حول مصير محاولات واشنطن لتحطيم العلاقات الروسية-الصينية

حول مصير محاولات واشنطن لتحطيم العلاقات الروسية-الصينية

لا تُعَدُّ خطةُ فصل روسيا عن الصين خطةً جديدة، لكن الحديث حولها يزداد. يتردّد هذا الطرح في أماكن متنوعة من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وقد أثارت القمة الروسية-الأمريكية التي عقدت في جنيف أواسط شهر حزيران الماضي الحديث حول هذه العلاقات وموقف الولايات المتحدة منها كما جرى حديثٌ مشابه عقب انتهاء القمة الصينية الأمريكية في ألاسكا قبل ذلك بأشهر.

ما الذي يخيف الغرب من الشراكة الاستراتيجية الروسية والصينية؟ وهل هناك محاولات غربية جدّية لتقويضها؟ وهل جدية المحاولات تكفل جعلها أمراً واقعاً؟  وما هو الرد الروسي والصيني على هذه المحاولات؟

تسارع موسكو وبكين للرد على كل محاولة لتقويض العلاقات بينهما، فالرئيس الروسي ونظيره الصيني عقدا محادثات عبر الفيديو في 28 من شهر حزيران، وجاء الرد على المحاولات الأمريكية بسيطاً، عبر الإعلان رسمياً عن تجديد معاهدة حسن الجوار والتعاون الودّي بين الصين وروسيا، وليؤكد الرئيسان على متانة هذه العلاقة وقدرتها على تجاوز الصعاب والمكائد.

كيف يرى الغرب العلاقات الروسية الصينية

ما يقلق الغرب فعلياً هو متانة العلاقات بين روسيا والصين والآفاق المفتوحة للتطور هذه العلاقة، بالإضافة إلى العمل الدؤوب الذي قام به البلدان منذ عقود في تطوير شراكتهم الاستراتيجية، حتى وصلت إلى مستواها الحالي، ودرجة التكامل في المجالات كافة، من الطاقة، والاقتصاد، والتجارة، إلى التنسيق، والتعاون السياسي والأمني والعسكري والتقني، وتبادل الخبرات في كل المجالات، مما سمح للدولتين الجارتين فرض وجودهما على الساحة الدولية، ومكنهما من إعاقة مشاريع الفوضى التي يعمل عليها الغرب كونها تستهدفهما مع غيرهما من دول العالم.

مكّنت محصلة جمع وزني روسيا والصين السياسيَّين من التأثير على مجمل الملفات السياسية في العالم بشكل متنامٍ منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكانت الخطوات الأولى لاستعادة العلاقات بين البلدين بمثابة جرسِ إنذارٍ لم يكن من الممكن تجاهله بالنسبة للقوى الغربية، وانتقلت هذه العلاقات بخفّة وسرعة نسبياً عبر عدة محطات فاستطاعت في بداياتها إعلان رفض المخططات الغربية التي فرضت شكلاً محدداً من العلاقات السياسية والاقتصادية لم تخدم إلّا مصالح أصحابها، ليتمكن البلدان في مطلع الألفية الجديدة من إعاقة هذه المخططات الغربية في عددٍ من المعارك، وبدأنا نشهد استخدام الفيتو المشترك في مجلس الأمن كأحد أشكال تمظهر تعاظم دور روسيا والصين، فكان الفيتو الأول المشترك في تاريخ البلدين ضد القرار المقدَّم من بريطانيا والولايات المتحدة وإيرلندا بخصوص الأوضاع السياسية في ميانمار بتاريخ 2007، لنشهد بعدها درجة تنسيق عالية لنشاط البلدين في مجلس الأمن حتى وصلت اليوم إلى مستوى تستطيع فيه فرض طرح مختلف في الملفات الدولية حتى وإنْ خالف مشيئة الدول الغربية والولايات المتحدة.

شكّل كلُّ ما سبق ذلك الإطار العام الذي يفسر المخاوف الحقيقية للقوى الغربية من شراكة روسية والصين الاستراتيجية، وإن كنا قد مررنا سريعاً على المراحل الثلاث التي زادت من أثر هذه العلاقات على الملفات الدولية، لا بد من الإشارة إلى أنّ عمر المرحلة الأخيرة لا يزال قصيراً ومحدودَ الأثر، لكنه شديدُ الخطورة بالنسبة للإمبريالية الأمريكية تحديداً، فالصين ورسيا عندما تنجحان في منع مخططات واشنطن ومن ثمّ تفرضان مخططات بديلة تكون مقبولة في رقعة شاسعة من العالم فهذا يعني ببساطة نهاية استعباد واشنطن للعالم وفرصة حقيقية جديدة لشعوب الدول النامية للتحرر من كل أشكال الاستغلال التي فرضتها واشنطن عليهم كشكل وحيد للعلاقات الدولية.

putin_and_jiang_zemin_document-signing_ceremony_2001

المدخل الذي يراه الغرب لزعزعة العلاقات

نظراً لجدية التهديد الذي تشكله العلاقات الروسية الصينية على العالم الغربي وسيطرته على العالم وثرواته، يتحول الطرح الذي يقول بضرورة إضرام النيران في هذه الشراكة طرحاً شديد الجدية والإلحاح لدى منظّري السياسات الخارجية في واشنطن وأتباعها، لكن هذا لا يعني بشكلٍ من الأشكال أن يكون هذا الطرح واقعياً وقابلاً للتطبيق على أرض الواقع، وهذا بحد ذاته أحد ملامح أزمة واشنطن العميقة حين أصبحت «مخططات الفوضى الرائعة» على الأوراق لا تجد طريقها إلى الواقع.

