حكايا سيقصّها الأجداد عن المملكة المغربية

حكايا سيقصّها الأجداد عن المملكة المغربية

أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بـ «الصحراء الغربية» كهدية بسيطة للنظام المغربي بمناسبة قبوله لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، الذي بدأت شركاته تستعد لاستثمار الثروات الوفيرة لهذه الصحراء، وليكون بذلك الشعب المغربي على موعد لمواجهة دامية جديدة على الصحراء بعد هدنة طويلة.

لم تكن هذه القرارات مفاجئة، فقد حمل التصعيد الأخير والمواجهات البسيطة التي جرت بين جبهة البوليساريو في الأشهر الماضية ما يكفي من الإشارات إلى أن تصعيداً جديداً يلوح في الأفق، فما هي قصة الصحراء المتنازع عليها؟ ومن المستفيد من كل ما يجري؟

بعد نزاع مسلح طويل عرفته الأجيال السابقة جيداً وكان يعد أحد بؤر الصدام بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الغربي وقعّت المغرب في 1991 على وقف إطلاق النار مع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب «البوليساريو»، استمر حتى الأسابيع القليلة الماضية، فما قصة هذا النزاع الذي حشد فيه الفريقان المتخاصمان كل حلفائهما في العالم لأجله؟


الاستعمار: صافرة البداية

النزاع الدائر حول الصحراء الغربية أو الأقاليم الجنوبية  -كما تراها المغرب – لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه أحد التركات الثقيلة التي خلّفها الاستعمار الغربي في كل بقاع الأرض، فهذه المنطقة التي تقع على الساحل الغربي للقارة الإفريقية والتي تحدها المغرب من الشمال والجزائر من الشمال الشرقي وموريتانيا من الشرق والجنوب، قد خضعت لسيطرة الاستعمار شأنها شأن كل الدول المحيطة، وكانت خرائط النفوذ بين الدول المستعمرة تتغير بتغير مصالحها وبشدة المقاومة التي تعرّضت لها من الشعوب صاحبة الحق في هذه الأرض. ولأن هذه الحقبة حملت الكثير من الأحداث والتقلبات فلا مجال لاستعراضها بتفاصيلها ضمن حدود هذه المقالة، لكن وعند قراءة التاريخ الذي أوصلنا إلى أزمة الصحراء نراه مشابهاً لمعظم الأزمات التي خلّفها الاستعمار وورثتها أنظمة لم تقم بحلها إلى أن تفاقمت وانفجرت، لكن قضية الصحراء تحديداً لا تعتبر قضية داخلية مغربية فحسب، بل قضية إقليمية سيؤثر شكل حلها على المغرب والجزائر وموريتانيا بالحد الـدنى. ولا يستطيع أحدٌ إنكار أن شعوب الدول المعنية في هذه الأزمة قاتلت في تاريخيها جنباً إلى جنب في مواجهة الاستعمار الغربي ورسخّت هذه المقاومة المصير المشترك الذي فتح أبواب جهنم في وجه الاستعمار، ومن هنا كان لابد بالنسبة لهم شق صفوف المقاومة، إما عبر تثبيت الأنظمة التابعة وإما عبر إشغالهم بقضايا ومشاكل جزئية تشغلهم عن تحقيق الاستقلال الناجز الذي لا ينتهي إلا ببناء دولٍ مستقلة اقتصادية قادرة على تأمين الحياة الكريمة لمواطنيها.

عودة إلى التاريخ

استقلت المملكة المغربية عام 1956 لكن الاحتلال الاسباني أبقى على تواجده في منطقة الصحراء الجنوبية ليتم لاحقاً في مؤتمر سينترا 1958 إعلان منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب إقليماً واحداً يتبع لإسبانيا ليتم إعلانه لاحقاً في العام 1961 محافظة اسبانية، وترافق هذا بالطبع مع تحركات واسعة للمقاومة التي قاتلت ببسالة لتحرير الأرض من الاستعمار، وبدأت جبهة «البوليساريو» بالظهور على الساحة بعد تأسيسها في العام 1973 لتلعب لاحقاً دوراً مركزياً في هذا الصراع.

بالطبع جرى ضمن العديد من المؤتمرات والقرارات تحديد إطار قانوني لمصير هذه الصحراء والذي يمكن تكثيفه بما يلي: أولاً بالاعتراف بوجود صلات بين هذا الاقليم وبين المغرب وموريتانيا. ثانياً ضرورة إجراء استفتاء لحق «الصحراويين» بتقرير مصيرهم، والثالث والأهم هو ما يعرف باسم اتفاقية مدريد الثانية في العام 1975 وهي اتفاقية وقّعت بين المغرب وموريتانيا والاحتلال الاسباني، والتي تقضي بانسحاب القوات الاسبانية مع الحفاظ على امتيازات مجحفة لاستثمار الثروات الموجودة في المنطقة، وتقضي الاتفاقية أيضاً بتقاسم الصحراء بين المغرب التي حصلت على منطقة وادي الساقية الحمراء في الشمال، وموريتانيا التي حصلت على وادي الذهب في الجنوب.

