رقم التضخم الحقيقي الوحيد هو الاحتجاجات في الشارع... الحالية والقادمة
أبسط فهم لأرقام التضخم المعلنة في أوروبا، أنها مطابقةٌ لارتفاع الأسعار فيها، وهذا الفهم خاطئٌ تماماً... ارتفاع الأسعار هو دائماً أعلى بكثير من أرقام التضخم المعلنة.
وربما يكون الفهم الخاطئ القائل بتطابق ارتفاع الأسعار مع رقم التضخم، هو أحد أهم الأسباب التي تصيب الكثيرين بالحيرة وهم يشاهدون حجم الغضب الشعبي الأوروبي وحجم الاحتجاجات التي تتسع بشكل مستمر. وتبدأ بالتولد تفسيرات جزئية وغير دقيقة تعزو كامل الغضب الشعبي الأوروبي إلى أنّ «حساسية» الشعوب في أوروبا اتجاه تغيّر مستوى معيشتها هي أعلى من حساسية شعوبنا اتجاه تغييرات مماثلة (وهذا أمرٌ صحيح جزئياً)، خاصة وأنّ ارتفاع الأسعار بمعدل 10% سنوياً يكاد يكون أمراً معتاداً خلال الخمسين سنة الماضية بالنسبة لشعوب العالم الثالث.
جوهر مسألة التضخم
قبل الحديث عن تفاصيل التضخم الراهن في أوروبا، والذي سنتحدث ضمنه عن ثلاثة عناصر نعتقد أنها ضرورية لفهمه، ربما من الضروري تقديم تكثيف مختصر حول جوهر مسألة التضخم، خاصةً وأنّ المدارس الاقتصادية السائدة في الإعلام وفي الأكاديميات حول العالم، تتعامل مع التضخم بوصفه جزءاً «طبيعياً» من العملية الاقتصادية، شأنه شأن العواصف والأعاصير والبراكين...
التضخم في جوهره هو تعبير عن عدم التناسب بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية، حيث تكون الكتلة النقدية فائضة عن الضرورة، وعلى أساس ذلك فإنّ القيمة الشرائية للنقود تنخفض، أو بتعبير آخر: ترتفع الأسعار.
ولكن ما لا تقوله المدارس الاقتصادية الرأسمالية، هو أنّ أصل هذه المشكلة يكمن في أولئك المسؤولين عن طباعة النقود، حكوماتٍ وبنوك مركزية، والذين يقومون بحسابات خاطئة بشكلٍ متعمد، تسمح لهم بطباعة كم من النقود أكبر مما تحتاجه العملية الاقتصادية.
الحساب الخاطئ هذا يتمحور في طريقة حساب الناتج الإجمالي المحلي، وتالياً حسابات الموازنة. حيث يتم تضخيم رقم الناتج عبر إدخال حسابات مكررة، وخاصة في القطاعات المالية والخدمية، بحيث تبدو الكتلة السلعية أكبر مما هي في الواقع، ما يسمح بطباعة نقودٍ أكثر من الضروري للعملية الاقتصادية... ولكن لماذا؟
ببساطة، لأنّ التضخم يعني أنّ أصحاب الأجور الذين لا تزيد أجورهم بنفس نسبة زيادة التضخم، سيستهلكون أقل من السابق بكمية النقود نفسها، بينما أصحاب الأرباح سيراكمون أرباحاً أكبر على أساس نفس الكمية من الإنتاج. وبكلمة، فإنّ التضخم هو ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء، هو طريقة ثانوية لتوزيع الدخل من جيوب أصحاب الأجور باتجاه جيوب أصحاب الأرباح.
