«حديقتهم» و«غابتنا»؟! من كولومبوس وتشرشل إلى بوريل

«حديقتهم» و«غابتنا»؟! من كولومبوس وتشرشل إلى بوريل

أثناء خدمته العسكرية في أفغانستان صرّح وينستون تشرشل بأن «كلّ المقاومين ينبغي قتلهم بلا رحمة... لأنّ الباشتون عليهم أن يعترفوا بتفوّق عِرقِنا... أيّ فرد من القبائل يتمّ القبض عليه كان يتمّ طعنه بالرمح أو تقطيعه مباشرةً». وفي وثيقة مؤرخة في 12 أيار 1919 كتب تشرشل: «أنا أشجع وبقوّة على استخدام الغاز السامّ ضد القبائل غير المتحضّرة، سيكون التأثير المعنوي جيداً جداً». وكان ذلك استمراراً للعقلية والممارسات نفسها التي وثّقها ماركس عندما كتب في «رأس المال» عن إبادة الهنود الحمر التي شرعنها المستعمر الأوروبي برلمانياً بسلسلة قوانين منذ 1703 حتى 1744، تكافئ من ينكّل بهم، ومنها: «مقابل كل جلدة رأس ذكر عمره 12 سنة أو أكثر 100 جنيه إسترليني... مقابل أسير ذكر 105 جنيهات، مقابل أسيرة أنثى أو طفل 55 جنيهاً. لقاء جلدة رأس امرأة أو طفل 50 جنيهاً». هذا غيض من فيض ممارسات أوروبا الاستعمارية التي يسمّيها بوريل اليوم «حديقة» وباقي العالَم «غابة»، وغنيّ عن الذكر بالطبع هتلر وموسوليني وفرانكو وغيرهم من «الورود» التي نمت في هذه «الحديقة».

في مدينة بروج Bruges البلجيكية، وبتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر الجاري (2022)، ألقى جوزيب بوريل كلمة افتتاحية بمناسبة افتتاح البرنامج التجريبي لـ«الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية»، التي هي مؤسسة لإعداد الدبلوماسيين تابعة للاتحاد الأوروبي. وخلال الكلمة كان بوريل يخاطب الطلاب الدبلوماسيين وكذلك فيديريكا موغيريني، التي شغلت المنصب نفسه قبل بوريل، بين 2014 و2019.

أوروبا، التي يصفها بوريل في حديثه بأنها «منارة» و«حديقة» وباقي العالم «غابة»، هي أوروبا التي كانت مسؤولة عن أسوأ الغزوات الاستعمارية في التاريخ، لنحو 500 سنة، فالقوى الاستعمارية الأوروبية غزت كلّ بقاع العالم تقريباً، بالشكل القديم من الاستعمار وكذلك بأشكاله الحديثة من النهب الاقتصادي والتدخلات السياسية والعسكرية، مرتكبة أبشع المجازر والتطهير العرقي والاستعباد، ونهب ثروات الشعوب، اعتباراً من أوائل الأوروبيين الواصلين إلى أمريكا عندما أبادوا الهنود الحمر، وليس انتهاءً بالمشاركة في غزو العراق وأفغانستان وليبيا وبالاعتداءات على سورية. ألم يكن بلفور الذي وعد الصهاينة بمنحهم فلسطين ليغتصبوها أوروبياً؟ بوريل يتفّوه بفخره الاستعماري والعنصري المقيت في وقت ما زال التراب يكافح على مضض للتخلص من عظام إليزابيث الثانية، الملكة المزمنة للمؤسسة الاستعمارية البريطانية والأوروبية، وفي وقت يتبع فيه بوريل وفون ديرلاين وشولتس، وكذلك سبق لماكرون أن أثار غضب الشعب الجزائري بتصريحات استعمارية وعنصرية، وغيرهم من موظّفي المؤسسة الاستعمارية الحديثة الأنغلو-ساكسونية المرتبطة بواشنطن، وهؤلاء ليسوا أفضل تجاه شعوبهم بالذات، فقد فرضوا تقشفاً لا داعي له على شعوبهم (إرضاءً لعقوبات قطع شريان الطاقة الروسي عن أوروبا)، فضلاً عن مواصلة نهب وتجويع شعوب «العالم الثالث» بالتعاون مع الفاسدين فيها، ولا سيما عبر قروض التبعية الاقتصادية واشتراط هدم الإنتاج الداخلي للبلدان المنخرطة في ما روّجوه وفرضوه من نهج ليبرالي جديد، وصولاً للعقوبات والدعم الخفي والعلني للإرهابيين والفاشيين والنازيين الجدد من داعش والنصرة في سورية إلى آزوف في أوكرانيا. 