قاتلت جبهة البوليساريو الاستعمار الاسباني ولم تكن علاقتها مع المغرب سيئة دائماً كما هي اليوم بل يبدو واضحاً أن موقف المغرب كان هو الحاسم في هذا الصراع، فجبهة البوليساريو كانت تحشد الدعم لقضيتها لمواجهة الاستعمار ولم تكن تمانع أن تتلقى دعماً من المغرب في هذا الخصوص وهو ما كان سيشكل - لو حصل - نهاية مختلفة تماماً، لكن سلوك المغرب الحذر مع الجبهة وتوقيعه على اتفاقية مدريد مع اسبانيا جعله في الخندق المقابل بالنسبة للبوليساريو التي باتت تتلقى دعماً كبيراً من الجزائر وأعلنتها معركة مفتوحة مع المغرب وموريتانيا واسبانيا. وساهم هذا الظرف بتعزيز المطالب الانفصالية، كما ساهم سلوك المغرب اللاحق بحشد قوى واسعة من المعسكر الاشتراكي للوقوف في صف البوليساريو.

استطاعت المغرب السيطرة على جزء كبير من الصحراء يصل إلى 80% من إجمالي مساحتها الكلية وسيطرت ضمناً على مدينة العيون التي تعتبر عاصمة جمهورية الصحراء العربية التي أعلنتها جبهة البوليساريو، وجرى الاتفاق مع موريتانيا التي تنازلت عن حقوقها في الصحراء ووقعت اتفاقية عدم اعتداء مع جبهة البولساريو التي أصبح نشاطها العسكري يرتكز ضد القوات المغربية. مما دفع المغرب لإقامة جدارٍ فاصلٍ بين الأراضي الخاضعة لسيطرتها وتلك التي تسيطر عليها جبهة البوليساريو.

جبهة البوليساريو - الصحراء الغربية

وقف إطلاق النار وما بعده

استطاعت الأمم المتحدة  في 1991 الوصول إلى وقفٍ مشروط لوقف إطلاق النار على أن يجري استفتاء شعبي يقرر مصير الصحراء، فإما أن تنال «الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية» استقلالها، وإما يحسم مصير الإقليم ليكون إقليماً جنوبياً تابعاً للمغرب. واستمر سريان وقف إطلاق النار هذا حتى جرى إلغاؤه من قبل جبهة البوليساريو في 14 تشرين الثاني من العام الجاري بعد اتهامات متبادلة من الطرفين بتصعيد الوضع وخرق وقف إطلاق النار المعمول به. ومن جهة أخرى لم يجر تنظيمٌ للاستفتاء المقرر، ويرد ذلك لمجموعة من الأسباب منها عدم رغبة المغرب بإجراء هذا الاستفتاء بالإضافة إلى وجود عوائق جدية تمنع إنجازه أبرزها تحديد المواطنين الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم بسبب درجة التداخل الكبير بين شعوب المنطقة وبسبب وجود آلاف من النازحين.

لماذا وصلنا إلى هنا؟

مع الاعتراف الأمريكي الأخير بشرعية السيطرة المغربية يمكن جدياً أن تتجدد معارك حقيقية في المنطقة وإن كان عدد الضحايا في جولة العنف السابقة وصل إلى أكثر من 15 ألف قتيل من الجانبين لا يمكن توقع مآلات الصدام القادم، أو الأطراف التي يمكن أن تتدخل بشكلٍ مباشر هذه المرة.

نقاش الموضوع من زاوية تاريخية يوصلنا إلى نهاية مسدودة، باللإضافة إلى كون اصطفافات الدول المعنية المختلفة ساهمت بتعقيد الأمر أكثر. فالقضية المركبة والمتداخلة تحتاج إلى حلٍ مركب أيضاً، ففي البداية تعتبر معظم القوى السياسية المغربية «النظام الحاكم والمعارضة» الصحراء جزءاً لا ينفصل عن المغرب وتثبت العديد من الأحداث التاريخية الصلات القديمة التي تربط المغرب بالصحراء، لكن النظام المغربي ومنذ أن نالت البلاد استقلالها وضع نفسه أداة بيد الغرب وساهم عبر سلسلة من الإجراءات بسحب ثروات بلاده والصحراء لحساب الاستعمار، وهذا كان مبرراً كافياً بالنسبة للجزائر وغيرها من القوى من المعسكر الاشتراكي بالوقف إلى جانب «البوليساريو»، ويرد هذا الدعم إلى مجموعة من الأسباب أهمها أن الجبهة قادت المقاومة ضد الاستعمار ووقفت بمواجهة المغرب عندما اتضح موقف المملكة المهادن وكسبت «البوليساريو» بنضالها الطويل هذا الكثير من التأييد من قبل الشعوب المقهورة التي عانت من الاستعمار والأنظمة التابعة له، بالإضافة إلى سلوك المغرب في الجزء الذي سيطرت عليه من الصحراء، فهذه المنطقة عانت من السياسات الليبرالية ذاتها التي عانت منها المغرب ولم تأخذ هذه المنطقة الغنية حصة كافية من مشاريع التنمية مما يجعل المنطقة بمثابة قنبلة موقوتة تملك ما يكفي من الأسباب للاستقلال، لكن بالمقابل تطرح بعض القوى المغربية سؤالاً مشروعاً حول مصلحة «شعب الصحراء» من الاستقلال وترى في ذلك تقسيماً يضعف البلاد ويجعلها عرضة لكل أشكال الاستغلال والمتجارة بالحقوق. لكن المشكلة اليوم لا ترتبط فقط بكيفية حل المشكلة بل حول السبب خلف فتح هذه الجبهة مجدداً ومن المستفيد من ذلك؟

