«معاداة السامية» سلاحاً «جديداً» لتركيع مناهضي الرأسمالية
لا تزال تتفاعل حتى اللحظة أصداء تعليق حزب العمّال البريطاني عضوية رئيسه السابق، جيرمي كوربين، على خلفية اتهامات تتعلق بـ«معاداة السامية»، وهو موضوع يحتاج إلى الوقوف عنده جدياً، لا لأهميته على صعيد بريطانيا فحسب، بل ولارتباطه العميق بالدور المستقبلي للقوى اليسارية والتقدمية عالمياً، فضلاً عن كونه يمثل نموذجاً فاقعاً عن المستوى الذي وصل إليه التحكم والتلاعب الذي تمارسه وسائل الإعلام والنخب الحاكمة في الغرب اليوم.
منذ بداية قيادته لحزب العمال البريطاني في أيلول 2015، تعرّض جيرمي كوربين إلى مستوى غير مسبوق من الهجمات الإعلامية والسياسية، ليس من مناوئي الحزب فحسب، بل من تيارات موجودة داخله أيضاً. في ذلك الوقت، جرى اعتبار فوز كوربين بقيادة «العمال البريطاني» بمثابة فوز لـ«المتطرفين اليساريين» فيه، ومنذ ذلك الحين لم يدّخر الجناح اليميني جهداً لتقويض سياسة كوربين، ابتداءً من ترتيب استقالة بعض نواب الحزب في البرلمان بهدف إحراج كوربين إبان التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، ومن ثم افتعال مشكلة «معاداة السامية» من جانب بعض القياديين الذين قاموا بـ«تسريب» تقرير عن عمل وحدة الشؤون القانونية في الحزب إلى الإعلام، وصولاً إلى إجبار القيادية في الحزب، ريبيكا لونغ بايلي، على تقديم استقالتها من حكومة الظل البريطانية عام 2019 بتهمة «معاداة السامية» أيضاً.
«لن يكون رئيساً للوزراء»
لا يقتصر الهجوم ضد كوربين على الجناح اليميني في حزب العمال، بل يمكن القول إن قرار «تصفيته سياسياً» قد اتخذ من قبل مؤسسة الحكم الفعلي في بريطانيا والتي تمتد أذرعها لتطال أجزاءً كبيرة داخل حزب العمال نفسه. في هذا الصدد مثلاً نقل صحفيون عن جنرالات عسكريين بريطانيين في وقتٍ مبكر من وصول كوربين إلى قيادة الحزب أن القوات المسلحة البريطانية ترى أن كوربين يمثل تهديداً أمنياً وأن القوات المسلحة لن تعمل تحت قيادته كما أن جهاز المخابرات البريطاني يرفض الاجتماع معه. ترافق ذلك مع حملة إعلامية قادتها صحيفة «التايمز» التي «نقلت» عن مسؤولين رفيعين تقديرهم أن كوربين «أضعف من أن يصبح رئيساً للوزراء» وأنه «يعاني من ضعف في الذاكرة»، واكتسبت هذه الحملة زخماً واسعاً بفعل شبكة العلاقات الإعلامية والسياسية التي قادها رئيس الوزراء السابق والقيادي اليميني في حزب العمال توني بلير، بالتوازي مع تصريحات الخارجية الأمريكية التي اعتبرت نجاح كوربين برئاسة الوزراء «أمراً محفوفاً بالمخاطر وسيكون من الصعب للغاية أن يحدث». باختصار، تعاملت نخبة الحكم مع كوربين منذ انتخابه في قيادة حزب العمال بمثابة مشكلة ينبغي حلها وليس ممثل لتيار سياسي ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار.
تجاوز الخطوط الحمراء
تجاوز كوربين الخطوط الحمراء المرسومة للصراع بين حزب المحافظين وحزب العمال، وشكّل مصدراً للقلق بالنسبة للنخبة الحاكمة، حيث عارض صراحةً – خلافاً لأي قيادي آخر لحزب العمال منذ ثلاثينيات القرن العشرين – السياسة الخارجية العدوانية والتوسعية لبريطانيا، وبشكلٍ خاص علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر أن معظم الحملة الإعلامية المناهضة لكوربين تركزت على مسألة كونه رئيساً لائتلاف «أوقفوا الحرب». وجاءت إحدى الهجومات المباشرة المبكرة ضد سياسته في كانون الأول 2015، حينما خالف 11 عضواً في البرلمان عن حزب العمال سياسة الحزب وصوتوا بالموافقة على حملة قادها حزب المحافظين لتوسيع نطاق قصف بريطانيا للعراق ليشمل سورية أيضاً. ومن المسائل التي أثارت حفيظة النخب الحاكمة في بريطانيا هي تصريح كوربين برفضه استخدام الأسلحة النووية، رغم أن حزب العمال التزم سابقاً بتحديث البرنامج النووي البريطاني. كما وعد بأن حكومة حزب العمال ستعترف بالدولة الفلسطينية فيما لو نجحت في الانتخابات. وكسر واحدة من المحرمات الأخرى في السياسة الخارجية عندما واجه مباشرة إرث توني بلير واعتذر نيابة عن حزب العمال عن مشاركة بلاده في حرب العراق.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير بحسب عدد من المحللين فهي مسألتين: تتمثل الأولى أن كوربين ردّ على الهجوم الإرهابي الذي طال مانشستر باستضافة مؤتمر صحفي ربط فيه انتشار الإرهاب بـ«الحروب التي دعمتها حكومتنا أو حاربت خلالها في دولٍ أخرى»، وهذا ما يهدّد بتسليط الضوء على الجانب المظلم من بنية الحكم البريطاني ويستبق محاولات تجري بالفعل لإشعال فتيل الصراع بين الأوروبيين والمهاجرين. أما الثانية، فهي «الموقف الضعيف لكوربين اتجاه روسيا» ولا سيما بعد رفضه المزاعم عن ضلوع موسكو في نشر وثائق سرية تتعلق بالمفاوضات التجارية بين ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة.