كان لهنري كيسنجر السبق في هذا الطرح عندما كان يرى ضرورة في استثمار الشرخ السوفييتي الصيني، ومضت واشنطن في بداية السبعينيّات لتطبيع العلاقات مع الصين أملاً في استمالتها في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وبعيداً عن البحث المعمَّق في أثر هذه الخطوة ودوافع الأطراف الأخرى ومواقفهم، شكّل هذا الشرخ مساحة واسعة لواشنطن حيث ثبّتت أقدامها في العالم وأعادت تشكيل قوانين «اللعبة الاقتصادية» بما يلائمها وحدها، عبر عدد من الخطوات والسياسات، كان أبرزها فك ارتباط الدولار بالذهب كمعادل وربط تسعير النفط بالدولار اﻷمريكي حصراً، مما شكّل الدافعة الأساسية للآلة السياسية والعسكرية لواشنطن، وخزاناً لا ينضب لتمويل حروبها ونشاطها المشبوه في العالم، ولم يكن هذا ممكناً لولا وجود سَدٍّ منيع بين الصين وروسيا، وهما الدولتان اللتان استطاعتا تدارك الموقف بعد استهدافهما من قِبَل واشنطن والمحاولات الحثيثة لتفتيت كلّ منهما وتسخيرهما كمصدر للمواد الخام والعمالة النوعية الرخيصة.

ما هو مخطط واشنطن لضرب العلاقات الروسية-الصينية؟

ترى الإدارة الحالية في واشنطن (التي تتقاطع مع الإدارة السابقة في هذه النقطة أيضاً) فرصة لإيهام روسيا بإمكانية تخفيف الضغط عنها، على أن يكون مشروطاً بتقييد العلاقات بين موسكو وبكين، وتتوقع واشنطن أن يعطي تخفيف الضغط على موسكو قدرة أوسع في المناورة لواشنطن على حدود الصين، مما يسمح لها بإعاقة تطور بكين بشكلٍ ملحوظ عبر ابتزازها اقتصادياً وتدمير قدراتها التنافسية وعبر إشعال داخلها ومحيطها بنزاعات ذات طابعٍ سياسي وديني وقومي، كتلك التي تجري في تايوان أو هونغ كونغ أو شيجنغ أو ميانمار … وغيرها من المناطق الساخنة في آسيا. وترى واشنطن أن الضغط الذي مارسته على روسيا طوال سنوات قد يدفع الأخيرة إلى تقديم تنازلات في مواقفها على الساحة الدولية وفي أن تتراجع إلى مستويات أخفض في العلاقة مع الصين. وهذا ما أثبت الواقع اليوم أنه أحلامٌ مستحيلة التحقق، وتحديداً لكون موسكو تدرك على الأقل أن ما تسعى له واشنطن هو إدامة الضغط على روسيا ولكن عبر الواجهة الأوروبية، أي أن تَغيبَ واشنطن نظرياً عن الواجهة وأن تبقي هذا الضغط عبر وكلائها الأوروبيين.

ثلاث مشكلات كبرى في طرح واشنطن

تغفل واشنطن أولاً أن الحدود البرية بين الصين وروسيا تزيد عن 4300 كم، وعليه يدرك البلدان أنه لا يمكن لأحدهما تحقيق تقدمٍ ملموس في أيٍّ من المجالات إذا تحول خط التماس هذا إلى خطِّ مواجهة، فالتقدم الذي استطاع البلدان تحقيقه لم يكن من الممكن إنجازه إلا عبر سلسلة من الإجراءات، بدأت من حل كل الخلافات الحدودية، وانتهت بتحويل هذه المساحة الشاسعة إلى مساحة تمر عبرها خطوط نقل الطاقة والبضائع وكل ما يحتاجه البلدان، لتتحول بذلك الحدود بين الصين وروسيا إلى ورشة عمل دائمة تعمل على ربط البلدين بما يخدم مصالحهما عوضاً عن مد الأسلاك الشائكة وزرع الألغام ونقل المعدات العسكرية. ولا يمكن لأيٍّ من صنّاع القرار لا في موسكو ولا في بكين، لا الآن ولا مستقبلاً، أن يأخذ قراراً طوعياً بتحويل هذه المساحة إلى عامل ضغط وحصار إضافيَّين يجعل حدوداً برية بهذا الطول تتحوّل إلى باب لاستنزاف الطاقات والموارد.

