جولة لافروف الخليجية و«ضبط الساعة المفصّل»
فتحت زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى منطقة الخليج (من 8 إلى 12 آذار الجاري) الباب على تكهنات وتحليلات عدّة، خصوصاً أنها تجري في وقتٍ تشهد فيه العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة و«حلفائها» تقلبات وتبدلات غير مسبوقة.
رغم أن زيارة لافروف - التي شملت السعودية والإمارات وقطر- ليست الأولى من نوعها، بل سبقتها لقاءات عدّة شهدتها موسكو وبعض العواصم الخليجية، غير أنها تمتعت بمتابعة ووقعٍ خاص، بموجب ما عكسته من تحولات ليست وليدة اليوم إنما توفرت الأرضية لنضجها على مدار الأعوام القليلة الماضية، ولا سيما بالنسبة للسعودية التي اعتادت أن تلعب دوراً قيادياً ومؤثراً على مستوى منطقة الخليج خصوصاً في القضايا ذات الطابع الاستراتيجي.
وإذا أردنا ترتيب العوامل التي تضفي أهمية بالغة على جولة لافروف، سنجد في رأس القائمة التراجع الجاري مؤخراً في العلاقات الثنائية السعودية الأمريكية؛ ففي منتصف شباط الماضي أثار المكتب الصحفي للبيت الأبيض مسألة في غاية الحساسية بالنسبة للمملكة، وهي الإعلان عن أن إدارة بايدن تنوي التباحث بشكلٍ أساسي مع الملك سلمان بن عبد العزيز وليس مع نجله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو ما اعتبر بمثابة إعلان أمريكي صريح عن رغبةٍ بتحجيم بن سلمان الذي يقوم بأعمال الحكم فعلياً، وكذلك محاولة أمريكية واضحة لتأليب البعض في الداخل السعودي بما قد يُمهِّد لأزمة حكم على أرضية اشتداد الصراع داخل العائلة الحاكمة.
بهذا الصدد، لا يزال يعاند بعض من يرى في الولايات المتحدة واحة للحريات والديمقراطية في العالم محاولاً حصر أسباب هذا التراجع في العلاقات السعودية الأمريكية إلى قضية مقتل جمال خاشقجي و«الحساسية» الأمريكية إزاء المسائل التي ترتبط بحقوق الإنسان، متجاهلاً أن مثل هذه المسائل عادةً ما تشكّل الذرائع التي تُمرَّر عبرها السياسات المحكومة بالمصالح.
وبالحديث عن المصالح، فإن «الجرم» الأكبر الذي ارتكبته السعودية بالنسبة لواشنطن يتمثل في الضربة القاصمة التي وجهتها للمصالح الأمريكية قبل عام، حين قامت في 6/3/2020 وفي أحد اجتماعات «+OPEC» بالإعلان عن رفع إنتاج النفط لديها ما أدى لتخفيض أسعاره عالمياً إلى أقل من 20$ للبرميل، وبالتالي إلى شلّ النفط الصخري الأمريكي الذي يتسم بتكلفة إنتاج أعلى، وهو ما يبدو أن الولايات المتحدة لن تغفره للسعودية إطلاقاً، ما استدعى ردود فعل أمريكية متتالية لم يكن آخرها التقرير المرتبط بمقتل خاشقجي، ودغدغة تطلّعات البعض داخل البلاد عبر التلويح بعدم الاعتراف ببن سلمان.
في الأحوال الطبيعية، يمكن القول إن إدارة بايدن تريد «فتح بازار» جديد مع السعودية يفضي إلى نتيجة مشابهة للبازار الذي قاده ترامب عام 2017 وانعكس بصفقات مشتركة تجاوزت قيمتها 400 مليار دولار. لكن الجديد هذه المرة أن السعودية تبدي ممانعة ملموسة مقابل الضغط الأمريكي، ممانعة لا تقف عند حد الحفاوة بلافروف وإرسال إشارة مفادها أن «لدينا خيارات سياسية أخرى»، بل وكذلك التلويح (وإن بشكلٍ غير رسمي حتى الآن) بأن لدى دول الخليج القابلية للبحث في موضوع تغيير/ تنويع مصادر السلاح، بما في ذلك الاندفاع نحو مقاتلات سوخوي 57 و35 ومنظومة S400 وصواريخ كورنت 9M133 الروسية والطائرات دون طيار صينية الصنع.
في المقابل، تملك روسيا مصلحة جديّة في إحداث ثغرة في منطقة الخليج التي درجت العادة على أن تعتبر محميّة أمريكية، ما عطل لسنوات إمكانية الاستفادة من التعاون المحتمل بين الجانبين، والدخول الروسي في لحظة اشتداد التناقضات بين واشنطن والخليج هو واحد من التعبيرات الجليّة على ترابط المصالح في العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، فضلاً عن أن تعميق العلاقات يسمح بدفع البحث في العديد من الملفات نحو الأمام، ويمهد الأرضية اللازمة لتسارع حلها: العلاقات الروسية الخليجية، والخليجية الخليجية، والخليجية الإيرانية، والملف النووي الإيراني، وأمن الخليج، وسورية، واليمن، وفلسطين، ولبنان... وهو ما اختصره بيان الخارجية الروسية بقوله إن الزيارة تقوم بـ«ضبط الساعة المفصَّل» بشأن الملفات الرئيسية المطروحة على جدول الأعمال الدولي والإقليمي.
أخيراً، تبقى ضرورة التنويه إلى أن ما سبق لا يعني إطلاقاً أن الخليج قد أتمّ انعطافه الضروري واللازم نحو الشرق، ولا أنه بات جاهزاً للقطع تماماً مع مشاريع التوريط الأمريكي، لكن المؤكد أن دول هذه المنطقة تضطر – دفاعاً عن نفسها ومصالحها- أن تجد ما يمكّنها من موازنة الضغط الأمريكي المستمر والمتواصل عليها، وهي العملية التي بمجرد انطلاقها وحصاد ثمارها الأولى ستكون مرشحة موضوعياً للتصاعد والتسارع.