ويصبح مفهوماً عندها أنّ عملية النهب هذه لا تقف عند حدود خلق التضخم، بل وتتعمق بزيادة ذلك التضخم بشكل مستمر، وخاصة زيادة التضخم الحقيقي وليس فقط المعلن... والفرق بين الحقيقي والمعلن يتحول إلى أداة إضافية في النهب، هي ما سنمر عليه ضمن العناصر الثلاثة التالية، بما يخص التضخم الراهن في أوروبا:
1- السياق التاريخي لـ«السقوط من الجنة»
2- رقم التضخم المعلن وأرقام التضخم الحقيقية
3- رقم التضخم السنوي ورقم التضخم التراكمي والأجور
أولاً: السياق التاريخي لـ«السقوط من الجنة»
لا شك أنّ الشعوب الأوربية قد عاشت منذ ستينيات القرن الماضي وحتى ما قبل 10 إلى 20 عاماً، قدراً من الرفاهية هو الأعلى عالمياً. ويمكن القول إنّ بين أهم أسباب هذه الرفاهية ما يلي:
1- ارتفاع الإنتاجية والتطور التكنولوجي.
2- الثروات المتراكمة من الاستعمار القديم لدول العالم الثالث (مثلاً، تقدر دراسة بريطانية أن حجم النهب الاستعماري الذي مارسته الإمبراطورية البريطانية على الهند وحدها، يتجاوز ما قيمته 45 ترليون دولار، ويمكن إيجاد أرقام فلكية أخرى بالنسبة للنهب الفرنسي والبرتغالي والإسباني والهولندي وإلخ).
3- عمليات النهب المستمرة حتى الآن (رغم أنها بدأت بالتراجع جدياً) بآليات الاستعمار الحديث الاقتصادية (القروض، مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية، التبادل اللامتكافئ).
4- ضرورات التنافس مع النموذج السوفياتي خلال القرن الماضي (يمكن ببحث بسيط على الانترنت معرفة أنّ إقرار يوم عمل من 8 ساعات قد حدث في روسيا عام 1917 مع انتصار ثورة أكتوبر قبل أعوامٍ طويلة من إقراره في أوروبا، كذلك الأمر مع حق المرأة في الانتخاب والترشح، وحقوق الطبابة والتعليم وإلخ).
هذه الأسباب مجتمعة، منحت الشعوب الأوروبية هامشاً من الرفاه ولمدة محدودة زمنياً. ولتوصيف هذه المحدودية الزمنية ربما من الموحي أن ينظر المرء إلى رمزين تاريخيين لما قبل وما بعد هذا الرفاه؛ هذان الرمزان كلاهما مرتبطان بعمال المناجم، والذين شكلوا طوال القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن العشرين، القسم الأكثر ثورية ضمن الطبقة العاملة. الرمزان المقصودان هما رواية جورج أورويل «الطريق إلى ويغان» المنشورة عام 1936 والتي تكشف حجم البؤس الهائل في حياة الشعب البريطاني وخاصة عمال المناجم في تلك الحقبة، وإضرابات عمال المناجم 1984-1985 التي طحنتها مارغريت تاتشر بالحديد والنار. وكان سحق هذه الإضرابات هو شارة البدء في أوروبا كلها في بداية التراجع عن كلّ المكتسبات المؤقتة التي منحتها البرجوازية للعمال الأوروبيين ضمن مرحلة التنافس مع السوفييت، ومن حينها وحتى اللحظة ومكاسب العمال في أوروبا في تراجع مستمر.
ما يعزز عملية انتزاع مكتسبات العمال هذه الأيام، هو ليس فقط أنّ النموذج المنافس قد اختفى، بل وأيضاً أنّ عمليات النهب الاقتصادي الاستعماري على أساس التبادل اللامتكافئ بدأت بالتقوض بسرعة كبيرة. على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ أحد العوامل الأساسية في الرخاء الأوروبي خلال العقود الماضية، وباعتراف الأوروبيين أنفسهم، هو الطاقة الرخيصة، ومن روسيا خاصة. وأنْ تكون الطاقة رخيصة والمواد المصنعة غالية، هو أحد أهم أدوات الاستعمار الاقتصادي. وبغض النظر عن الحيثيات التي تؤدي اليوم إلى ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، فإنها في الجوهر تعبر عن بداية تعديلٍ عالمي وتاريخي لهذا الاختلال.
ثانياً: رقم التضخم المعلن وأرقام التضخم الحقيقية
إذا تركنا جانباً مختلف أنواع الألاعيب التي تمارسها الحكومات في طرائق حساب التضخم، وتوقفنا فقط عند المؤشر المعروف بـCPI أو مؤشر أسعار المستهلك، وافترضنا أن الدول تستند إليه فعلاً في حساب التضخم، فسنجد أنّ المشكلة تكمن في طريقة تكوين سلة الاستهلاك المعتمدة في حساب هذا المؤشر، وطريقة تغيرها السريع مع تغير الأسعار.