كلمات بوريل في سياقها

أكثر المقاطع التي أبرزت على لسان بوريل، ليس فقط عنصريّة قادة الاتحاد الأوروبي، بل وكذلك عقليّتهم الاستعمارية، هي التالية:

«أنا متأكد من أنكم تدركون كم أنتم محظوظون» (مخاطباً طلاب الدبلوماسية) «هنا، بروج Bruges هي مثال جيد للحديقة الأوروبية. نعم، أوروبا حديقة. لقد بنينا حديقة. كل شيء يعمل. إنه أفضل مزيج من الحرية السياسية والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي الذي تمكنت البشرية من بنائه - الأشياء الثلاثة معاً. وهنا، ربما تمثل بروج تمثيلاً جيداً الأشياء الجميلة والحياة الفكرية والرفاهية. أما بقية العالم – وأنتِ تعرفين هذا جيداً، يا فيديريكا [موغيريني] – فليسوا بالضبط حديقة. معظم بقية العالم عبارة عن غابة، ويمكن للغابة أن تغزو الحديقة. يجب أنْ يعتني البستانيون بالحديقة، لكنهم لن يحموها ببناء الجدران. إنّ وجود حديقة صغيرة لطيفة محاطة بجدران عالية لمنع الغابة من الدخول لن يكون حلاً، لأنّ الغابة لديها قدرة نموّ قوية، ولن يكون الجدار عالياً بما يكفي لحماية الحديقة. يجب أن يذهب البستانيون إلى الغابة. يجب أن يكون الأوروبيون أكثر انخراطاً مع بقية العالم. وإلا فإن بقية العالم ستغزونا بطرق ووسائل مختلفة».

ثم يتابع بوريل في عنصريّة فجّة: «نحن شعب متميّز. لقد بنينا مزيجاً من هذه الأشياء الثلاثة - الحرية السياسية والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي - ولا يمكننا التظاهر بالبقاء كاستثناء... هناك فرق كبير بين أوروبا وبقية العالم - حسناً، بقية العالم، فهمتم ما أعنيه، أليس كذلك؟».

بعد ذلك يتكلم بوريل بطريقة غريبة حقاً في مدى انفصالها عن الواقع و«مثاليتها»، التي تمثّلت بالتحديد في ادّعائه بأنّ أساس «التطوّر» لا يكمن في الاقتصاد بل في «المؤسسات» وكأنّ المؤسسات قلاع مبنية في الهواء! وكأنه يكرّر تلك الحجج نفسها التي طالما ادّعى بها القوميّون المتطرّفون والفاشيّون والعنصريّون لتبرير القول بأنّهم «استثنائيون» وعِرقٌ متفوّق على باقي البشرية، فلنستمع ماذا قال بوريل:

«إنّ أهم شيء لجودة حياة الناس هي المؤسسات. الفارق الكبير بين المتطوّر وغير المتطوّر ليس الاقتصاد، بل المؤسسات. هنا، لدينا قضاء - قضاء محايد ومستقل. هنا، لدينا أنظمة لتوزيع الإيرادات. هنا لدينا انتخابات توفر حرية للمواطنين. هنا، لدينا الأضواء الحمراء التي تتحكم في حركة المرور، ولدينا أناس يزيلون القمامة. لدينا هذه الأنواع من الأشياء التي تجعل الحياة سهلة وآمنة».

في الحقيقة، العبارة التي تتحدث عن «القمامة» تحديداً، تثير نوعاً من الابتسام لمن يتذكّر ماذا حلّ مثلاً، في عاصمة اسكتلندة منذ أشهر قليلة، عندما ملأت القمامة شوارع إدنبرة (في آب من العام الجاري)، وصارت مرتعاً لتكاثر الجرذان والروائح الكريهة، في مشهد اعترف فيه مسؤولون اسكتلنديون وأوروبيون آنذاك بأنه يهدّد صورة أوروبا عالمياً. وفي الحقيقة تراكمت القمامة هناك بالذات بسبب وجود «المؤسسات» التي يتفاخر بها بوريل؛ مؤسسات السلطات الأوروبية التي تنزلق أكثر فأكثر لسياسات حمقاء وقصيرة النظر في نهجها الاقتصادي-السياسي ومحاباتها لرأس المال على حساب العمّال الذين اضطروا للإضراب (ومنهم عمال النظافة) دفاعاً عن حقوقهم.