كما ذكرنا في البداية، فالخطوة الأمريكية الأخيرة كانت متوقعة ولها مقدماتها التي تعود إلى تراجع المغرب تدريجياً عن قرار مجلس الأمن، فالمملكة المغربية بدأت تقدم طرحاً بديلاً للأزمة يقوم على بسط سيطرتها الكاملة على الصحراء بمقابل تمتعها بحكم ذاتي، وهذا ما لاقى قبولاً من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في وقته واعتبر البلدان طرح المغرب للتسوية «طرحاً معقولاً» ويترافق هذا السلوك مع ما كان يجري بشكل تدريجي فالعديد من الدول التي كانت تعترف بالجمهورية الصحراوية سحبت اعترافها، وجرى افتتاح 15 قنصلية أجنبية في مدينة العيون، وكان آخرها لدولة الإمارات «بومة التطبيع الجديدة»، لتكون بذلك الدولة العربية الوحيدة التي تعلن صراحة وقوفها إلى جانب المغرب في هذا الصراع.

تكون الصورة بعد هذه المقدمة أكثر وضوحاً، فيجري مؤخراً دفع المغرب من قبل قوى فاعلة في العالم بقيادة الولايات المتحدة للتصعيد بعد أن أخذت ضوءاً أخضر من 2 من أعضاء مجلس الأمن الدائمين، ومع الإعلان عن التطبيع رسمياً بعد أن كان يجري التنسيق له تحت الطاولة نشهد إذاً  ولادة تحالفٍ جديد ميزته الأولى أنه ولد ميتاً...

الصحراء ثمنٌ للتطبيع!

يروج النظام المغربي أن القرار الأمريكي بالاعتراف بالصحراء جزءاً من المملكة المغربية انتصارٌ كبير، ويجري الترويج إلى أن اتفاق تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني لا يعد حدثاً جديداً! فوزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة قال في تصريحاتٍ له «نحن لا نتحدث عن تطبيع، لأن العلاقات كانت بالأصل طبيعية» ليحاول النظام المغربي الترويج لرسالة واحدة وهي أنه الرابح الوحيد في هذه الصفقة التي لم يضطر حتى لدفع ثمنٍ لها بسبب أن علاقته مع الكيان كانت طبيعية دائماً! لكن قراءة سريعة للموقف كفيلة بكشف زيف هذه التصريحات والأيام السوداء التي تقبل عليها المملكة المغربية!

وضع النظام المغربي نفسه وجهاً لوجه مع القضية الفلسطينية، وأعلن – رغم التصريحات الفارغة التي تقول عكس ذلك – وقوفه ضد قضية الشعب الفلسطيني وتقديم نفسه كخادمٍ مطيع للاستعمار الغربي كما كان دائماً ليجد نفسه في تناقض مضاعف مع الشارع المغربي الرافض للتطبيع ومع القوى السياسية الأساسية في البلاد ومع كل من حمل القضية الفلسطينية من شعوب المنطقة. لكن ومع ذلك لن يزيد الإعلان عن تطبيع العلاقات إلا حقد كل القوى التي ترفض التطبيع على الأنظمة المطبّعة. ومن جهة أخرى وبالعودة إلى الصحراء، وضعت المملكة نفسها في مواجهة القانون الدولي وأدخلت نفسها مع كل دول الإقليم الأساسية، لتتلقى لاحقاً صفعة أخرى مع إعلان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي جوزيف بوريل أن الاتحاد يدعم موقف الأمم المتحدة فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية والذي تجاوزه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعترافه بالصحراء أرضاً مغربية. أي أن المغرب الآن يقف في مواجهة العالم ويعلن فتح معركة غير محسوبة النتائج، فالجلسة المغلقة التي ستعقد لنقاش الموضوع في الأسبوع القادم لن تحمل مفاجآت وخصوصاً بعد أن أعلنت روسيا موقفها الرافض للقرار الأمريكي.

المغرب ترى في الولايات المتحدة سنداً كافياً وتعلن مسبقاً خروجها عن الشرعية الدولية وتضع بذلك كل البيض في سلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منتهي الصلاحية، الذي ترتفع الأصوات ضد قراره بخصوص الصحراء مما قد ينتج عنه تراجعٌ أمريكي عن هذا الاعتراف لتكون المملكة المغربية في مواجهة ستغير شكل المغرب بشكل نهائي...

آخر تعديل على السبت, 26 كانون1/ديسمبر 2020 15:58