الأصوات الغربية للتفاوض مع روسيا تعلو بالتدريج
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

الأصوات الغربية للتفاوض مع روسيا تعلو بالتدريج

تزايدت مؤخراً الأصوات التي تتحدث عن إمكانية تفاوض مع روسيا بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا. فالأمر لم يعد يقتصر على عدد من المظاهرات الشعبية في الدول الأوروبية التي تم خلالها بالفعل رفع شعارات وهتافات ضدّ واشنطن وحلف الناتو، والدعوة إلى السلام والتفاوض، والتوقف عن ضخ الأسلحة والأموال لأوكرانيا، بل بدأ ساسة أوروبيون يتحدثون عن التفاوض ولو أنّ خطابهم بهذا الشأن ما زال ملتبساً وخجولاً أو بالأدق «خائفاً» من بطش صانعي القرار الفاشي بمواصلة الحرب، والمتمركزين بشكل رئيسي في البيت الأبيض والبنتاغون، وتتفاوت قدرة الفاشيين على قمع المطالبات بالتفاوض بين داخل الولايات المتحدة وخارجها، حيث سحب نحو 30 عضواً بالكونغرس رسالتهم بهذا الشأن (وبغض النظر عن مدى جدّيتهم أساساً) ولكن يرجّح أن سحبها جاء بضغوط فاشية بالدرجة الأولى. ومع ذلك تضعف القدرة على قمع دعاة التفاوض مع الهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية للحلف الذي يريد محاربة روسيا «حتى آخر أوكراني».

أعاد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس يوم الإثنين 7 تشرين الثاني الجاري التذكير بموقف واشنطن المتمسك بأنه «لا شيء بخصوص أوكرانيا من دون أوكرانيا»، وقد أصبحت هذه العبارة بمثابة «كلمة سر» لأنها تكررت أيضاً على لسان مسؤولين أوروبيين، ويبدو أنّ فك شيفرتها يعني في نهاية المطاف: لا تفاوض مع روسيا دون إذن واشنطن، لأنّ نظام زيلنسكي بحكم الأمر الواقع «دمية» ليس بيد واشنطن فقط بل تحديداً بيد قيادة المعسكر الفاشي في واشنطن.

وقال نيد برايس إنّ الولايات المتحدة تحافظ على الحوار مع روسيا في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكنها «تتجنب مناقشة ملامح التسوية الأوكرانية». وأضاف: «هناك فرص كثيرة لإيصال رسائل ذات أهمية ثنائية لروسيا، وأؤكد على كلمة «ثنائية» هنا لأننا لا نبحث مع روسيا ملامح السلام في أوكرانيا». والمقصود بحسب برايس أمور «ثنائية» لا تتعلق مباشرة بأوكرانيا مثل «تبادل السجناء، وسير عمل البعثات الدبلوماسية، والأسلحة النووية».

على مستوى فرنسا وألمانيا، ورغم تدنّي مستوى قادتهما الحاليين ومستوى تبعيّتهم لواشنطن، لكن يبدو أنّ تمادي القبضة الحديدية الأمريكية في الضغط على العنق الأوروبي وخنقه اقتصادياً وإجباره على قطع شرايينه انتحارياً بالمعنى الحرفي للكلمة (لأنّ الغاز والطاقة من روسيا تبيّن أنها بالفعل شريان حياة أوروبا) – هذه القبضة الأمريكية الخانقة والاستغلال السافر لأوروبا، كما تجلى بأوضح صورة مثلاً ببيعها الغاز المسال الأمريكي للأوروبيين بأضعاف سعره داخل أمريكا، دفعت حتى قيادات أوروبية «على عِلّاتها» مثل ماكرون وشولتس إلى إبداء صراخ الألم على الأقل وبدء الحديث عن احتمال ردود تجارية على واشنطن إذا لم نرد حالياً المبالغة بالتكهن أنها ستصل إلى حد «حرب تجارية». كذلك يأتي المؤشر بهذا الاتجاه من زيارة شولتس مؤخراً إلى الصين.

