هل هي حقاً قراءة «غيبية وطوباوية»؟!
أسامة دليقان أسامة دليقان

هل هي حقاً قراءة «غيبية وطوباوية»؟!

نشر في العدد السابق من قاسيون – 651 – الصادر بتاريخ 27 نيسان 2014 مادة للسيد «شاهر أحمد نصر» بعنوان: الغيبية والطوباوية في «مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية». وسأتناول بالنقاش في ما يلي بعض الملاحظات التي أبداها الكاتب في مقالته المذكورة.

حول المرجعية الفكرية

لا شكّ بأنّ جزءاً من النخب السياسية والثقافية «اليسارية» قد تطوّر فكرياً بالابتعاد والتخلي عن «الماركسية-اللينينية» كمرجعية في الفكر، وعن ما يوازي ذلك من تخلٍ عن قواعد مثل «الديمقراطية المركزية» في العمل التنظيمي والحزبي. إنّ هذا التطور الذي برز وتسارع بخاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بات اليوم مفهوماً ومفسراً بوضوح أكبر، عندما تتم قراءَته وفق المنهج الديالكتيكي المادي الذي ينسب الفكر والوعي الاجتماعي إلى الواقع الموضوعي الذي تغير فعلاً باتجاه آخر عالمياً اعتباراً من ستينيات القرن الماضي، عندما انقلبت الآية لتصبح الماركسية-اللينينية في فكر وتنظيم الطبقة العاملة على هامش الفكر «الخروتشوفي» والبرجوازي الصغير وضيق الأفق القومي الذي ساد في تلك الفترة من تقدم الإمبريالية الموازي لتراجع الحركة الثورية العالمية مروراً بالـ «بيريسترويكا» واستعادة الرأسمالية في الفضاء السوفييتي السابق وصولاً إلى الذروة بتفكك الاتحاد. الأمر الذي لا شك بأنّه - ونظراً لصعوبة تحليله وفهمه بعمق في خضم تلك الفترة - انعكس بمشاعر الهزيمة والضعف والميل إلى مراجعة حتى القيادات الحزبية لمرجعياتها الفكرية التقليدية، فكيف بالإنسان العادي «العصري المتحضّر»، ذي الوعي الاعتيادي، الخاضع للنمط الاستهلاكي الرأسمالي السائد، الذي يجب الاعتراف بتفوقه في أساليب الدعاية والحرب النفسية، ونبش أكثر الأفكار رجعية والمعتقدات غيبية وطوباوية، مما مر في تاريخ الفكر الإنساني، وإعادة إنتاجها كوجبات ثقافية سريعة سهلة الهضم من قبل النخب مثلما من قبل الإنسان العادي. 

 

حول القوى «الغيبية»

ما هي يا ترى تلك القوى «الغيبية» التي تسبب ظواهر ذكرها الكاتب مثل «ابتعاد السلطات الديمقراطية الليبرالية عن العدالة الاجتماعية»؟ ولماذا تنعدم الإمكانية الواقعية لوجود تلك اليوتوبيا الليبرالية التي يبحث عنها الكاتب ويعتقد بوجود «دورها الموضوعي في التطور الاجتماعي والاقتصادي»؟ لماذا لا يمكن لرأسها البرجوازي الكبير المستقر في دول المركز الإمبريالي والمكوّن من الطغمة المالية العالمية، أنْ يطلّ على بلداننا الطرفية - كعملاق من الأساطير الإغريقية - بوجهين أحدهما فقط متوحش، بينما الثاني ملائكي؟

لماذا لا تستطيع «طوباوية» مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية أن ترى في ليبرالية اليوم ما يراه الكاتب من «جانبها الوطني الضروري للتطور الاقتصادي والإمكانيات التي تتيح حماية المنتجين من الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية»؟

للإجابة لا بدّ من أن نتذكّر بأن عصر الرأسمالية الشابة والثورة البرجوازية التقدمية في أوروبا قد انتهى منذ قرون، عندما قوّضت الرأسمالية الصاعدة آنذاك النظام الإقطاعي، وجلبت النسخة الأولى من الليبرالية، بنهجها الاقتصادي في تحرير حركة الرأسمال وبناء الآلة الصناعية الحديثة وتطوير العلوم والتكنولوجيا والمواصلات وجميع أسس المدنية الحديثة، والتي كان لها بلا شك جانبها التقدمي آنذاك بسبب تطويرها لقوى الإنتاج وتكوينها لطبقة عاملة أصبحت أكثر تبلوراً واتساعاً وتنظيماً ووعياً أيضاً.. وما رافق ذلك على مستوى النشاط السياسي والحريات الديمقراطية والحقوقية القانونية التي تمحورت حول جانبين: حرية الرأسمالي بالاستثمار من جهة، وحرية العامل في بيع قوة عمله في السوق من جهة ثانية. 