يتجاهل بوريل كلّ الأزمات التي تتراكم وتشكل فضائح متعاقبة لأوروبا، ويتابع: «الفارق الكبير بيننا وبين جزء مهم من بقية العالم هو أن لدينا مؤسسات. وعلينا أن نعمل [على] المؤسسة، لبناء المؤسسات. أرغب بشدة في إنهاء ولايتي من خلال بناء المؤسسات...».

ومع ذلك جاء في حديث بوريل أيضاً ما يكشف نوعاً من الاعتراف الملطّف بالتهديدات المتزايدة «للوحدة الأوروبية» بفعل تناقضاتها الداخلية بالذات، والتفاوت الظالم للنمو بين أعضائها، لذلك نلمس توجّس بوريل من «المواجهة» بين أعضاء الاتحاد، وحتى أنه يستذكر على ما يبدو الحروب الأوروبية الداخلية من قرون سالفة، ولكنه بالطبع كخادم للبرجوازية الكبيرة، يركز في خطابه فقط على الظاهر القومي للتناقضات (في اعتراف ضمني بأزمة هوية أوروبية في الحقيقة) ومتستراً على الأساس الطبقي لهذه التناقضات:

«أقول الشيء نفسه دائماً: أنا كتالوني، أنا إسباني، أنا أوروبي. لا تناقض بين هذه الأشياء الثلاثة... التجربة الأوروبية تدور حول ذلك: إنها تكامل الهويات المختلفة من أجل جعل العيش معاً ممكناً، وليس بطريقة المواجهة... كان تاريخ أوروبا مواجهة الهويات؛ الكاثوليك ضد البروتستانت، الفرنسيون ضد الألمان، الألمان ضد الفرنسيين... لقد تمكنا من التغلب على معركة الهوية هذه. اليوم، أن تكون فرنسياً أو ألمانياً ليس شيئاً يضع المرء ضد الآخر».

ويتابع بوريل مسعاه لحرف البوصلة عن البعبع الذي يؤرّقه ألا وهو «الاقتصاد»:

«الهوية هي اليوم ساحة المعركة الحقيقية، تعود الهوية كمسألة قوية. تذكرون ما قاله أحدهم: «إنه الاقتصاد، يا غبي»؟ أما اليوم «فإنها الهوية أيها الغبي». اليوم الهوية هي ما يهم. يمكن التلاعب بالهوية، ويمكن تقديمها على أنها شيء مغلق: «هويتي غير متوافقة مع هويتك. إما أنت أو أنا». هذه الـ«إما أنت أو أنا» تؤدي إلى الحرب. جمال التجربة الأوروبية هو «أنا وأنت»، حيث تغلّبت على تراث الماضي وتقدم للعالم وصفة التعايش السلمي والتعاون والتكامل والتنمية، وستكون محركاً واحداً لبناء الهوية متعدد الطبقات».

ثم يصف بوريل أوروبا بأنها «منارة»: «صدقوني، أوروبا هي مثال جيد لأشياء كثيرة. العالَم بحاجة إلى أوروبا. تجربتي في السفر حول العالم هي أنّ الناس ينظرون إلينا كمنارة. لماذا [يأتي] الكثير من الناس إلى أوروبا؟ هل هناك تدفقات من المهاجرين غير الشرعيين أو غير النظاميين المتجهة إلى روسيا؟ ليس كثيراً. لا، إنهم يأتون إلى أوروبا ولكن لأسباب وجيهة».

ما لا يكمله بوريل هنا هو شرح «الأسباب الوجيهة»: التخريب والنهب الاستعماري الأنغلو-ساكسوني والأوروبي-الأمريكي المزمن، للعالَم الآخر الذي يسمّيه «غابة»، والرعاية الأوروبية العلنية والخفية للمتعاونين الفاسدين مع الغرب في بلدان العالَم الثالث، ساهمت بالطبع في خلق الأزمات الاقتصادية والمعيشية والحروب وبالتالي موجات التهجير. و«الحديقة» الأوروبية لطالما حاولت اختيار أفضل «الورود» من عقول ومهارات وأيادٍ عاملة لم تساهم في زراعتها أبداً.

ويختم بوريل بتكرار الحديث عن «الحديقة» و«الغابة»، مؤكداً على رسالته الاستعمارية والعنصرية الأساسية المتعمّدة التي تشكّل جوهر خطابه كلّه، فيخاطب دبلوماسيّي أوروبا المستقبليين: «حافظوا على الحديقة، كونوا بستانيّين جيدين. لكن واجبكم لن يكون أن تعتنوا بالحديقة نفسها بل بالأدغال بالخارج».