ألف باء إنهاء الهيمنة الأمريكية
بعد أن تدرك إمبراطورية ما أنها باتت في مرحلة أفولها سيكون من البديهي بالنسبة لها أن تلجأ لكبح النتيجة التاريخية الحتمية القادمة، ولذلك تعتبر محاولة إعاقة وإجهاض البدائل مناورة من شأنها إطالة مدة الاحتضار، أي إعاقة ولادة البدائل الموضوعية.
بات معروفاً أن السيطرة الحاسمة التي فرضتها الولايات المتحدة على العالم والتي وصلت ذروتها في نهاية الحرب العالمية الثانية كان لها مجموعة من الأدوات، من أبرزها الدولار الأمريكي والهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي ولذلك ينظر دائماً لمحاولات استبعاد الدولار وإجراء تغييرات نوعية في طبيعة النظام المالي والمصرفي العالمي بوصفها أدوات شديدة الفعالية بإنهاء الهيمنة الأمريكية، لكن متغيرات أخرى يمكن رصدها على الساحة الدولية من شأنها أن تلعب دوراً فاعلاً في تسريع عمليات إنهاء الهيمنة.
العلاقات الروسية-الأوروبية
يجري الحديث مؤخراً وتحديداً مع دخول القوات الروسية في حربٍ في أوكرانيا، حديثٌ حول مستقبل العلاقات الروسية والأوروبية، وتشمل هذه النقاشات جملة من المسائل ذات التأثير الكبير على شكل الحياة في البلدين، فتوتير الأجواء المقصود في أوكرانيا، والذي دعمه وغذاه الغرب في السنوات الثماني الماضية حتى وصل إلى شكل الصدام المسلح، سينتج عنه جملة من المسائل التي تبدأ بارتفاعات كبيرة بأسعار موارد الطاقة والتي ستؤثر على أبسط تفاصيل الحياة في أوروبا، وينتج عنه بالطبع ارتفاعات في مجمل أسعار السلع الأساسية كالغذائية والمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعة الغربية، وغيرها من المسائل الاقتصادية والمالية الأخرى. وبات واضحاً أن النطاق الواسع لهذه الآثار لن ينحصر داخل أوروبا بل سيترك ظلالاً ثقيلة على الاقتصاد العالمي، وهو ما بدأت آثاره تظهر وتتوسع.
لكن وفي ضوء هذه المتغيرات الكثيرة يجري تغييب مقصود لجوهر المسألة ونتائجها، فالعلاقات الروسية الأوروبية لا تنحصر بأسعار السلع على الرغم من أهمية هذه المسألة. بل إن حالة التوتر التي سادت هذه العلاقات منذ الحرب العالمية الثانية تحديداً، لعبت دوراً أساسياً في الحفاظ على مركزٍ متقدم للولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت أوروبا أحد أهم المنافسين منذ إنشاء تلك الأولى، وجرى في فترة الحرب العالمية الثانية وإلى جانب المحاولات لضرب التجربة السوفييتية الناشئة، ضرب المنافسين الرأسماليين الآخرين أيضاً، وحرصت واشنطن بعد نهاية الحرب على إبقاء حالة التوتر في محاولة لإبقاء المنافسين منشغلين من جهة، وبعيدين عن أي نوع من أنواع الشراكة البينية التي من شأنها تطوير أوزانهم بالمعنى الاقتصادي حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإصرار حكام الولايات المتحدة على أن تخفض أوروبا من اعتمادها على الغاز الروسي الرخيص والقريب، وحشر الغاز الأمريكي في أنوفهم عنوة، لا يُردّ إلى رغبتهم في زيادة إيراداتهم فحسب، بل يهدف أيضاً لتحميل الخزينة الأوروبية فوق طاقتها وبالتالي إضعاف قدراتها التنافسية في المجمل، وقطع أواصر التعاون بين مجمل دول أوروبا وروسيا.
