«قراصنة وحروب سيبرانية»... الرأسمالية تثبت تخلفها مجدداً
العالم أصبح مرفوعاً على «الشبكة»... متصلاً بالبنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكما يمكن من أي مكان على الشبكة أن ترسل أو تستقبل معلومة إلى أي مكان آخر متجاوزاً الحدود الجغرافية، يمكن أيضاً أن يتجاوز المحترفون الحصون الأمنية للوصول للعنصر الأهم في المنظومة الاقتصادية والسياسية اليوم وهي: البيانات وأنظمة التحكم بها.
في عالم اليوم، كل بنية اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية... عالية التنظيم، تُدار عبر أنظمة تحكم متفاوتة التعقيد: تجمع البيانات تصنفها وتعالجها وترسل الأوامر. الطيران، الطاقة، البنى المالية، الشركات الكبرى، الخدمات الحكومية، وأيضاً الجيوش والقطاعات العسكرية والأمنية. وجميعها مؤتمتة وتدار إلكترونياً... وبالتالي يمكن الوصول إليها عبر الشبكة ومن خلال اكتشاف الثغرات الأمنية، الأمر الذي يقوم به المحترفون حصراً، هؤلاء الذين يعلوا شأنهم في السياسة الدولية ويرتفع التركيز عليهم تحت مسمّى: «قراصنة المعلومات».
هذه المجموعات التي قد تتبع بتسمياتها وشعاراتها لدول ما، هي مجموعات غير شرعية وعابرة للقارات... ويمكن مقارنتها بشبكة «الإرهاب الدولي» وهي بطبيعة الحال ليست مجموعات عرضية بل تقوم بعمليات استخباراتية وأمنية لجمع المعلومات واختراق نظم التحكم الرسمية، الأمر الذي يمكن أن يتعدى حدود تعطيل هذه النظم وصولاً لاستخدامها.
فمثلاً يمكن أن تعطّل القرصنة الإلكترونية أنظمة الطيران المدني، أو حتى العسكري... أن توقف توليد الطاقة، وتعطلّ أنظمة المرور والقطارات والنقل البحري، يمكن نظرياً أن تعطّل أنظمة الصواريخ أو تتحكم بها وبوجهة إطلاقها في حال نجاح الاختراقات، يمكن أيضاً أن تدخل إلى الأرصدة المالية وتقوم بعمليات تحويل أو حذف. أن تسرق معلومات عن اللقاحات والبحوث العلمية، أن تخترق أنظمة التسعير المؤتمة للمواد الأساسية في البورصات العالمية وتتسبب بأزمات اقتصادية، أن تحصل على كل المعلومات الاستخباراتية الهامة... سيل هائل من الإمكانيات النظرية التي تحكم واقع ما يسمى «الحرب السيبرانية». هذه الإمكانيات التي تجعل استخدام محترفي قطاع المعلومات والاتصالات أداة أساسية في الصراع الدولي اليوم، فهم جنود معركة الهجوم من أجل اختراق أنظمة التحكم والوصول للبيانات، وهم أيضاً من يشكلون الحصون الدفاعية ضد الاختراقات لمنع حدوثها.
تطورت عمليات الهجوم على يد الأمريكيين بالدرجة الأولى، وهذا لأسباب موضوعية أولّها أن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات انطلق في الولايات المتحدة التي لديها سبق فيه حتى اليوم، رغم لحاق قوى دولية مثل الصين مثلاً بل وتجاوز الولايات المتحدة في بعض مجالات هذا القطاع. أما السبب الثاني لاعتبار الولايات المتحدة «البادئة» في الحرب السيبرانية، فيعود للسياسة فأمريكا محكومة بالعدوانية نتيجة لوظيفتها السياسية منذ منتصف القرن الماضي، باعتبارها مركز المركز الرأسمالي الغربي الساعي للحفاظ على هيمنته ومنع تقدّم الآخرين، وقد كانت القرصنة الإلكترونية أداة غربية لاختراق الأنظمة الأخرى، لا يخفيها الأمريكيون.
ولكن يمكن الجزم بأن كافة القوى الدولية الأساسية اليوم مجهّزة بشكل عالٍ لخوض هذا الصراع، والردع السيبراني أصبح ضرورة موضوعية لدول مثل الصين وروسيا وبطبيعة الحال لدول القارة الأوروبية، كما تمارسه دول إقليمية أخرى مثل إيران على سبيل المثال لا الحصر.
وكما كانت القنبلة النووية يوماً ما هي الإنجاز الذي تسابقت عليه القوى الأساسية دولياً والذي كان يعكس أعلى مستوى من التطور التكنولوجي، فإن أدوات الحرب السيبرانية اليوم يتكثّف فيها أعلى مستوى من التكنولوجيا والمعرفة والتنظيم. وهي سلاح يتلاءم مع حروب ما بعد النووي، حيث لم يعد من الممكن أن تتقابل الجيوش الكبرى وجهاً لوجه وسلاحاً لسلاح.
إنّها المفارقات التي تضعها المنظومة الرأسمالية المتخلفة أمام المجتمع الإنساني، تتجلى بكل وضوح... فقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطور أنظمة التحكم ووحدة العالم وترابطه عبر الشبكات الإلكترونية، جميعها ميزات تخدم ارتقاء وتنظيم المجتمعات وترابطها، ولكنها تستخدم اليوم في الفوضى الرأسمالية، في نهج العدوانية التي تهدف الحفاظ على الهيمنة وعلاقات الاستغلال وتبعية دول لأخرى ومجتمعات لنخب... لتتجلى في هذه الحرب أيضاً استخدام أعلى العقول والكفاءات الشابة لتكون جنوداً وراء الشاشات تُهدر طاقاتهم العلمية لغرض الفوضى أو حتى ردع الفوضى!