هل انتهت «العملية العسكرية الخاصة»؟

هل انتهت «العملية العسكرية الخاصة»؟

تمسّكت السلطات الروسية حتى اللحظة باستخدام تعبير «عملية عسكرية خاصة» لوصف المعركة الدائرة في أوكرانيا منذ 24 شباط من هذا العام؛ المعركة التي لم يكن من الصعب منذ ساعاتها الأولى أن يفهم المرء أنها جزءٌ من حربٍ شاملة مع الغرب والناتو ومع منظومة القطب الواحد، ولا تشكل أوكرانيا ضمنها سوى ساحة بين ساحات عديدة، أكبر وأوسع.

لماذا «عملية خاصة»؟

يبدو أننا على عتبة انتهاء «العملية العسكرية الخاصة»، أي على عتبة تحولها إلى حرب. هذا ما سنناقشه تالياً، ولكن قبل ذلك لا بد من الوقوف برهةً عند ما تتضمنه تسمية المعركة بـ«عملية خاصة» من معاني ودلالات، لأنّ هذه المعاني نفسها ستسمح بفهم المقصود من انتهاء تلك العملية وانتقالها لما هو أعلى وأضخم...

فيما نظن، ووفقاً للوقائع المتعددة الجوانب التي عايشها العالم خلال الأشهر الستة الماضية، فإنّ معنى «العملية العسكرية الخاصة» ينحصر في النقاط التالية:

 

أولاً: تعداد القوى البشرية المسلّحة الروسية المشاركة في «العملية» هو تعدادٌ محدود (لا يتجاوز حتى الآن 15% من إجمالي القوى العسكرية العاملة)، وكذلك الأمر مع صنوف الأسلحة المستخدمة (الصواريخ الأكثر تطوراً لم تُستخدم فعلياً، وما استخدم منها تم استخدامه لمرة واحدة بشكلٍ رمزي له أهدافه السياسية أكثر مما هي العسكرية، وحتى على مستوى الدبابات مثلاً، فإنّ الدبابات الأحدث لم تستخدم حتى اللحظة وخاصة الصنوف المتطورة من الدبابة أرماتا... وهنالك أمثلة عديدة في الإطار نفسه).

 

ثانياً: طبيعة العقيدة القتالية -بما في ذلك طبيعة الأهداف- يتم اشتقاقها من المهام الملموسة الموضوعة للعملية ضمن النطاق الأوكراني؛ وبشكل خاص افتكاك إقليم دونباس (دونيتسك ولوغانسك)، من سيطرة النظام الأوكرونازي، وإبعاد الخطر المؤكد القادم من الناتو عبر الحدود الأوكرانية. ووفقاً لهذه المهام بات مفهوماً الاجتياح السريع الذي جرى خلال الشهر الأول والذي عقبه تراجع سريع، (يجمع المحللون العسكريون الغربيون الآن أنّ التوغل والتراجع في بداية العملية، كان أمراً مدروساً الغرض منه إحداث أوسع تدمير ممكن في البنية التحتية العسكرية على امتداد المساحة الأوكرانية، وبما سمح لاحقاً بالتقدم ضمن دونباس دون صعوبات كبرى وصولاً إلى السيطرة على القسم الأكبر منه. عملية تدمير البنية التحتية العسكرية قد تمّ تحقيقها إلى حدٍ بعيد، وهو ما صعّب المهمة على الغرب، وانعكس في فتحه خطوط إمدادٍ واسعة ومستمرةٍ ليس لها مثالٌ في التاريخ سوى خطوط إمداد الكيان الصهيوني، وخاصة أيام حرب 73).

 

ثالثاً: رغم أنّ الآلة الإعلامية الغربية بأسرها قد تجندت للعمل ضد روسيا، فإنّ ما يمكن للمرء أنْ يلاحظه بوضوح، أنّ عمليات التشهير بـ«الجرائم» و«الفظائع» التي «يرتكبها الروس في أوكرانيا»، كانت بالحدود الدنيا، إلى الحد الذي يمكن معه أنْ تعد على الأصابع، «الحوادث» التي طبّل بها الإعلام الغربي بوصفها جرائم ضد المدنيين. وهذا الأمر يعكس طبيعة العمل العسكري الروسي في أوكرانيا، والتي تجتهد في تجنب استهداف المدنيين (وهنا نقطة تستحق البحث عن حقيقة ما كان يجري في سورية وطرائق العمل العسكري فيها، والتي لم يكن الروس المتحكم الوحيد فيها...). بكل الأحوال فهذا أيضاً يندرج ضمن مفهوم «العملية الخاصة»، والتي تتعامل مع منطقة العمليات بوصفها منطقة تضم أغلبية سكانية كبرى مؤيدة للروس، وهذا ينطبق على دونباس وبعض المناطق الأخرى في الشرق والجنوب الأوكراني، ولكن لا تنطبق على الغرب الأوكراني.