الصين مصدر الخطر الإضافي
تشكّل الصين تهديداً للهيمنة الأمريكية في كل المجالات وهذه مسألة مؤكدة، ولكنها تضيف عنصراً حساساً جديداً للعلاقات الأوروبية-الروسية، فالصين بموقعها تشكّل امتداداً طبيعياً لأوراسيا، وشكّل هذا الامتداد في التاريخ فرصة للتبادل والتطور لشعوب هذه المناطق الشاسعة رغم اختلافاتها، وكان لا بد من إيقاف هذا النوع من التحالفات قبل أن يتحول إلى قوة لا يمكن كسرها، هذا بالإضافة إلى أن إمكانية تحول المنطقة الآسيوية إلى مناطق صناعية متقدمة وبالتالي تحول ثرواتها وموادها الأولية إلى مدخلات في هذه الصناعة شكّلت هذه الإمكانية كابوساً بالنسبة لواشنطن وخصوصاً عندما بدأ الحديث عن إعادة إحياء طرق التجارة القديمة «كطريق الحرير مثلاً» فهذا يعني أن أوروبا وآسيا قد تصبحان في حالة شديدة من الترابط والتماسك بالمعنى السياسي والاقتصادي والثقافي مما يحوّلهما تدرجياً إلى منطقة «اكتفاء ذاتي» كبرى قادرة على الإنتاج الواسع المتطور وعلى تلبية الحاجات المتنامية لشعوب «أوراسيا»، أي أن علاقات من هذا النمط تشكل أحد أهم الأدوات لتحطيم الهيمنة الأمريكية التي قامت مثل الدول الاستعمارية السابقة على قاعدة «فرق تسد».
اليوم وعلى الرغم من الصدام المسلح الذي يجري في أوكرانيا تجد واشنطن صعوبة بالغة في تحريض الأوروبيين ضد روسيا، فعلى الرغم من أن أتباعها الغربيّين ينصاعون للكثير من أوامرها، إلا أنهم يظهرون مقاومة شديدة حتى اللحظة، وتحديداً لأن ضرب العلاقات مع روسيا من شأنه أن يضر بمصالحهم القائمة حالياً، فيمكن لنا أن نتخيل أن إتمام التكامل الآسيوي الأوروبي وبغض النظر عن الوسائل التي ستنجز ذلك، من شأنه أن يجعل هيمنة واشنطن مستحيلة، ولذلك يصبح سلوك واشنطن في أزمة أوكرانيا وغيرها من الأزمات مثل «شراكة الاتحاد الأوروبي والصين - خط نقل غاز السيل الشمالي-2» مفهوماً وواضحاً، فالمعركة باتت معركة نهائية ستخسر بعدها وللأبد موقعها على الساحة الدولية.
اللحظات الحساسة
لا شك أن جميع اللاعبين على الساحة الدولية يدركون طبيعة المعركة الدائرة حالياً حتى وإن ضخت وسائل إعلامهم ما يقول عكس هذا، فالملامح العامة لهذه المعركة باتت شديدة الوضوح ويمكن رصدها بسهولة شديدة، بل إن سلوك بعض اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية يبشر بأن مهمة إنهاء الهيمنة الأمريكية لم تعد مجرد خطة استراتيجية طويلة الأمد، بل باتت مخططاتها موضوعة على الطاولة وقيّد التنفيذ بعد أن أخذت وقتاً كافياً في الإعداد. فالسلوك الصيني على سبيل المثال والذي يتسم بالحذر الشديد في المسألة الأوكرانية إنما يعكس درجة اليقظة لحساسية الموقف، فالصين تدعم دون شك حق روسيا في الدفاع عن نفسها وتحييد المخاطر التي تهدد أمنها الوطني، ولكن بكين في الوقت نفسه تعمل على الخط الآخر من الجبهة لحرمان الولايات المتحدة من إحدى النتائج التي تطمح لها هذه الأخيرة، فالموقف الصيني المتوازن يهدف للحفاظ على العلاقات مع الجميع مما سيسمح جدياً للصين بوصفها أهم اللاعبين الدوليين للعب دور وساطة بين روسيا وأوروبا وربما عبر بوابة أوسع من أوكرانيا ليرتد السحر على الساحر وتجد واشنطن نفسها أمام خطوة جديدة باتجاه تمتين الفضاء الأوراسي الواسع.