسوريون -وإنْ ليس بالتمثيل الكامل المطلوب- موجودون فيه منذ الاجتماع الأول للمسار...
  • بالتوازي، هنالك عملٌ نشطٌ تقوم به أوساط ضمن «المعارضة»، تدعو لـ«الاستقلال» عن تركيا، سياسياً ومكانياً؛ أي نحو انتقال أجسام المعارضة الموجودة في تركيا (وأساساً الائتلاف)، ليس نحو استقلال حقيقي، بل في الحقيقة نحو التبعية المباشرة لأوروبا والولايات المتحدة والمجموعة المصغرة، وباتجاه الانفصال الكامل عن مسار أستانا. وفي هذا السياق، يجري استغلال التخوفات الطبيعية للناس في الشمال الغربي خاصة، وتضخيمها بشكل مقصود، للاستثمار بها ضد التسوية.
  • وأيضاً، هنالك عملٌ يجري ضمن أوساط ما يسمى مؤسسات المعارضة للإيحاء بأنها لا تزال فعالة، وخاصة تلك المرتبطة شكلياً بمسار جنيف (خاصة هيئة التفاوض)، لاستخدامها في إطار العمل ضد أستانا... وتلتحق بهذه المحاكاة بضعة أجسامٍ كان دورها التاريخي المستمر هو الالتحاق تحديداً بذلك الصنف من المعارضة المقاد غربياً، والمتقاطع في نهاية المطاف مع المتشددين في النظام الرافضين للحل السياسي وللتغيير.

التسوية ماضية قدماً

مشكلة الأمريكان ومعهم «الإسرائيلي»، هي أنّ كلّ هذه الاتجاهات التخريبية، تفتقر ليس فقط إلى الإبداع، ولكن تفتقر حتى إلى أساس واقعي يسمح لها بالتحول إلى وقائع مؤثرة؛ فمثلاً، إذا كان الحديث عن التسوية السورية التركية، تعترضه عقبات عديدة وليست أي منها سهلة الحل، فإنّها في المحصلة قابلة للحل ضمن إطار أستانا، كما بينت التجارب العديدة السابقة. بالمقابل، فإنّ ما يجري طرحه بخصوص توحيد الشمال الشرقي والشمال الغربي، يكاد يكون ضرباً من الجنون؛ فعن أي وحدة يجري الحديث؟ وحدة قسد مع النصرة مثلاً؟ أم وحدة قسد مع «الجيش الوطني» الذي -دع جانباً رأي قسد فيه- تسيطر عليه تركيا ولن تسمح له بالعمل ضدها بطبيعة الحال؟

وأما عن محاولة خلق مركز جديدٍ للمعارضة، أو محاولة إحياء أشكالٍ من المعارضة التي تنام على يد الأمريكان، فهذا ممكن بطبيعة الحال؛ يمكن للأمريكان أن يخلقوا ما يشاؤون ويجمعوا ما يشاؤون من أشكال المعارضة التي لن تختلف عن حال وشكل ذلك الصنف من المعارضة الإيرانية الذي ما يزال خارج إيران منذ عقود، وأغلب الظن أنه سيبقى خارجها لعقود أخرى. أما أنْ يكون للمعارضة التابعة لأمريكا وزنٌ في أي عملية سورية مستقبلية، فذلك أمرٌ آخر...

لن يكتمل استيعاب المتشددين للصدمة، ولجوهر التغيرات الجارية، قبل أن يدركوا أنّ ثلاثي أستانا قد حزم أمره نهائياً باتجاه المضي نحو تطبيق كامل للقرار 2254، عبر توافقٍ ضمني بين أطرافه، وعبر توافقات السوريين فيما بينهم، وعبر التفاهم مع كل من الصين ودولٍ عربية أساسية، يكفل التفاهم بينها جميعاً حل الأزمة دون اشتراك الأمريكان، ورغماً عنهم إنْ دعت الحاجة لذلك...

لا شك أنّ الصعوبات لن تكون هيّنة إطلاقاً، ولا شك أن هنالك ما لا يجوز الاستهانة به من تعقيدات، ولكنها صعوبات وتعقيدات قابلة للحل ضمن التوافقات والتفاهمات التي أشرنا إليها آنفاً، وربما في آجالٍ غير بعيدة...

(النسخة الانكليزية)

آخر تعديل على الإثنين, 23 كانون2/يناير 2023 12:41