 

خاركوف والتعبئة الجزئية

شكّل الاختراق الأوكراني في منطقة خاركوف -على الأقل إعلامياً- مفصلاً مهماً في سير العملية العسكرية الخاصة، وبعده صدر القرار الروسي بالتعبئة الجزئية لـ300 ألف مقاتل احتياط، وأدى التعاقب الزمني بين الحدثين إلى اعتبار الأول السبب الأساسي والجوهري للثاني، رغم أنّ الأمور فيما نظن أعقد من ذلك؛ فمن جهة، هنالك مبالغات كبرى بحجم وأهمية الاختراق الأوكراني الذي جرى، والذي لا يتجاوز من حيث المساحة -ووفقاً للتقديرات الغربية القصوى- 2.5% من المساحة التي يسيطر عليها الروس أساساً؛ (حوالي 3 آلاف كم مربع من أصل 120 ألف كم مربع)، ناهيك عمّا كلّفه هذا الهجوم الأوكراني من إعداد طويل ومكلف من الناتو ومن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا خاصة وباعترافهما، وما كلّفه من خسائر في الكادر البشري للقوات الأوكرانية. ولكن ذلك كلّه لا ينفي أنّ انتكاسة جزئية قد حدثت ضمن العملية العسكرية الخاصة، وساهم بالتأكيد في قرار التعبئة الجزئية، ولكنه بالتأكيد ليس السبب الوحيد وربما ليس السبب الأساسي.

يمكن أنْ نتوقع إلى جانب هذه الانتكاسة، مجموعة من الأسباب الأخرى، وبينها قدوم الشتاء- الحليف التقليدي للروس؛ حيث بات واضحاً أنّ عملية التداعي الأوروبي والغربي الاقتصادي قد بدأت بعبور العتبة الحرجة، وأهم مؤشرات ذلك هي بداية التحركات الشعبية في أوروبا والتي لم تنحصر في الاحتجاج على التضخم والأوضاع المعيشية المتراجعة، بل بدأت بالاحتجاج على العقوبات ضد روسيا وعلى التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، وهي الاحتجاجات التي لا يمكن إلا توقع زيادة زخمها خلال الأسابيع والأشهر القادمة... وربما هذا بحد ذاته أحد الأسباب الأساسية التي جعلت الأمريكان ومعهم النخبة الأوروبية التابعة، بأشد الحاجة لتحقيق نصرٍ ما ضد روسيا، بعد سلسلة الهزائم العسكرية والاقتصادية والسياسية خلال الأشهر الماضية، لعل ذلك النصر يوفر على أبواب الشتاء مؤنة دفءٍ نفسي مؤقتة، تسمح باستمرار المعركة خلال الشتاء.

لا جدال في أنّ الاقتصاد الروسي تأثر أيضاً بمجمل الأزمات التي تضرب العالم، وبالعقوبات الغربية غير المسبوقة؛ ولكن مع ذلك، فإنّ حجم الضرر الواقع على روسيا يكاد يكون الأقل على مستوى العالم بأسره، إذا ما قارنا الضرر الحاصل بذلك الذي وقع على الغرب ككل وحتى على الصين والهند وبقية دول العالم. وتفسير ذلك لا يحتاج إلى عبقرية اقتصادية وجيوسياسية خاصة؛ فروسيا بمساحتها البالغة 17 مليون كم مربع، وبما تمتلكه من ثروات طبيعية (نفط، غاز، معادن، حبوب، إلخ)، هي بلد من النوع الذي لا يمكن حصاره عملياً في حال توفرت الإرادة السياسية الداخلية للتصدي للحصار.