فمثلاً يمكن للغذاء في مراحل الرخاء النسبي أن يستهلك 12% من إجمالي استهلاك الأسرة الشهري، ولكن في حالات الأزمات وارتفاع الأسعار، نجد أنّ أسعار الغذاء ترتفع دائماً بنسب أعلى بكثير من التضخم المعلن، (في ألمانيا مثلاً بينما رقم التضخم المعلن هو 10% فإنّ ارتفاع أسعار الغذاء الوسطي هو أكثر من 17%).
وإذا ركبنا المسألتين معاً، أي أنّ الأسرة ستضطر إلى استهلاك أكثر من 12% المعتادة من دخلها على الغذاء، وأنّ أسعار الغذاء ترتفع بنسبة أعلى من التضخم، فإنّ سلة الاستهلاك ككل، ستتغير بشكل جذري.
بعبارات أخرى، فإنّ أرقام التضخم المعلنة، هي أرقام وسطية، تعطي وزناً نسبياً ثابتاً لجوانب الاستهلاك المختلفة بغض النظر عن اختلاف التناسبات في أوقات الأزمات، حيث يصبح ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات والغذاء والخدمات الأكثر أساسية هو ما يستهلك كامل دخل الأفراد. أي أنّ ارتفاع أسعار السلع الكمالية يساهم زوراً في تخفيض رقم التضخم الوسطي، لأنّ هذا الارتفاع في مراحل الأزمات يكون أقل بكثير من ارتفاع أسعار الأساسيات، وذلك أساساً لأنّ الطلب عليها ينخفض بشكل مطرد ضمن الأزمات.
بكلامٍ أوضح، فإنّه في حين يمكن أن يكون رقم التضخم المعلن هو 10% مثلاً، فإنّ الارتفاع الفعلي لتكاليف معيشة الأسرة يمكن ببساطة أن يتجاوز 40% أو 50%.
ثالثاً: رقم التضخم السنوي ورقم التضخم التراكمي والأجور
عادةً ما تعبر أرقام التضخم المعلنة (ورغم تلطيفها لواقع الأسعار وتكاليف المعيشة كما أشرنا آنفاً) عن التضخم الحاصل من سنة إلى سنة. ولكن نادراً ما تطالعنا الحكومات بأرقام التضخم التراكمي، أي عبر عدة سنوات. فإذا كانت أرقام التضخم في دولة من الدول لأربع سنوات متتالية هي على التتالي: 3%، 5%، 7%، 10%، فإنّ رقم التضخم التراكمي عبر أربع سنوات لن يكون جمعاً حسابياً لأرقام التضخم السنوية، بل جمعاً تركيبياً، وفي هذا المثال سيكون الناتج هو 27.3%. فإذا أغفلنا ما قلناه في الفقرة السابقة، وافترضنا أنّ هذا الرقم التركيبي يعبر فعلاً عن ارتفاع تكاليف المعيشة، فالسؤال هو هل ارتفعت الأجور بالمقدار نفسه لتغطية ارتفاع تكاليف المعيشة؟ والجواب هو قطعاً: لا. ما يعني أنّ عملية تآكل قدرة الأجور على تغطية تكاليف المعيشة هي عملية تراكمية وتتراكم في أوروبا منذ الثمانينيات عملياً، لأنّ أرقام التضخم كانت دائماً أعلى من نسبة ارتفاع الأجور.
خلاصة:
كل الأرقام الرسمية المعلنة حول التضخم وحول مؤشر أسعار المستهلك والمنتج، وعدا عن كونها أرقاماً عاجزة عن التعبير عن واقع الأمور وعدا عن كونها أرقاماً تخضع للألعاب المحاسبية المعروفة وغير المعروفة، فإنها مجرد أرقامٍ تأشيرية عن وقائع الأمور وعن تغيرات الواقع... فرقم التضخم الحقيقي هو احتجاجات الشارع الأوروبي