الاتهام الجديد
بعد «التسريب» الذي ذكرناه سابقاً حول مزاعم «معاداة السامية» داخل حزب العمال، أصدرت «هيئة مراقبة المساواة وحقوق الإنسان في بريطانيا» تقريراً زعم أن الحزب قصَّر في مواجهة «معاداة السامية» داخله خلال فترة رئاسة كوربين الممتدة من 2015 و2019. ليردّ كوربين بأن التقرير بالغ في تقدير حجم المشكلة في صفوف الحزب، حيث أن معظم الأمثلة المزعومة التي «كُشف عنها» حدثت قبل استلام كوربين لرئاسة الحزب، وجرى تسليط الضوء عليها من قبل أشخاص نقّبوا في حسابات التواصل الاجتماعي لأعضاء في حزب العمال، مركزين غالباً على فترة هجوم الكيان الصهيوني على غزة في نهاية عام 2014، ليستنتجوا بأن هنالك حملة معاداة سامية داخل الحزب!
هنا، تلقف الجناح اليميني المبادرة وعلّق عضوية كوربين في الحزب، بحجة أنه لم يتراجع عن تصريحاته، وأكد الرئيس الحالي للحزب كير ستارمر (الذي يصف نفسه بأنه «يسار ناعم» علناً) أنه «سيغير ثقافة حزب العمال» وينفذ توصيات تقرير اللجنة المذكورة في العام الجديد متعهداً بأن «ينزع سمّ معاداة السامية». في المقابل، ردّ كوربين على هذه الادعاءات مؤكداً أن تعليق عضويته هو خطوة سياسية وليست تنظيمية، متعهداً بمعارضتها بشدة، مشيراً من جديد إلى قناعته بأن هنالك مبالغة في تقدير حجم معاداة السامية داخل حزب العمال «لأسباب سياسية واضحة من قبل خصومنا داخل الحزب وخارجه وكذلك من قبل الكثير من وسائل الإعلام».
حتى لا نطيل كثيراً في تفنيد الاتهام وتوضيح طابعه السياسي، سنكتفي بالإشارة إلى أن نسبة كبيرة من الذين علقت عضويتهم مؤقتاً أو فصلوا تحت يافطة «معاداة السامية» من جانب تيار توني بلير داخل حزب العمال هم أعضاء يهود أو لهم أصول يهودية، مثال جاكي والكر وتوني غرينستاين وسيريل تشيلسون وغلين سيكر وغيرهم الكثير.
إرهاب اليسار هو الهدف
ما يهمّ في هذه الحملة المعادية (التي اندلعت شرارتها بالمناسبة من جانب مركز سيمون ويزنتال الأمريكي، وهو منظمة «غير حكومية» صهيونية أمريكية قامت بتصنيف جيرمي كوربين على أنه «الشخصية الأكثر لا سامية في عام 2019») هو أنها فعلياً حملة مناهضة تستهدف إرهاب اليسار تحت هذه اليافطة المستحدثة وهو ما جرى تماماً حيث تشمل قائمة المفصولين والمجمدين من حزب العمال بسبب هذه التهمة عدداً من أهم النقابيين والسياسيين أصحاب التاريخ الطويل في الحزب منذ ما قبل حقبة مارغريت تاتشر، أي أن محاولة حثيثة تجري اليوم لاعتبار أية مواجهة للمنظومة الرأسمالية، بغض النظر أصلاً عن درجة جذريتها، بمثابة شكل من أشكال معاداة السامية.
في العموم، تقودنا هذه العملية المتصاعدة مؤخراً إلى بعض الحقائق والخلاصات الأولية التي لا بد من تسليط الضوء عليها:
أولاً: تجري هذه العملية اليوم داخل حزب العمال البريطاني بوصفه أحد قطبي الصراع الحزبي داخل المملكة المتحدة، وهي تمثل في العمق إحدى التجليات الملموسة لمقولة موت الفضاء السياسي القديم، حيث من المرجح أن الصراع الجاري بين «الكوربيين» و«البليريين» لن يهدأ ما لم تحسم هوية وتوجهات حزب العمال في التركيبة الداخلية البريطانية، وهي العملية الضرورية في حياة أي تيار يريد الاستمرار.
ثانياً: تعكس الأداة المستخدمة في الهجوم على اليسار، أي وصمة «معاداة السامية»، درجة الرعب التي تعتري المنظومة الرأسمالية ونخبها السائدة إزاء حالة الصعود الموضوعية التي تقف قوى اليسار على أعتابها نتيجة تغير موازين القوى العالمية، وهي بمثابة «خطة ب» تتمثل في القمع المباشر لهذه القوى باستخدام أدوات الترهيب التي تنتمي للقرن الماضي، بعد فشل «الخطة أ» التي تجسدت بمحاولات خلق «دمى يسارية» متحكم بها مسبقاً في عدد دول العالم.
ثالثاً: يفترض الهجوم الذي تقوده المنظومة ضد قوى اليسار رداً معاكساً لا يقل شدة من جانب تلك الأخيرة، رداً يتمثل في قطع الطريق على محاولات الإشغال التي تحاول هذه المنظومة أن تفرضها على اليساريين، وهذا يشمل قبل كل شيء ضرورة تجذير البرامج السياسية لقوى اليسار دون رهبة من التصنيفات والقوالب المسبقة التي تتجهز منظومة الربح لإلصاقها بكل من يريد أن يكون جدياً في المساس بأساساتها المتداعية حول العالم.