لا دليلَ على «نقص شراسة» الكورونا حسب دراسة Cell!
«أصبح نمط فيروس سارس-كوف-2 الذي يحمل التغيير D614G في بروتينه الشوكي [طفرة استبدال الحمض الأميني الغلايسين مكان الأسبارتيك] هو الشكل السائد في الجائحة عالمياً... وبأهمية إحصائية مرتفعة... ويترافق هذا الشكل في المصابين مع عتبات أدنى لدورة اختبار RT-PCR، مما يوحي بأنه يترافق مع أحمال فيروسية أكبر في السبيل التنفسي العلوي، ولكن ليس مع مرضٍ أكثر شدّة» – بهذه الخلاصة افتُتِحَت ورقة الدراسة المعنونة «تَتَبُّع التبدُّلات في شوكة فيروس سارس-كوف-2: دليلٌ على تسبب الطفرة D614G بزيادة قدرة العدوى لدى فيروس كوفيد19»، المنشورة في مجلة «الخلية» العالمية المُحكَّمة بتاريخ 20 آب 2020. (العدد 182، ص812–827).
لا دليلَ على أنّ الطفرة غيَّرَت شدة المرض
«لم نجد ارتباطاً مهمّاً بين حالة D614G وشدّة المرض المقيسة وفقاً لنتائج القبول المشفوي. فالمقارنة بين هذه الحالة [أي وجود الطفرة المشار إليها] والاستشفاء (مأخوذاً كمجموع حالات قبول المرضى الداخليين IP ومرضى العناية المشددة ICU) لم تكن ذات أهمية تُذكَر... رغم أنّ مقارنة القبول بالعناية المشددة مع مجموع المرضى الخارجيين OP والداخليين IP أظهرت أهميةً حَدَّية borderline significance» (ص817)؛ أي «على الحد» فلا يُعَوَّل عليها كثيراً وليست ذات قيمة إحصائية مهمة أو دلالة قوية، حتى أنّ الدراسة أكدت ذلك في الجملة التي بعدها مباشرةً فقالت «وعزَّزَ تحليلُ الانحدار نتيجةَ أنّ حالة الطفرة D614G لم تترافق مع مستويات أعلى من القبول في المستشفى». [ملاحظة: تحليل الانحدار Regression Analysis طريقة تحليل إحصائي لتقييم العلاقة بين متحولٍ تابع وواحد أو أكثر من المتحوِّلات المستقلة].
لكن هل الوفيات بالفيروس الطافر أعلى؟!
«من المثير للاهتمام أننا لم نعثر على دليل على أنّ الطفرة G614 تؤثّر على شدّة المرض؛ أيْ أنّها لم ترتبط بعلاقة ذات أهمية بحالة القبول المشفوي. ولكن وردت تقارير عن ارتباطٍ ما بين النوع الطافر G614 من الفيروس ومعدّلات وفاة أعلى في مقارنةٍ بين معدلات الوفيات عبر البلدان، ومع ذلك فإنّ هذا النوع من التحليل يمكن أن يختلط ويتعقد بسبب التفاوت بين البلدان المختلفة من حيث مستوى الاختبارات والرعاية» (ص823).
إذاً، نلاحظ بأنّ الدراسة حتى عندما أعطت هذا المؤشر الإحصائي على أنّ الطفرة التي أصابت الفيروس، والموجودة في شكله الأكثر انتشاراً حالياً عبر العالم، قد تترافق مع معدلات وفيات أعلى، لكن كما هو واضح فإنّها تأخذ هذه النتيجة بنسبة من الشك والتحفّظ وعدم التأكيد القوي، لأنها لا تنفي احتمال أن تكون زيادة الوفيات ليس ناجمة عن زيادةٍ في قوة الفيروس بقدر ما هي ربما بسبب ضعف إجراءات العلاج والتشخيص وضعف سياسات مكافحته ورعاية المرضى عبر البلدان.
