صربيا وكوسوفو ورقة جديدة تحاول واشنطن استخدامها
وضع الولايات المتحدة يزداد صعوبة على كافة الجبهات، من آسيا إلى أوروبا، ولذلك تسعى لتعقيد الوضع في النُّقَط الأكثر حساسية في العالم، أملاً في توريط لاعبين جدد ودفع روسيا والصين للتعامل مع مشكلات جدية وتحديات أمنية وعسكرية في بؤرٍ جديدة، ومن هذه الزاوية فقط يمكننا قراءة الأحداث الأخيرة في شمال كوسوفو القريبة من صربيا.
تعتبر الأزمة بين صربيا وكوسوفو حالة مشابهة للتركات الثقيلة لانهيار الاتحاد السوفياتي والأضرار التي ضربت منظومة الدول الاشتراكية في العالم عموماً وأوروبا تحديداً، وخصوصاً مع التدخل الغربي الكبير في هذه الجمهوريات، التي وصلت إلى التدخل العسكري دون غطاء من الأمم المتحدة، وهو ما حدث عندما قصفت طائرات الناتو يوغسلافيا عام 1999، حتى دخول ما عرف باسم «قوات كوسوفو» المشكّلة من تحالف دُوَليّ بقيادة حلف الناتو والتي تعرف اختصاراً بـ KFOR.
كلمات تمهيدية
المقدمة التاريخية السابقة لا تكفي لرسم صورة دقيقة للحروب الدامية التي دارت في يوغسلافيا واستمرت عقوداً من الزمن، وأخذت في أجزاءٍ منها شكل صراعات أهلية، لكن المثير للاهتمام هو الجمر الذي بقي مشتعلاً تحت الرماد، وتحوّل لمواجهات في مناسبات مختلفة، وتحديداً بين جمهورية صربيا وإقليم كوسوفو المعترف به بشكلٍ محدود دولياً. الخلاف لم يُحَلّ! بل بقيت بعض المشكلات العالقة التي سمحت بتسخين الصراع دائماً. ففي إقليم كوسوفو الذي تقطنه أغلبية ألبانية، هناك بعض المناطق التي حافظت على أغلبية صربية، وتحديداً في شمالي الإقليم، ورفض هؤلاء بطبيعة الحال استقلال كوسوفو، ولذلك حافظوا على وضع خاص واستخدموا أوراق ووثائق شخصية ولوحات سيارات صربية، بالإضافة لحرية المرور عبر الخط الفاصل بين المنطقتين، وساعد هذا الظرف بلغراد التي لم تعترف باستقلال الإقليم حتى اللحظة، فحافظت بالحد الأدنى على روابط مع الإقليم ذي النزعة الانفصالية الذي أصبح إحدى القواعد العسكرية الدائمة للناتو والولايات المتحدة التي أخذت من قوات KFOR غطاءً لتواجدها في المنطقة.
التطورات الأخيرة
شهدت العلاقة بين صربيا وكوسوفو انفراجات وانكسارات بشكل مستمر، لكن الهدوء كان سمة العلاقة والذي توّجهُ الطرفان بتوقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بينهما، وعلى الرغم من ذلك بقي الإقليم مطيعاً لداعمه الأساسي الولايات المتحدة، والتي تقف وراء التصعيد الأخير بشكلٍ واضح، وخاصةً بعد زيارة وفدٍ رفيع من كوسوفو إلى واشنطن في 26 تموز الماضي، والذي كان في مقدمته رئيسة الإقليم فيوزا عثماني ورئيس الوزراء ألبين كورتي، والتقوا في العاصمة الأمريكية وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. ما جرى نشره حول اللقاء لا يشير بطبيعة الحال إلى ما جرى نقاشه فعلياً وراء الأبواب المغلقة، واكتفت الخارجية الأمريكية بنشر فيديو قصير تملّقت فيه رئيسة كوسوفو الولايات المتحدة واعتبرت أن «دعم» واشنطن وتدخّل الناتو ساهما بجعل كوسوفو مثالاً يحتذى! وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الكوسوفي بأن كوسوفو أصبحت «قصة نجاح». لكن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي كانت تشير إلى طبيعة ما يجري فعلياً، فاعتبر بلينكن أن «عدم الاعتراف بكوسوفو يعني أنه لن يكون هناك صربيا» ما يشكّل قراراً أمريكياً بالتلويح بورقة التصعيد في هذا الملف أيضاً.
المثير للانتباه أكثر هو ما جرى بعد أيامٍ قليلة من الزيارة، فقد أعلنت كوسوفو عزمها فرض البطاقات الشخصية الكوسوفية على الأقلية الصربية بالإضافة إلى استبدال لوحات السيارات، وهو ما قابله سكان المناطق الشمالية بالاستنكار الشديد، وتوترت الأجواء سريعاً على إثر احتجاجات في مناطق متنوعة وصلت إلى اشتباكات مع قوات الأمن ورافقها توتر على الحدود مع صربيا التي بدأت تستعد لسيناريو التصعيد.
الانفجار قائم ولكنه مؤجَّل
فرضت التطورات المتسارعة على كوسوفو تأخير القرار الاستفزازي لمدة شهر. مما أعاد الهدوء في الأجزاء الشمالية من البلاد ولكنه أبقى على المشكلة وحافظ على احتمال التصعيد. تكمن المشكلة اليوم في أن الإصرار على هذا القرار يكفي لدفع صربيا لحل المشكلة بالطرق العسكرية، وهو ما سيشكّل تصعيداً كبيراً في المنطقة وخصوصاً لأنه صدامٌ مباشر مع قوات KFOR من جهة ويزيد من احتمالات تورط ألبانيا في النزاع مما يخلق بؤرة خطرة جديدة في أوروبا. وتشكّل العلاقة المتينة بين صربيا وروسيا مفتاحاً لفهم خطورة هذه التطورات، فدخول الأولى في مواجهة في كوسوفو سيفرض على موسكو تكلفة إضافية وخصوصاً أنها المستهدف في هذا الصراع. وقد تجد روسيا نفسها مضطرةً لتقديم العون اللوجستي والعسكري، وإلا ستترك صربيا لمصيرها وهو المستبعد. وأشار سفير روسيا في صربيا في وقتٍ سابق أنه لا يستبعد احتمال أن يطلب الجانب الصربي المساعدة العسكرية من روسيا، وأضاف ألكسندر بوتسان خارتشينكو، قائلاً: «لا نستبعد أيّ صيغة لتطور الأحداث ولا سيّما إذا وضعنا ما يحدث في صربيا وكوسوفو ومنطقة البلقان ككل في الأطر الجيوسياسية العامة للتغيرات العالمية الكبيرة».
تصريحات الدبلوماسي الروسي تشير بوضوح إلى أن روسيا تدرك الدوافع الخفيّة لما يجري على الخط الفاصل بين المنطقتين، ولا تراه ضمن سياق منفصل عن الصراع الذي تخوضه روسيا في موجهة الغرب في أوروبا، وتحديداً مع الولايات المتحدة، لكن موسكو قد تنجح في احتواء الأزمة أو اختيار لحظة الصدام بدل أن تُفرَضَ عليها.