بوريل... «أجيب الصبر منين»
تحدّث رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في محاضرة ديتشلي السنويّة، في 16 من الشهر الفائت، بصفته عضواً أساسياً في النُخبة الليبراليّة العالميّة، وذلك في تقييمٍ واقعيٍ متأخّر بأنّ فترة الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة الغربيّة تقترب من نهايتها وأنّ العالم سيكون متعدد الأقطاب.
الصبر الاستراتيجي
مع أنّ هذا التقييم يدلّ على أنّ نخبة أوروبا الغربيّة باتت مضطرة بشكل أو بآخر للاعتراف بحقيقة هذا الأمر، إلا أنّ أصحاب القرار فيها ما زالوا متشبثين بالخضوع لقرارات واشنطن وسياستها تجاه الاتحاد ولو على حساب مصلحة أوروبا نفسها، فالمُمثل الأعلى للشؤون الخارجيّة والسياسة الأمنيّة في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، والذي دعا المواطنين الأوروبيين في وقتٍ سابق للتحلي «بالصبر الاستراتيجي» حتى «تُثبت العقوبات ضد روسيا فعاليتها»، على حد قوله، وسط ازدياد تذمّر الأوروبيين من آثار عقوباتهم عليهم، نفد صبره وبات لسان حاله «أجيب الصبر منين» وذلك بسبب «تراجع شعبيته» لدى وسائل الإعلام الغربيّة بالمقارنة مع كبير الدبلوماسيين الروس سيرغي لافروف، ففي حوار مع راديو كادينا سير تطرّق بوريل إلى جولة وزير الخارجية الروسي الأخيرة في مصر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وأوغندا، قائلاً: «حتى وسائل الإعلام الغربيّة تعمل أحياناً بمثابة رجع صدى للخطاب الروسي، يسافر لافروف إلى إفريقيا ليقول بأنّ العقوبات الأوروبيّة هي سبب كل ما يجري فتردد الصحافة الغربية هذا، وأنا أذهب إلى أفريقيا لأقول إنّ العكس هو الصحيح وأنّ العقوبات لا ذنب لها، فلا يتلقف أحد هذا»، والأمر نفسه كان قد حدث أيضاً مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل في آخر زيارة له لإفريقيا.
معركة الروايات العالمية
مَرَدّ تذمّر المُمثل الأعلى إلى الاتحاد الأوروبي، في الوقت الحالي، لا ينتصر في «معركة الروايات العالمية» على حد تعبيره، وكلّما سعت الدول الغربيّة إلى فرض حصار كامل على روسيا ، قلّ الدعم الذي تتلقاه في بقيّة العالم، بادعائه أنّ أوروبا تقف إلى جانب «الحقيقة» مع أنّ العديد من الدول تميل إلى الاختلاف، فهو كحال أقرانه يرى بعينٍ واحدة أنّ الحُجج الأوروبيّة لم تعد تلقى آذاناً صاغية، لكنّه في الوقت نفسه يخشى أن يفتح عينه الأخرى، كي لا يُجبر على الاعتراف بالحقيقة الواضحة، إنّ مصالح الغرب وعلى مدار عقود كانت تتعارض مع المصالح الخاصّة لدول الجنوب العالمي، والتي ترى الحرب في أوكرانيا بشكل مختلف عمّا يراه الغرب – الذي أصيب بالعمى عن آلاف العقوبات التي فرضها على موسكو – بناء على مصالحه فقط وضارباً عرضَ الحائط مصالح دول الجنوب - والتي قد عطّلت سلاسل التوريد للعديد من المنتجات الحيويّة والمواد الخام والمواد الغذائيّة الأساسيّة - وأنّ أسباب الاختلاف مع «الغرب الجماعي» تتجاوز كثيراً «الرغبة في عدم الخلاف مع روسيا وتعريض مصالحها الجيوسياسية للخطر معها» إلى الرغبة في السير بشكلٍ مستقل بعيداً عن الانجرار الأعمى وراء خطى الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وهو ما عبر عنه الكرملين مؤخراً على أنّه لا يتوقع أن تتخذ أي دولة أفريقيّة موقفاً مؤيداً لروسيا بشكل صريح ، وبدلاً من ذلك أعرب عن دعمه لما وصفه لافروف بمسار إفريقيا «المستقل»، وكتب «نحن نقدّر الموقف الأفريقي المدروس فيما يتعلق بالوضع في أوكرانيا وحوله، فعلى الرغم من أنّه لم يسبق له مثيل من حيث حجمه، إلا أنّ الضغط من الخارج لم يدفع بأصدقائنا للانضمام إلى العقوبات المناهضة لروسيا، مثل هذا المسار المستقل يستحق الاحترام العميق».
سياسيو الموجة الأمريكية
تُعدّ تصريحات جوزيف بوريل وأمثاله من أصحاب القرار الأوروبي «الخاضعين لواشنطن»، والذين زرعتهم الولايات المتحدة في هياكل الاتحاد الأوروبي المختلفة غير مستغربة، فالأخيرة وضمن سعيها لتصبح «المالك الوحيد للعالم» اتبعت سياسة إضعاف النخب الوطنية واقتصاد الدول الأوروبيّة، والتي لم تتمكن عبرها من إخراج أوروبا من بين منافسيها فقط، بل تمكّنت من تدمير أوروبا القديمة وقيادة النخبة السياسيّة الجديدة، مع التركيز فقط على البيت الأبيض ليأخذ مكانه هناك، ويضعف أيّة إمكانيّة لوجود قرار أوروبي، ونتيجة لذلك، فإن كلاً من البرلمان الأوروبي والقوانين التي اعتمدتها الولايات المتحدة تحت حماية الاتحاد الأوروبي تهدف اليوم إلى الالتزام المُطلق بالتعليمات الصادرة عن البيت الأبيض، هذه التعليمات التي لا تعكس حتى سيادة أوروبيّة واضحة والعديد منها يتعارض تماماً مع مصالح سكانها، فسياسيو «الموجة الأمريكية» هم أولئك الذين يلعبون دور الكمان الأول في السياسة الأوروبية، أما واشنطن فهي لم تتوقف عند أي شيء عن زرع أمثالهم ضمن هيئات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي.
تُثبت الأحداث التي يعيشها العالم يومياً، أنّ الحرب في أوكرانيا كانت الشرارة الأولى لسلسلة من تطوراتٍ لن تهدأ قبل أن يتغير شكل العالم الذي ألفناه منذ أواخر القرن الماضي، هذا العالم الذي استنزفت فيه الدعاية الغربيّة أدواتها، ولم تعد تفعل فعلها السابق أمام تسارع الأحداث الراهن مهما كان حجم الضخ عالياً، أما ترويجها عن روسيا المعاقبة والمعزولة فهو غير قادر على الصمود أمام التصدعات التي أصابت بنية الغرب، والذي لم يكن بالنسبة له الفوز أو الخسارة في «معركة الروايات العالميّة» أمراً مهمّاً في الماضي، لأنّه لم يكن هنالك أيّة اعتبار لجنوب الكرة الأرضية عند اتخاذه قراراته أحاديّة الجانب فيما يتعلق بالحروب أو العقوبات الاقتصاديّة، أما الآن ومع تغير ميزان القوى العالمي فقد عادت للجنوب وبلدانه أهميته، وذلك لأنّ الغرب ببساطة لم يعد يقرر جميع النتائج السياسيّة كما كان الحال سابقاً، وأصبحت باستطاعة روسيا والصين والهند وغيرها من الدول ذات الصلة الآن وبشكل جماعي قيادة نظام عالمي متعدد الأقطاب.