الأمر الثاني الذي تغفله واشنطن هو أن مصالح روسيا والصين متقاربة إلى درجة التطابق أحياناً على الساحة الدولية، فالنفوذ الأمريكي وسياسات واشنطن باتت تشكل تهديداً وجودياً على الصين وروسيا معاً، وترى دوائر الحكم فيهما أن هناك ضرورة ملحّة لحرمان واشنطن من أدوات الابتزاز التي تملكها، مثل فرض الدولار كعملة للتبادل الدولي وإنهاء تسخير الولايات المتحدة للمؤسسات والمنظمات الدولية لخدمتها، بالإضافة إلى إيجاد بديل عن نظام سويفت الذي تستخدمه واشنطن كسيفها الضارب في العقوبات.

أما المشكلة الثالثة فتكمن في قناعة واشنطن الراسخة بأن التنافس بين روسيا والصين في عدد من الملفات يمكن أن يتحول تدريجياً إلى صراع يسحق العلاقات الطيبة. وإن كان احتمال تطور التنافس إلى صراع احتمالاً وارداً بشكل عام، لكننا نراه ضعيفاً جداً في العلاقات الصينية والروسية، ﻷن للبلدين تجارب ناجحة يمكن البناء عليها عبر تحويل المناطق والمجالات التي يتنافسان فيها، إلى ساحات للتكامل، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك كانت في خطة ربط مشروع أوراسيا الروسي مع مشروع الحزام والطريق الصيني.

كيف تتعامل روسيا والصين مع كل هذا؟

في المحادثات الأخيرة سابقة الذكر بين الرئيس الروسي ونظيره الصيني، أكد شي جين بينغ أن معاهدة حسن الجوار للصداقة والتعاون الودي بين البلدين تعتبر مثالاً شديد الوضوح على «تعزيز نمط جديد من العلاقات الدولية»، مؤكداً ثقته «بقدرة العلاقات على الصمود بوجه اختبار أي تغيير في الوضع الدولي»، واصفاً إيَّاها بأنها علاقات «ناضجة ومستقرة وصلبة». ومن جانبه ذكّر بوتين أن المعاهدة لعبت دوراً مهماً وفريداً في التنمية المستدامة وبناء العلاقات السليمة بين البلدين، وأوضح أن «تمديد المعاهدة سيضع أساساً أكثر صلابة لتنمية العلاقات الثنائية في الآجال الطويلة».

وقد نجح الرئيس الروسي بإيصال الرد على المحاولات الأمريكية لزعزعة العلاقات بين بكين وموسكو، ففي مقابلة مطولة أجراها التلفزيون الأمريكي NBC معه قبيل انعقاد القمة الأمريكية-الروسية، وجه الإعلامي كير سيمونز جملة من الأسئلة تخص «المخاوف الروسية من ازدياد النفوذ الصيني» وفي الوقت الذي أشار فيه بوتين في سياق إجابته إلى كون هذه الأسئلة تعتبر جزءاً من المحاولات الجارية لتقويض العلاقة بين البلدين، أجاب بوضوح: «تشكّلت بيننا وبين الصين في العقد الأخير علاقات شراكة استراتيجية لم يشهدها تاريخ العلاقات بين بلدينا من قبل، هناك مستوى عالٍ جداً من الثقة المتبادلة في السياسة، والاقتصاد، وفي مجال التقنيات، وفي التعاون العسكري التقني. لا نعتقد أن الصين تشكل خطراً علينا فهي دولة صديقة، ولا تعلننا عدواً كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية» ليذكر بأن حاملات الطائرات الصينية التي نوّه إليها الإعلامي الأمريكي لم تُصَنّع لتعبر الحدود البرية الطويلة بين موسكو والصين، وإن حاملات الطائرات التي تشغل بال روسيا هي تلك التي تملكها الولايات المتحدة. ولتأكد موسكو ردها الواضح على هذه المحاولات، قام السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنتونوف وفور استئناف عمله، بلقاء نظيره الصيني في واشنطن وأطلعه على نتائج القمة وبحث معه آفاق التعاون بين البلدين. ومن الجدير بالذكر أن السلوك الروسي هذا يشبه سلوك الصين الذي تلى القمة الأخيرة التي جمعت المسؤولين الصينيين مع نظرائهم الأمريكان في ألاسكا.

موسكو والصين حريصتان بأن يبرهنا بكل الأشكال الممكنة على ثبات وشفافية علاقتهما، وعجز خصومهما عن تفريقهما. لا شك أن لدى الصين وروسيا ما يكفي من مجالات التنافس، ولا يخفى على أحد أن اختلافات في ترتيب الأولويات قد تحدث بين الحلفاء، فما يكون شديد الإلحاح بالنسبة لروسيا قد لا يشغل بال الصين بالدرجة نفسها، والعكس صحيح، لكن السَّمت العام واحد، والمهم أنّ الاستراتيجية الكبرى تكاد تكون متطابقة، والأهم أنه لا يمكن إنجازها دون تعاون البلدين معاً.

آخر تعديل على الخميس, 01 تموز/يوليو 2021 13:01