ألا تسمعون أزيز اصطكاك أسناننا بعد؟
يراهن أعداؤنا، نحن السوريين، على سكوننا عبر حِصارنا، غير مكترثين بهول ما جرى ويجري، ويراهنون أيضاً على تجربتنا، وذاكرتنا، بأن ننسى ما كان قبل الأزمة، ونرضخ لأيّ حلٍّ يأتي، غير متنبّهين إلى أنها ذاكرة حيّةً، وتعود ليس إلى ما قبل الأزمة فقط، فهي مؤقتة وعابرة وقصيرة رغم مآسيها، إنما إلى ما قبل وجودهم ومجيئهم أساساً، إلى حيث كانت بلادنا لنا، لبرهةٍ من الزمن، قبل أن يختطفوها... نحو استعادتها!
لم تكن سنيّ الأزمة الجارية، والحرب ضمنها، لتخطر ببال بائع بسطةٍ في سوق الهال. بل وأكثر، كان يُخيل له أن مشروعه سيتطور وينمو لـ«كشك» بسيطٍ يُفرج الحياة أمامه، وعلى هذا المنوال كان بالمثل عاملٌ في إحدى الورشات العاملة بالظل، أو موظفٌ يتحينُ زيادة في راتبه، فينشط في همته ووظيفته لـ 24 ساعة تالية ريثما يكتشف أنها لن تغيّر أي شيء، ولن تؤمن له إمكانية أن يُسعد طفلته بملابس جديدة ذات صناعة وجمالية ممتازة، عوضاً عن الرديئة منها، والتي كان في كل مرة، يهيّئ نفسه لجلسةٍ مطولة لمحاولة إقناعها بجودة هذه الملابس وحسنها عليها، قبل أن تبهت ألوانها وتصغر عند أول جولةٍ لها في آلة الغسيل، وهذه الأخيرة كانت تتعطل دوماً، وفي كل منزل، وبالمثل، غالبية الأدوات الكهربائية، لا لسوء الاستخدام، إنما لسوء التصنيع أو الرخص في الاستيراد من قِبل أولئك الذين يرتدون أبهى أنواع الملابس، من أكبر الشركات... أصحاب الربح.
ولم يُخيل لأهالي القرى النائية أن تشتعل حربٌ في بلدهم، فقد كانوا مشغولين على طول الخط، وعلى مرّ السنين، بمطالب خدمية بسيطة لا يعلمون حتى اليوم لم كانت تُقدم لهم مثل «منّة» عليهم، فحتى الآن لا تمتلك بعضها خطوط هاتف، أو حتى طرقاً معبّدة، لا للمواصلات، وإنما على الأقل لـ«موتوراتهم» التي من سوء الطريق يخصصون لها ميزانيةً شهرية لإصلاح أعطالها.
ولم يُخيّل لجيران البحر هذا الأمر أيضاً... حيث كانوا مشغولين بخدمة الزوار والسياح، ومشاهدة شواطئهم تُغزى بالاستثمارات من مقاهٍ ومطاعم وشاليهات، اغتصبت رؤية شروق وغروب الشمس في الأفق، وتكبر تخوفاتهم من ألا يبق لهم شاطئ يسامرون الحياة عليه...
في البادية كذلك، حيث لم يعلم بهم أحدٌ أبعد من تدمر، والأخيرة كانت تجري حولها منافسة بين من الأكثر شهرةً: تاريخها؟ أم سجنٌ يقبع على صدرها؟ وكان السؤال دوماً: ألا زالت مأهولة؟ ولا يعلم السوريون مثلاً أن تدمر كمدينة سورية الآن، وكمملكة تاريخية قديمة، أقيمت على إحدى أهم نقاط «طريق الحرير» للتجارة شرقاً، الطريق والاسم الذي تجري الآن إعادة إحيائه وتطويره عالمياً، بيد أن الوحوش القابعة على جسد بلادنا، بطولها وعرضها، وحوش النهب والدم، تنكره، وتستثمر «دولاراً غربياً» في كل شهيقٍ وزفيرٍ منّا لزيادة ربحها، وجشعها.
ولم يكن يعرف السوريون في شمال وشرق البلاد، على مر سنين طويلة، أين يذهب كل هذا النفط الذي يشاهدونه يستخرج من بواطن أرضنا بأم أعينهم؟ لكانوا ارتاحوا قليلاً، مثلاً، لو علموا أن إيراداتها تستثمر بأي مكان سوريّ آخر، أو أنها تختزن لدى «دولتنا»... كانوا يزرعون ويحصدون، وفي كل موسمٍ تقلّ إنتاجيتهم لغلاء المواد اللازمة، أو قلتها، وعلى رأسها المحروقات، بينما تجري شاحنات نفطنا أمامهم.
