حيرة واشنطن بين مأزق وآخر، بين «سيئ» و«أسوأ»!
تستمر المفاوضات الروسية-الأمريكية حول مصير معاهدة ستارت-3 والتي تهدف لتخفيض الأسلحة النووية التي يمتلكها البلدان. وفي الوقت الذي يطلق المسؤولون الأمريكيون تصريحات حول توصلهم لاتفاق، ترفض الخارجية الروسية هذه التصريحات وتؤكد أنها هراء وتزوير للحقائق.
جرى التوقيع على معاهدة ستارت-3 بين الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والروسي دميتري مدفيديف في 2010، وتنتهي صلاحية هذه المعاهدة في شهر شباط من العام 2021. لكن المؤشرات والتصريحات الصادرة لا تدل على أن روسيا الاتحادية مستعدة للتنازل في هذا الخصوص.
مناورة ترامب
كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدد في وقتٍ سابق أن بلاده لن تقوم بتجديد هذه المعاهدة ما لم تنضم الصين إليها كطرفٍ ثالث وكان الطرح هذا مدفوعاً بالقلق الأمريكي من عدم وجود ما يكبح تطور التسليح الصيني من جهة، ومن جهة أخرى تبين أن لدى واشنطن تخوفات من تطوير موسكو لأسلحة غير مشمولة في هذه الاتفاقية ورغبتها في أن تضع حداً لموسكو ضمن إطار اتفاقية جديدة. ناهيك عن الاستثمار الأمريكي في المسألة بوصفها إحدى أدوات رفع الضغط على الصين...
لكن المحاولات الأمريكية لم تنجح؛ فموسكو رفضت الضغط على الصين للدخول كطرفٍ في هذه الاتفاقية، ومن جانبها أكدت بكين أنها لا ترى حجم ترسانتها النووية يوازي حجم الترسانة الأمريكية والروسية لذلك لا ترى ضرورة للانضمام في هذا الوقت للاتفاقية المذكورة.
يبدو واضحاً أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت جادة ومستعدة للمضي حتى النفس الأخير في هذه المناورة لا لأنها واثقة من نجاحها بل لما يحمله فشلها من خطورة، أي أن الخيارات الأمريكية محدودة جداً في هذا الخصوص ويبدو أن الانسحاب من هذا المأزق بات مكلفاً حقاً.
زمن الهزائم انتهى!
شكّل سباق التسلح الأمريكي-السوفيتي حالة من الاستنزاف لكلا الطرفين، لذلك لا تعتبر ذكراه محمودة، تحديداً بالنسبة لروسيا الاتحادية التي ورثت جميع اتفاقيات الاتحاد السوفيتي والتي اعتبر جزءٌ منها تنازلات كبرى للمعسكر المنافس، فقد كانت الولايات المتحدة في آخر سنوات الاتحاد السوفيتي تسحب تنازلات من قيادته، والتي لم يكن لها ما يكفي من المبررات إلا إذا وضعنا سوء النوايا في فهم سلوكها وتنازلاتها المتكررة والتي باتت حقائق تاريخية لا يمكن نقاشها.
لذلك وعند النظر إلى تلك الاتفاقيات يجب تثبيت بعض النقاط حولها، أولّها أنها أنهت سباق التسلح دون شك لكنها سمحت بتثبيت التقدم الأمريكي عبر فرض شروطٍ مجحفة على الاتحاد السوفيتي، لكن الزمن اليوم اختلف كلياً فالقيادة الروسية التي كانت مستعدة لتقديم التنازلات لم تعد موجودة ولم يعد الطرف المقابل هو ذلك الطرف الوازن الذي جسدته الولايات المتحدة آنذاك. ومن هذه النقطة نستطيع فهم السياسيين الروس وتصريحاتهم؛ فهم حريصون بلا شك على تجنب الدخول في سباق تسلح واستنزاف لقدراتهم لكنهم في المقابل حققوا خروقات وتطويرات كبرى في برامج تسليحهم والتي ثبتت لروسيا موقعاً متقدماً على الولايات المتحدة الأمريكية اعترف به وزير الدفاع الأمريكي نفسه في جلسة استجواب أمام الكونغرس... واستطاعت روسيا بذلك إعادة التوازن المفقود.
لذلك يبدو الطرح الأمريكي الذي يقول بضم خمسة أنواع من الأسلحة الروسية الجديدة إلى هذه المعاهدة مضحكاً. كما لو أن المطلوب من موسكو اليوم هو تقديم تنازلات للولايات المتحدة مرة أخرى وعلى الرغم من موقعها المتقدم!
ما الذي تريده الأطراف؟
بالنسبة للرئيس ترامب، فيبدو أنه يرى ضرورة لإنجاز هذه المهمة قبل موعد الانتخابات الأمريكية ويسعى لوضعها كانتصار له قبل أيام من الانتخابات لذلك لابد من تحقيق خرق لصالح بلاده في هذه الاتفاقية، ومن هذه النقطة تبدو البرودة الروسية في التعاطي مع هذه المسألة غير مفهومة، فيرى جزء من المراقبين أن مصلحة موسكو تقتضي تقديم دفعة للرئيس الأمريكي لإخراجه من مأزقه وهو الذي يتهم بأنه محابٍ لسياسية روسيا. لكن ما تقوم به روسيا في هذه اللحظات هو العكس تماماً، فموسكو تحرم ترامب من تحقيق نجاحٍ على حساب روسيا بل تقدم عرضاً وحيداً وهو تمديد هذه المعاهدة دون شروطٍ مسبقة لسنة أو لخمس سنوات، وهذا يعتبر تنازلاً من إدارة الرئيس الأمريكي. الخيار الثاني هو ألا ينجز الرئيس الأمريكي الحالي هذه المهمة لتبقى معلقة للرئيس القادم الذي سيجد مأزقاً في مواجهته في أول أيام عمله، فهو إما أن يخرج من هذه الاتفاقية ويطلق سباق تسلح جديد أو أن يرضى بتمديد الاتفاقية دون شروط.
لا شك أن سباق التسلح سيكون محفوفاً بالمخاطر ، لكنه سيجري هذه المرة ضمن توازن دولي جديد وضمن ظرف لا يحسد الأمريكيون عليه. ورغم أنه خيارٌ سيئ للجميع لكن الخسائر لن تكون متساوية. وإذا راهن الطرفان على طول الأنفاس فلن تكمل واشنطن المأزومة هذا السباق، وإن أصرت واشنطن على إبرام اتفاقية جديدة كلياً فلن تستطيع إقناع موسكو بالتنازل بل سيكون وزن الولايات المتحدة أقل مما هو عليه اليوم نظراً لأن أزمتها ستستمر بغض النظر عن رئيسها القادم لذلك تستطيع موسكو العمل بهدوء شديد ودون ضرورة لتقديم أي تنازل مهما صغر حجمه؛ فالرياح تجري بما تشتهي سفنها.