وخلال مؤتمر صحفي على هامش مؤتمر المناخ الدولي في شرم الشيخ، يوم الإثنين، 7 تشرين الثاني الجاري صرّح ماكرون قائلاً: «نريد العودة إلى السلام»، لكنه يتابع قائلاً «وهذا شأن أوكرانيا أن تحدد الشروط والتوقيت عندما ستريد العودة إلى طاولة المفاوضات». وأضاف: «ولكن في لحظة معينة سيكون من الضروري القيام بذلك. والآن من السابق لأوانه الحديث عن أي شروط حادّة، لكنني على قناعة بأنه في لحظة ما سيكون من الضرورة العودة إلى المفاوضات». مع ذلك ربما يمكن أن يُفهَم من كلامه – إذا افترضنا أنه يريد أن يتوخّى شيئاً من الواقعية – تحذيرٌ ضمنيّ مفاده أنه إذا لم يتم الذهاب إلى التفاوض مع روسيا في وقت مناسب سنضطر إلى الذهاب إليه غداً «بشروط حادّة» أو بتنازلات أكبر.

وكان من الملاحظ منذ أواسط الشهر الماضي بأنّ «العديد من دول عدم الانحياز، التي سئمت القتال، تدعو إلى وقف إطلاق النار والتفاوض» (في أوكرانيا)، وفق ما أقرت بذلك صحيفة لوموند الفرنسية، ناقلةً تصريحات ماكرون في 12 تشرين الأول عبر قناة فرنسا2 التلفزيونية، التي أكد فيها «دعم فرنسا لأوكرانيا»، ولكن «في مرحلة ما، سيكون من مصلحة كل من أوكرانيا وروسيا التفاوض» ومع ذلك اشترط أنْ يكون الحوار «عندما ترى كييف ذلك مناسباً» قائلاً بأنه «ليس لنا أنْ نقرر نيابة عن أوكرانيا ولن نقبل مثل هذه المطالب من حلفائنا».

وفي ألمانيا، التي تستحق تلقيبها بالكبش الأوروبي الأكبر الذي تعمل واشنطن على ذبحه وشوائه على النار الأوكرانية، يبدو أنّ أصوات الدعوة للتفاوض مع روسيا تتصاعد حتى من داخل حزب المستشار الألماني أولاف شولتس، حيث أثار زعيم التجمع الديمقراطي-الاشتراكي رولف موتزينيتش ضجة عندما أشار في مقابلة إلى استطلاعات الرأي التي أظهرت أن العديد من الألمان يرغبون في رؤية دبلوماسية تهدف إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، حتى اضطر شولتس إلى الرد على سؤال حول هذه الدعوات محاولاً إبراز «الوحدة» وإخفاء أكبر ما يمكن من واقع الانقسام، فقال بأنّ «جميع الفاعلين السياسيين في ألمانيا وكل من في الحكومة مجمعون على ضرورة الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا».

أما الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي، فعندما يُطلب منه على ما يبدو أن يخفف من خطابه الفاشي قليلاً، تخرج منه عبارات مثل قوله الإثنين في 7 من تشرين الثاني الجاري: «إنّ من الضروري إجبار روسيا على المشاركة في مفاوضات سلام حقيقية»، علماً بأنه أعلن في وقت سابق عن رفضه التفاوض مع روسيا ما دام فلاديمير بوتين رئيساً لها، ووقّع مرسوماً بهذا الصدد. لكن بالنسبة للنظام الأوكراني الحالي كلّ شيء قابل للتغيير عندما يقرّر أصحاب القرار في واشنطن ذلك، بما في ذلك تغيير زيلنسكي نفسه عندما تجبر تطوّرات الأمور واشنطن ومعسكرها الغربي على القبول بواقع أنّ خسائرهم ستكون بالتفاوض أقلّ مما ستكون بمواصلة إلقاء أسلحتهم وأموالهم وما تبقى من هيبتهم في «الثقب الأسود» الأوكراني.