النتيجة الأرجح للطفرة هي زيادة قدرة العدوى
كان الباحثون المشاركون بهذه الدراسة قد لاحظوا بأنّ «بياناتنا عن التتبع العالمي أظهرت بأنّ نمط الفيروس ذي الشوكة الطافرة G614 [أيْ الذي يحوي الحمض الأميني الغلايسين في الموضع 614 من بروتينه الشوكي] انتشر بسرعة أكبر من النمط D614 [أي النمط غير الطافر الذي يُفترض بأنه الأبكر والحاوي على حمض الأسبارتيك في الموضع نفسه]» (ص823). وفسّروا ذلك بالفرضية التالية: «الفيروس أصبح على الأرجح أكثر قدرة على العدوى» (ص823). واعتبروا أنّ هذه الفرضية تتماشى أيضاً مع ملاحظتهم بأنّ «الإصابات بالنمط الطافر G614 احتاجت قيماً أقلّ من عتبات الدورة Ct» (ص817) أيْ العتبة اللازمة لظهور إيجابية بفحص كشف وجود الحمض النووي الفيروسي بواسطة تفاعل سلسلة البوليميراز PCR، حيث استخدموا مستوى عتبة الحد الأدنى Ct هذه بمثابة «مُشعِرٍ نائبٍ» surrogate indicator لينوب عن، أو يدل بشكل غير مباشر على، حجم الحِمل الفيروسي (كثافة وجود الفيروسات) بحيث أنّ «قيم عتبة Ct أدنى تدلّ على أحمال فيروسية أعلى»... «لقد وجدنا أيضاً أنّ الطفرة G614 ترافقت مع مستويات أعلى من الحمض النووي الفيروسي في السبيل التنفسي العلوي في البشر المرضى، مما يوحي بوجود أحمال فيروسية أعلى، وقدرة أعلى على إحداث العدوى [عدوائية infectivity أعلى]» (ص820).
ولتوضيح الأمر أكثر للقارئ، نقول إنّ الأمر يشبه أن تحتاج إلى تركيز أقل من الحمض عندما يكون قوياً (مقارنة بحاجتك لتركيز أكبر من حمض آخر أضعف منه) لكي ينقلب لون كاشف عباد الشمس من الأزرق إلى الأحمر، وبالمثل هنا؛ تحتاج كمية أقل من الفيروس الطافر لكي يعطي اختبار الفيروس PCR نتيجة إيجابية، مما يدل على أنّ الطفرة جعلته يسبب حِملاً فيروسياً viral load أكبر وبالتالي قدرة أكبر على العدوى. وكتب مؤلفو الدراسة بأنّ ملاحظتهم هذه، عن الحاجة إلى عتبة أقل من Ct، توافقت أيضاً مع ملاحظات مماثلة سجّلتها دراستان أخريان في الحيّ in vivo ما زالتا غير منشورَتَين في دوريّة محكَّمة (لورنزو وزملاؤه، وفاغنر وزملاؤه 2020).
إذن، وفق الدراسة، فإنّ الطفرة قد أنتجت نمطاً من فيروس SARS CoV-2 ليس أشدّ إمراضية (ولا أقل إمراضية)، أيْ لا يؤثر على الشدة severity لداء كوفيد19، بل قالوا إنّه صار (على الأرجح) أكثر عدوى more infectious. أما الطريقة التجريبية المخبرية التي اتبعها مؤلفو الدراسة للاستدلال على هذه «العَدوائية» infectivity الأعلى فهي «مُقايَسات متعدِّدة زائفة النمط»؛ أي عن طريق الهندسة الوراثية لفيروسات غير طبيعية زائفة النمط pseudotyped (خَيمرية عملياً – حول الفيروسات الخيمرية انظر مقالين سابقين: «فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً» ج1، ج2). ولكن هذه الفيروسات زائفة النمط المُهندَسة لا تحمل من صفات فيروس كورونا سارس-كوف-2 سوى تشكيلها بروتينه الشوكي spike (أي تحمل «تيجاناً» مطابقة لتيجانه) أما باقي «جسم الفيروس» الاختباري فقد استعاروه من عدة فيروسات أخرى بعيدة النسب عن الكورونا، مثل فيروس التهاب الفم الحويصلي VSV والفيروس العدسي lentivirus (ص819) مهندِسِين قسماً منها وراثياً بحيث تحمل شوكة الكورونا من النمط العادي D614 وقسماً آخر بحيث تحمل شوكة النمط الطافر G614 وأكثروها بزراعتها على خلايا خاصة في المختبر، فوجدوا أنّ الفيروسات الزائفة (الخيمرية) ذات الأشواك الكوفيدية الطافرة تكاثرت لتعطي عيارات (تراكيز) مُعدية أعلى بعدة أضعاف (وسطياً 3 أضعاف) مقارنة بالزائفة ذات الأشواك الكوفيدية العادية (D614)، وهذا ما اعتبروه دليلاً مخبرياً يرجّح أن يكون النمط الطافر G614، الذي هو السائد والأكثر انتشاراً حالياً في العالم من فيروس كوفيد19، يتمتع بقدرة أعلى على العدوى من النمط العادي.