يعرف كل من قرأ تاريخ القرن العشرين، أنّ 14 دولة غربية تدخلت بشكل مباشر في الحرب الأهلية في روسيا بين 1918 و1921، وحاولت أن تطبق على روسيا وتحاصرها من كل الجهات، ومع ذلك لم تتمكن من محاصرتها. ومنذ ذلك الوقت بات واضحاً في العقل الغربي أنّ هيمنته على العالم مستحيلة دون تفكيك روسيا-الاتحاد السوفياتي من الداخل، ودون الاستيلاء على الثروات الباطنية التي تمتلكها والتي تقدر بـ40% من مجمل الثروات الباطنية في العالم، (وضمناً فإنّ عناصر جدول ماندلييف بأكملها موجودة في روسيا، ومن بينها على الخصوص معادن نادرة ولا يمكن الاستغناء عنها في كل الصناعات المتقدمة والعسكرية وكذلك الغازات الخاملة التي تملك روسيا 80% من مخزونها العالمي... أي أنّ الغرب بحاجة لموارد روسيا لمحاربتها...)

عنصر القوة الكامن هذا، بالمعنى الجيوسياسي وبمعنى الموارد، لم يتم استخدام إلا جزءٍ يسير منه حتى اللحظة، (الغاز والنفط خصوصاً)، والانتقال إلى تعبئة الموارد على أساس معركة شاملة مع الغرب، معركة وجودية، يتطلب وضعاً مختلفاً عن الوضع الراهن في الداخل الروسي... ولطالما حدثت التغييرات الكبرى الداخلية في التاريخ في ظروف الحرب لا في ظروف السلم؛ لأنّ ظروف الحرب بوجود إرادة البقاء والانتصار، تدفع نحو تعبئة شاملة للموارد، ونحو تعبئة شعبية للناس، وهذه وتلك لا يمكن أن تتما في ظل سيطرة الناهبين المحليين والدوليين على مفاصل الاقتصاد والإعلام ضمن البلد المعني...

 

انتهاء العملية بداية الحرب

كل المؤشرات الآن تقول إنّ العملية الخاصة قد انتهت أو تكاد، بمعنى أنها تنتقل إلى مستوى الحرب، بما في ذلك عمليات ضم دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون إلى روسيا.

بالتوازي، فإنّ احتمالات تمدد الحرب خارج أوكرانيا، باتت واقعية أكثر من أي وقت مضى. ولعل تصريحات الرئيس الصيني الأخيرة حول ضرورة الجاهزية الصينية لـ«حربٍ حقيقية»، تصب المصب نفسه، وتعطي إشارة واضحة حول طبيعة الاصطفاف الصيني ضمن «الحرب الحقيقية» القادمة، أو المحتملة.

أهم من ذلك هو أنّ الحرب التي يمكن أن تمتد خارجاً وواسعاً، ستبدأ بالداخل الروسي نفسه؛ أي أنّ عمليات التعبئة الشاملة للموارد والسكان ستفرض استحقاقاتها الاقتصادية-الاجتماعية، وعلى رأس تلك الاستحقاقات التي لم يعد هنالك من مفرٍ منها، ضرب مواقع الأوليغارش الروسي، وخاصة الصهيوني، في كلٍ من الاقتصاد والإعلام بالدرجة الأولى...

نتيجة الحرب الشاملة القادمة، أياً تكن درجة حدتها العسكرية خارج روسيا ومستوياتها، ستحسم في الداخل الروسي؛ فإما الانتصار عبر الانتقال نحو نمطٍ اقتصادي-اجتماعي جديد يحول الحرب إلى حرب شعبية يتبناها الروس إلى النهاية بوصفها حربهم هم، حرب الشعب الروسي، وتؤدي بالضرورة إلى نسف نهائي للهيمنة الأمريكية ولولادة عالم جديد، أو هزيمة كاملة تودي بوجود روسيا نفسها وتقودها نحو تفتيت شامل أسوأ بما لا يقاس مما جرى عام 1991، ولتمديد الهيمنة الأمريكية على العالم، والتي ستشرع في تطبيق سريعٍ وواسع النطاق للنيومالتوسية على العالم بأسره، وستخلّف -ودون مبالغة- مليارات الضحايا حول العالم، وبأدوات الجوع والمرض بالدرجة الأولى، وبأداة الحروب البينية بالدرجة الثانية... ولذلك ليس هنالك خيارٌ أمام روسيا والصين والعالم بأسره عملياً، سوى الانتصار وتعبئة كل ما يلزم لتحقيقه...

 

(English version)

آخر تعديل على السبت, 24 أيلول/سبتمبر 2022 17:43