لكن منذ مطلع القرن العشرين على الأقل، ونحن نعيش في عالم الرأسمالية الرجعية، الإمبريالية المتعفنة التي تعتاش على تدمير قوى الإنتاج في سبيل الاحتفاظ بطريقة توزيع الثروة التي بلغت مستوى غير مسبوق تاريخياً في ظلمها. وفي عصرنا هذا ولاسيما منذ سبعينيات القرن العشرين أصبح الشكل الوحيد الممكن من الليبرالية هو الشكل الليبرالي الجديد، والذي ازداد توحشاً بعد استفراده بعالم القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واستكمال إطباق قبضة الرأسمالية على الكرة الأرضية. 

ولأن الليبرالية هي بالجوهر سياق رأسمالي، فهي لا يمكن أن تعيش في دول الأطراف، وفي عصر العولمة، حيث تتبع بالضرورة إلى المركز الإمبريالي، إلا على شكل ليبرالية جديدة، تحددها مؤسسات الطغمة المالية العالمية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية)، فارضةً برامجها الشهيرة في إعادة الهيكلة، والتي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي - فتح البلاد نهباً لرؤوس الأموال الوافدة للاستثمار في أعلى المجالات ربحية وهي الريعية، والأقل إنتاجية وتنمية. بل وما يتطلبه ذلك من تعميق قمع حرية حركة الفقراء والطبقة العاملة وتنظيماتها النقابية وحتى برامج الدولة في الرعاية الاجتماعية، كآخر المكتسبات التاريخية القليلة المتبقية من عهد التوازن بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية. ولذلك لا يمكن عزل الجانب الاقتصادي من  الليبرالية اليوم عن جانبها السياسي، لأنّ شلّ وقمع وتفريق الحركات المطلبية والسياسية الشعبية والعمالية المقاومة لنزع مكتسباتها وتعميق فقرها هدف سياسي أساسي لدى الليبراليين الجدد لإنجاح نموذجهم الاقتصادي في تحقيق المستوى المطلوب من النهب، ومشكلة هذا النزوع بأنه موضوعي ومحكوم بقانون السعي نحو الربح الأعلى، والذي يقف وراء العملية التي وصفها مشروع البرنامج: «الأزمة الرأسمالية العظمى دفعت بدول المركز الإمبريالي إلى مزيد من العدوانية..»، ودفعت المركز الإمبريالي «بالتوازي مع ذلك وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خاصة، إلى تسريع إدخال حصان طروادة - الليبرالية المتوحشة إلى دول الأطراف (العالم الثالث) لينفس أزمته عبرها..»

وبالتالي من المستحيل تطبيق الليبرالية اليوم، مهما كانت النوايا خيرة، بحيث يتمّ لجم نزوعها الموضوعي نحو الوحشية والعدوانية. يطرح مشروع البرنامج بديلاً اقتصادياً أكثر واقعية للظرف السوري، وليكون عالي النمو وعميق العدالة، كان لا بد من أن يضبط دور الاستثمار الخاص عبر: «وضع خريطة استثمارية وتقديم التسهيلات للقطاع الخاص المنتج حصراً للمشاركة فيها».

وحول نقد الكاتب للحزب بأنه «لا يرى الأسباب الداخلية للأزمة بل يعزوها لأسباب خارجية وغيبية».. نذكّر بما ورد في مشروع البرنامج من توصيف هام للمرحلة التاريخية: «مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء مساعدات دول النفط بدأ التحول نحو الليبرالية الاقتصادية يقوده وهم البحث عن الاستثمارات الخارجية  وتضمّن عمليات واسعة من (إعادة الهيكلة) أوصلت الاقتصاد السوري إلى درجات عالية من تدني الإنتاج، وأوصلت البلاد إلى معدلات فقر وبطالة لم تصل إليها تاريخياً، ومهدت الأرضية الملائمة للأحداث التي تلت آذار 2011». 