هل من دليل قوي على أن الطفرة أضعفت الفيروس أمام مناعتنا؟
يبدو الدليل الذي قدمته الدراسة أولياً فقط وليس حاسماً ولا مؤكّداً، ومؤلفوها لم يسمحوا لأنفسهم بالحسم بنتيجةٍ كهذه. بل كل ما قدموه من دليل هو تجربة صغيرة النطاق، حيث قاموا بسحب عينات من مصل دم ستة أشخاص فقط (من مدينة سان دييغو) كانوا قد أصيبوا بكوفيد19 وتعافوا منه (ناقهين) في فترة من أوائل إلى أواسط شهر آذار 2020، أي في فترة كان فيها النمطان العادي والطافر كلاهما منتشرَين بنسب متقاربة (قبل أن يسود النمط الطافر بسرعة بعد ذلك بفترة)، وذلك لكي يزيدوا احتمال أن تكون الأمصال التي جمعوها من هؤلاء الستة محتويةً على أضداد مناعية مضادّة لكلا نَمَطَي الفيروس (تسمى بهذه الحالات «أضداداً عديدة النسيلة» polyclonal antibodies). وخلصوا حرفياً إلى النتيجة التالية التي ينبغي قراءتها بدقّة:
«على الرغم من أننا لا نعلم بأيّ فيروسٍ أصيبَ كلّ واحد من هؤلاء الأفراد، فإنّ هذه البيانات الأولية توحي بأنّ الجسيمات الفيروسية (الفيريونات) الحاملة للشوكة الطافرة G614 وبالرغم من ازدياد (رشاقتها) في الزرعات الخلوية [الرشاقة fitness هنا يقصد فيها القدرة على العدوى]، لكنها لا تتمتع بصفةٍ داخلية ملازمة لها تجعلها أكثر مقاومةً لتحييدها بواسطة أمصال الناقهين» (ص819).
إذاً، وفق هذه الخلاصة، لم تَخلق الطفرةُ فيروساً أشدّ مقاومة للمناعة، بل النتيجة تعني ضمناً وجود احتمالين لا يمكننا حتى الآن، ومن هذه التجربة وحدها الجزم القاطع بأي منهما: فالاحتمال الأول (وليس أكيداً) أنّ الطفرة أبقت الفيروس على المستوى نفسه من «القوة» في مواجهة المناعة، والاحتمال الثاني (وليس أكيداً أيضاً) أنّ الفيروس أصبح «أضعف». وهذا ينسجم مع المخططات البيانية الستة لتجربة التحييد بالأضداد، والموضّحة في ورقة الدراسة (ص821)، والتي تتطابق مع توصيف نَصّها بأنها تبيّن «تحييداً مكافئاً أو أفضل للفيروسات الزائفة الحاملة لـ G614 مقارنةً مع تلك الحاملة لـ D614» (ص819).
هذا فضلاً عن أنّ الدراسة نفسها، تحلّت بدرجة تُحسَب لها من الموضوعية والمسؤولية العِلمية، بحيث أنها ذكرت حوالي أربع نقاط ضعف فيها، مُشجِّعةً العلماء بعدها على متابعة مزيدٍ من الأبحاث لاستجلائها والتحقق منها. ونلّخص نقاط الضعف التي أقرّت بها الدراسة بما يلي: (1) قد توجد «انحيازات منهجية عبر العديد من المناطق الجغرافية ربما تؤثر على مستويات الأهمية الإحصائية التي لاحظناها». (2) «فيما لاحظناه من غياب الترابط بين النمط الطافر G614 وحالة الاستشفاء قد تكون فاتتنا عواملُ ما تؤثّر على شدة المرض لكنها أكثر خفاءً من أنْ نستطيع اكتشافَها». (3) كما نوّهوا إلى مشكلة الفيروسات الزائفة التي اعتمدوا عليها وعلى خلايا الزرع في المختبر، كبديل لسلوك الفيروس الحقيقي ضمن خلايا الجهاز التنفسي الحقيقي للبشر مما قد لا يتطابق تماماً مع «بيولوجيا وآليات الانتقال الفيروسي الطبيعي» منبِّهين أيضاً إلى أنّ تمتع الفيروس بالقدرة المُعدية [ويقصدون غالباً هنا من خلية لخلية] infectiousness ليست مرادفة تماماً ودوماً للقدرة على الانتقال transmissibility [والمقصود غالباً الانتقال من جسم مصاب لجسم آخر]... مما يتطلب مزيداً من الدراسات. (4) وأخيراً، فيما يخص كفاءة التحييد المناعي بالأضداد neutralization، تساءل مؤلفو الدراسة فيما إذا كان ما توصلوا إليه بتجربة أمصال الناقهين الستة يبقى صحيحاً أم لا في حال كانت الأضداد المستخدمة متولدة كاستجابة لنمط آخر من فيروس كوفيد19 غير الذي أصاب الأشخاص الستة، أو في حال كانت الأضداد وحيدة النسيلة؟ وهو أمرٌ له انعكاساته السريرية على العلاجات المناعية وتطوير اللقاحات.