وقد كنا جميعاً أطفالاً، نلعن ونشتم التقنين الكهربائي المقيت بعد عودتنا من مدارسنا، أو بيوم عطلتنا، لتحرمنا من مشاهدة مسلسلٍ كرتوني نحبه، ثم في مراهقتنا بدأنا تعلم «الطوابير»، في الخبز دوماً، وفي أزمة الغاز الدورية، ولم تكن تُحل أي من هذه المشاكل وإنما تزايدت منذ ما قبل انفجار الأزمة والحرب أساساً.
ولا يتفهم السوريون أيضاً لم، وكيف، أنه رغم تمكننا من تحرير بلادنا بأكملها، ونيل استقلالنا من المستعمرين الفرنسيين أنفسهم، احتُل الجولان فيما بعد، ولا يزال على مر السنين اللاحقة!
لم يدرك السوريون خلال كل هذه السنين لم كل هذا البؤس في حياتهم؟ مصحوباً بمصادرة حقهم بالتعبير عنه، ومحاصرته، إلا بما يرضي الوحوش، وبإدارتهم، من مسرحيات وأغان ومسلسلات مأجورة تتلاعب على مآسينا بمحاولة تنفيسها. ولبساطتنا كنا نضحك عليها، نضحك في المسرح أو خلف التلفاز، كنا نضحك بالحقيقة على أنفسنا وواقعنا، وما إن ينتهي الأمر، حتى يعود البؤس متراكماً فوق ما قبله. ولم نعلم بغالبيتنا معنى «السياسة»، قد كانت كريهة جداً هذه الكلمة، وتسبب أزمةً في دواخلنا، كان وقعها على آذاننا يستجلب منعكساً شرطياً متمثلاً بخليطٍ من الخوف والغرابة «نحن ما دخلنا بالسياسة» في الوقت الذي كانت تدخل به كلّ بيتٍ، وتهدم جدرانه حجراً تلو آخر. لم يمارس السوريون «السياسة» فقد كان «لها أصحابها» على حد تعبيرهم، من مرتدي البزات الرسمية، والكرافات، الذين يخبروننا عن مدى سعادتنا، و«منّة» الوحوش علينا... «مثقفو» وحوش الفساد والنهب، ولاحقاً: الحرب.
ولم يعلم السوريون حتى ماذا جرى في 2011؟ كان جلّ ما يريدونه هو الصراخ! صراخٌ بأي كلامٍ، صراخٌ فقط، يُخرج أسىً وبؤساً مكتوماً ومكبوتاً لعقودٍ طويلة سابقة، جميعهم، من تجمّعات «معارضة أو موالاة»، كان الفعل واحدٌ: صراخٌ بأي شيء، لأي شيء، وظنّوا أنفسهم منقسمين، ومتخاصمين، وظنّوا أنهم يمارسون «السياسة» ويدافعون عن أنفسهم قبل أن يدركوا من جديد: أن تلك السياسة فرّقتهم، وتاجرت بدمائهم، واستجلبت وحوشاً أخرى، من أخوة وأبناء عم الموجودة أساساً، وأن هذي السياسة، والثقافة، والمشروع، والتغيير، إن لم تكن جميعها «من تحت»، لا من «مثقفي» البزّات الرسمية لأيّ كان، ولا من «مثقفي» وسائل التواصل، ولا من أي أحدٍ يحاول إقناعنا بأي شكلٍ بأن الحلول ستأتي على طبقٍ ذهبيّ بأيدي أيٍ كان غيرنا ممن هم «فوق»، وبسواعدنا، فهي سياسة تعادينا جملةً وتفصيلاً.
أما وبعد عقدٍ من المرارة الأكبر، والأشدّ، ها هي البلاد ممزقةٌ بأيدي وحوشها، والفقر ينهش بجسد أهلها، والألم واحدٌ على الجميع منها، المشتتون داخلاً أو خارجاً، نتحيّن اللحظة، ندرّب سياستنا، ونتبادلها، وتصطك أسناننا، كسوريين أينما كنا... واصطكاك الأسنان لا يكون بسبب البرد أو الخوف فقط، بل وأيضاً بسبب الغيظ وبسبب الغضب... تصطك أسناننا لتغييرٍ وانتفاضةٍ يحوم ظلها، تفرض اقتلاع جميع أعدائنا، نحو بناء بلدٍ ووطنٍ واحدٍ تمت سرقته -مؤقتاً- من أيدي أجدادنا، يوسف العظمة ورفاقه زعماء الثورة السورية الكبرى، السوريين الأوائل، نحو استعادته بثورةٍ سوريةٍ أكبر أمامنا، واستكمال الطريق.