هل الفقر والبطالة والفساد أسباب داخلية أم خارجية؟ أعتقد أنّ مشكلة الكاتب ليس في أنه لم يجد في مشروع البرنامج تحليلاً للأسباب الداخلية للأزمة، بل في نقطتين: الأولى هي في فصله الميكانيكي بين الأسباب الداخلية والخارجية، والثانية في أنه ربما يتوهم بأنّ «ابتعاد السلطات الديمقراطية الليبرالية عن العدالة الاجتماعية» كما قال في معرض حديثه عن معيقات «مشروع نهضوي عربي» هو تناقض حقيقي داخلي في المجتمع، وبالتالي يحتاج إلى حلّ، وهذا التفكير غير مستغرب ممن يؤمن بإمكانية تغيير ديمقراطي وطني وتقدمي حقيقي دون «معاداة الليبرالية بشكل عام» لأنها ليست كلها متوحشة! بل لها «جانبها الوطني الضروري للتطور الاقتصادي والإمكانيات التي تتيح حماية المنتجين من الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية»!

في  الوقت نفسه الذي يعتقد فيه بأن «موقف معادي للغرب» و«قطع العلاقات مع الغرب» هي استنتاجات غير موضوعية كما قال، لأنه على ما يبدو لا يعتبر أو لا يريد أن يعتبر دخول حصان طروادة - الليبرالي بشكل عام - إلى بلادنا، سبباً خارجياً ذا انعكاسات داخلية وممهداً راكم حطب الأزمة القابل للاشتعال. هذا ليس مستغرباً كثيراً، لأنّ اليد «الخفية» للسوق الرأسمالية لطالما كانت تعتبر «سبباً خارجياً غيبياً» ملغزاً وعصياً على الفهم قبل أن يأتي العلم الماركسي-اللينيني ليفسرها ويزيل عنها الغموض، ولهذا نفخر بأننا نتبنى «الماركسية-اللينينية» مرجعية فكرية.

 

لماذا نعادي الليبرالية بشكل عام؟

- حزب الإرادة الشعبية يعادي الليبرالية الجديدة لأنها طالما كانت أداة للأمريكان في العدوان على سورية بوصفها الجزء الداخلي من حل مركب بالنسبة لهم «تدمر وتفسد الجزء المدني من جهاز الدولة و ترفع درجات التوتر الاجتماعي»، وننوه هنا بأنّ الأجهزة الأمنية تدخل في مكونات ذلك الجزء المدني. كما ذكر مشروع البرنامج بأنّ استكمال هذا الحل المركب في شقه الخارجي هو «العدوان العسكري بدرجاته المختلفة والذي يسعى إلى تحطيم الجزء العسكري من جهاز الدولة» والذي هو مؤسسة الجيش العربي السوري حصراً في الحالة السورية.

- نحن نعادي الليبرالية الجديدة لأنها أداة لقوننة النهب من جانب البرجوازية الكبرى وقوى الفساد في سورية.

- ونحارب الليبرالية الجديدة على المستوى الفكري لأن الليبراليين يركزون على أوهام الحريات السياسية المعزولة عن جذرها الطبقي ويروّجون لها في حدود «التعددية» و«الديمقراطية» و«تداول السلطة» بين النّاهبين، كأداة سياسية لإعادة توزيع الثروة الاقتصادية بينهم على حساب المنهوبين، الأمر الذي لا يجلب أي تغيير حقيقي لأنه يغير من يقمع ويبقي القمع.

- ونعادي الليبرالية الجديدة أكثر بعد الأزمة لأنها تمثل الرؤية الاقتصادية المشتركة بين متشددي الطرفين وما يتفرع عنها من مشتركات عقيدة النهب، من المفهوم الليبرالي عن الديمقراطية بوصفها ديمقراطية توافقية، أي ما يسمى «ديمقراطية المكونات»، واستخدام العنف كأداة لكسر المقاومة الشعبية السلمية عندما تحاول الوقوف في وجه حرية رأس المال في الاستغلال.

- ونحن نعادي الليبرالية الجديدة لأن مشروعها «الديمقراطي» تفتيتي وعبر محابتهم للأغنياء واعتبارهم قاطرة النمو يسهل على الليبراليين في نهاية المطاف المساومة على الثوابت الوطنية فيدعونها «تمر» طالما أن تلك المساومة تدعهم «يعملون» ويربحون.