الخلاصة: اعرفْ عدوّك بلا استهانة ولا تهويل
من المهم أن نلفت انتباه القارئ هنا إلى أنّ معرفة المضمون الحقيقي لدراسة مجلة «الخلية» هذه، ودرجة قيمتها أو التعويل على نتائجها، بلا مبالغة أو تهوين، وبالطريقة التي عرضناها أعلاه، هو أمرٌ يكادُ يكون مستحيلاً الوصول إليه بالاعتماد على مجرد قراءة «التقارير الصحفية» العادية عنها، أو حتى «الموجزات» الانتقائية لبعض «المجلات العلمية»، أو حتى من آراء بعض الأطباء والمسؤولين الصحيين الذين إما أنهم لم يقرؤوها جيداً، أو تعمّدوا تحريفها وتشويهها. ولعل أخطر تحريف وأشيعه كان الادعاء بأن نتيجة الدراسة تؤكّد بأنّ فيروس كورونا الوبائي الحالي تعرّض لطفرة «أضعفته» أو جعلته «أقل شراسة»، أو حتى «أقلّ فتكاً» less lethal، مما يعطي رسائل خاطئة للناس، كما نقل على سبيل المثال، لا الحصر، موقع «تايلاند الطبي»! أجرت بعض الصحف الغربية الكبرى (مثل الغارديان البريطانية، أو DW الألمانية) مقابلات مع بعض مؤلفي الدراسة، ورغم محاولتها الإيحاء أحياناً بطمأنة مبالغ بها، لم تستطع أنْ تنتزع منهم حكماً صريحاً يدّعي بأنّ الطفرة أعطتنا فيروساً «أقلّ شراسة» أو «أكثر سلامة». وكان مقال في ناشونال جيوغرافي أفضل من غيره نسبياً، من حيث التركيز على حقيقة خلو الدراسة من دليلٍ على تغيّر شدة المرض بسبب الطفرة.
إذن، الدراسة كما قرأناها أعلاه قامت بأحسن الأحوال بـطرح فرضيات غير حاسمة، «ترجِّح احتمال» أنْ يكون الفيروس الناتج عن الطفرة D614G أكثر قدرة على العدوى infectivity والانتقال؛ أيْ أكثر «رشاقة»، وهذه هي النقطة الأساسية التي اختارتْ أنْ تُبرِزها الدراسة في عنوانها. لكن عدا ذلك فلا أدلة كافية فيها على أن الفيروس قد تأثّر، لا زيادةً ولا نقصاناً، من ناحية شدة المرض severity الذي يسببه، ولا حتى شدة الفتك (الإماتة) lethality بشكلٍ عام أو مُقنِع. وبالتالي لا نستطيع بناءً عليها القول بأنّ الطفرة الموصوفة قد غيّرت بالضرورة «فوعة» الفيروس virulence (أيْ باختصار درجة الأذية التي يسببها – ولتفاصيل أكثر حول تعريف «الفوعة» و«الإمراضية» pathogenicity في الطب والبيولوجيا وعلاقتهما، نحيل القارئ المهتم إلى الدراسة في الرابط التالي من نسخة المقال الإلكترونية).
وعلى عكس من تخلّوا عن «الطب المُسنَد بالبينات» EBM لمصلحة أنْ يبرِّروا ما يمكن أنْ نصطلح عليه PBP «السياسات المُسنَدة بالعلم الزائف» (Pseudoscience-Based Politics) من أجل الطَّمأنة الكاذبة وتبرير استمرار الإهمال والفشل عبر «مناعة/إبادة القطيع» الكارثية، وخاصة عندما يلصقون أحكامهم الخاصة بدراسة مجلة Cell هذه بالذات – فإنّ الدراسة عبّرت عن موقفها المناقض لهم بوضوح: «إنّ السرعة التي تَحوّل فيها النمطُ الطافر G614 إلى الشكل السائد عالمياً تقترح الحاجة إلى اليقظة المستمرة».