السودان: جيش «لا يريد» ومدنيّون «غير قادرين»
يتخذ المشهد السياسي في السودان مؤخراً مساراً تصعيدياً واضحاً يهدِّد وحدة البلاد و«تماسكها» السياسي والاقتصادي في ظل انفلاتٍ أمني مفتوح على العديد من السيناريوهات التي لا تحمد عقباها.
ظاهرياً، بدا إعلان المؤسسة العسكرية السودانية أنها «لن تتمسك بسلطةٍ تؤدي لإراقة الدماء» وأنها قررت «بصورةٍ صادقة أن تترك أمر الحكم للمدنيين وأن تتفرغ القوات النظامية لأداء مهامها الوطنية السامية المنصوص عليها في الدستور والقانون» كما لو كان «زهداً» من جانب الجيش عن إمساك السلطة في البلاد. لكن هذه الصورة الظاهرية سارع العديد من المحللين في السودان لنفيها، مرجحين إقبال البلاد على مشهدٍ لا ترغب المؤسسة العسكرية في تصدره.
ومن أبرز سمات هذا المشهد، ما يذهب البعض لاعتباره تفككاً في صفوف «القوى المدنية» التي لا تستطيع تجاوز الخلافات فيما بينها، فمن جهة «قوى إعلان الحرية والتغيير» التي سبق لها أن شكلت «ائتلافاً حاكماً» في البلاد دون أن يظهر قدرة على التماسك. ومن جهة ثانية «لجان المقاومة» التي ورغم دورها الواضح في تنظيم المظاهرات والتحركات ضد نظام عمر البشير منتصف عام 2019، يعتبرها كثيرون بمثابة تجمع لعدد من الشخصيات لم تكتمل هويته السياسية والتنظيمية بعد.
وعلى السطح، اختلفت قوى معارضة هذه بين دعاة الجلوس إلى طاولة تفاوض مع العسكر تضع حداً للإجراءات التي اتخذها الجيش أواخر العام الماضي، وبين من يرفضون ذلك تماماً، وثمة تيار ثالث لا يرى مشكلة في تولى الجيش زمام الأمور في البلاد لكن له بعض المطالب التي يرغب بأن تكون مدرجة على جدول أعمال الحكومة التي ستتولى نقل السودان إلى مرحلة جديدة في تاريخه.
لهذا، تميل التحليلات إلى اعتبار أن السودان يعيش واحدة من أكثر لحظاته المفصلية حساسية، حيث يمكن أن يكون إعلان الجيش انسحابه من الحوار الوطني في البلاد بغرض «إفساح المجال للقوى السياسية والثورية والمكونات الوطنية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة تتولى إكمال مطلوبات الفترة الانتقالية» هو خطوة تتخذها المؤسسة العسكرية لإثبات عدم قدرة «المدنيين» على تشكيل حكومة، وبالتالي إعطاء انطباع حاسم بأن حكومة مقبلة يشكلها العسكر هي «حكومة الخيار الوحيد والأخير».
لكن حتى هذا السيناريو لا يمكن الركون إليه، إذ إن المشهد المعقّد في البلاد يهدد وحدتها جدياً، ذلك أن أحداث العنف التي تجري في ولاية النيل الأزرق، ما هي سوى شرارة إضافية في نار الاقتتال القبلي الدائر في عدة مناطق في البلاد، والتي تتهم دول خارجية (أثيوبيا بشكلٍ أساسي) بالمساهمة في تأجيجها.
هذا الوضع المستعصي يزيد في سوداوية التنبؤات حول مصير البلاد، لكنه من جهة أخرى يرفع درجة التأهب لدى القوى الجدية الباحثة عن حل ينهي حالة عدم الاستقرار من أساسها. هل سيكون لقيام الحزب الشيوعي السوداني و«تجمع المهنيين» وبعض القوى السياسية والعمالية الأخرى بالإعلان عن تشكيل «قوى التغيير الجذري» دور في هذا الصدد؟ في انتظار المقبل من الأيام لنرى...