اللغز الصيني ورأسمالية الدولة الاشتراكية
بينما ينشغل الباحثون الاقتصاديون، في الأعوام الأخيرة، بتفكيك "اللغز الصيني" لفهم الآليات التي استطاعت من خلالها الشركات المملوكة للدولة الصينية، والمدارة مركزياً من قبل الحزب الشيوعي الصيني، كسر القوانين الاقتصادية ومخالفة التوقعات وتحقيق نجاح كبير، حيث حققت الصين أسرع نمو اقتصادي في آخر 40 عاماً من خلال الاعتماد على الشركات المملوكة للدولة، هذا وبعد الإقرار بأن بعض هذه الشركات (العملاقة منها) لم تعد تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد الصيني وحسب بل وفي الاقتصاد العالمي ككل، تنشغل أقلام بعض الكتّاب والمترجمين العرب، بعد تعامل الحكومة الصينية الموفق مع فيروس كورونا، بمناقشة مسألة ما إن كانت الصين ذات نظام رأسمالي أم اشتراكي! حيث يتم التعامل مع مفهوم "رأسمالية الدولة الاشتراكية" كمفهوم مبهم وغير واضح المعالم في الصين، فيخلص هؤلاء إلى أن الصين "رأسمالية" كاليابان الرأسمالية وهكذا يحاولون ترسيخ مفهوم أن "كل الأبقار في الليل سوداء" في ذهن القارئ العربي.
مثال بسيط عن "اللغز الصيني"
في مدينة ووهان ثلاث مدن صغيرة (ووتشانغ، خانكو، هانيان). في العام الفائت انتقلتُ من "ووتشانغ" إلى منزلي الجديد في "خانكو"، وكان لزاماً عليَّ مراجعة شركة الاتصالات التي أتعامل معها منذ سنوات (China Mobile) لأخبرهم بعنوان سكني الجديد كي يمدّوه بخدمة الإنترنت. عندما قصدت أقرب مركز في "خانكو" تأسف الموظف عن عدم قدرته على مساعدتي كوني بحاجة للعودة إلى المركز الرئيسي في "ووتشانغ" وتعديل بعض المعلومات (رقم جواز السفر الجديد، ورقم الإقامة). وكوني أعيش في بلد يتمتع بمزايا "اقتصاد السوق" وبما تقدمه له "المنافسة الحرّة بين الرأسماليين" من مزايا، قلتُ للموظف أني سأقصد شركة أخرى منافسة قريبة من منزلي كوني استصعب الذهاب إلى "ووتشانغ". في حينها حاول الموظف التواصل مع المركز الرئيسي بغية تعديل المعلومات دون ذهابي شخصياً إلى هناك. في تلك الأثناء بدأ موظف آخر بطرح العروض المجانية التي تقدمها شركة (China Mobile)، وعندما شعرت بالملل من طول الانتظار، اعتذرت منهما وخرجت من المركز. في طريقي نحو شركة اتصالات منافسة (China Telecom) استمرت العروض تلاحقني من خلال الرسائل التي تصلني على هاتفي الخلوي من شركة (China Mobile). ما أن دخلت مركز الشركة المنافسة (China Telecom) وبدأت بشرح مشكلتي للموظف، بدأت العروض المجانية التي لا تقاوم تنهال علي: خدمة إنترنت لمدة عام، صندوق قنوات تلفزيونية مدفوعة الأجر لمدة عام، اتصالات مجانية داخل ووهان وخارجها لمدة عام كامل، وكل هذا بسعر منافس! يا لاقتصاد السوق، ويا للمنافسة الحرة وما تقدمه للمرء من منافع ومزايا.
الآن، إذا قلت لكم إن شركة (China Mobile) وشركة (China Telecom) مملوكتان للدولة الصينية (GOE - Government Owned Enterprise) فمن هم المتنافسون في "اقتصاد السوق" في الصين؟ هل الدولة الصينية تنافس نفسها؟ لماذا حاول الموظفان إغراقي بالعروض المنافسة إذاً؟ هل ترغب الدولة في أن تزيح شركة تمتلكها من قبل شركة أخرى تمتلكها أيضاً؟!
ماهية "اللغز الصيني"
إذا أردنا تعريف الشركات المملوكة للدولة (GOEs)، بشكل عام، فهي الشركات التي تمتلكها الدولة بشكل كامل أو بشكل جزئي (تمتلك الدولة نسبة من أسهم الشركة).
تكمن المشكلة في هذه الشركات، بالنسبة للأفراد أصحاب رؤوس الأموال والمساهمين في هذه الشركة، في أن الدولة تقوم في كثير من الأحيان بالتدخل وإعطاء التوجيهات ليس بهدف تحقيق أكبر كم ممكن من الربح (فائض القيمة) كما يرغبون، بل أنها تتدخل لأهداف تتعلق بالمسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقها، وهذا ما قيل عنه أنه يؤثر سلباً على الكفاءة التشغيلية (Operational efficiency) والكفاءة الإنتاجية (Production Efficiency). تقول القوانين والتوقعات الاقتصادية أنه عندما لا يدعم النظام القانوني حرية الأسواق، وتقوم الدولة بالتدخل لتوجيه هذه الأسواق، فإن هذا النظام سيعيق النمو الاقتصادي. وهنا يكمن "اللغز الصيني": بالرغم من عدم وجود مؤسسات قانونية تدعم حرية الأسواق في الصين بشكل واضح، وبالرغم من تدخلات الدولة المتكررة وتحكمها بهذه الأسوق بشكل مباشر وغير مباشر، إلا أن معدلات النمو في الصين قد خالفت القوانين والتوقعات الاقتصادية! أي أن تدخل الدولة وتملّكها للشركات لم يؤثر على الكفاءة التشغيلية ولا الكفاءة الإنتاجية، لا بل قدم نتائح مبهرة خلال العقود الأربعة الأخيرة! فكيف تمَّ ذلك؟!
حل "اللغز الصيني"
بالنسبة للنموذج الصيني فإن تعريف "الشركات المملوكة للدولة" يختلف من حيث الجوهر، فالشركات المملوكة للدولة الاشتراكية في الصين هي الشركات التي تهيمن الدولة على اتخاذ القرارات فيها وعلى توجيه نشاطها، سواء ما إذا كانت مملوكة بشكل كامل للدولة أو بشكل جزئي (الدولة هنا تمتلك أكبر نسبة من الأسهم وهي التي توجه النشاط) أو من خلال تعيين مديرين مسؤولين عن اتخاذ القرارات في هذه الشركات، حيث يمثّل هذا التملّك والتدخل تأكيداً لهيمنة علاقات الإنتاج الاشتراكية على علاقات الإنتاج الرأسمالية في الصين، حيث تعيش الأخيرة إلى جوار الأولى عبر وجود شركات خاصة غير مملوكة للدولة (POE- Private Owned Enterprise) وعبر الاستثمار الأجنبي (FDI- foreign Direct Investment) وعبر ملكية الفلاحين للأرض. هذه الهيمنة لعلاقات الإنتاج الاشتراكية على علاقات الإنتاج الرأسمالية تعني أن ملكية وسائل الإنتاج هي ملكية عامة تديرها الدولة الاشتراكية في الصين وفق ما تقتضيه حاجات الشعب الصيني وحركة الأسواق في آن معاً. إذاً: الدولة الصينية تتحكم بشريان الاقتصاد في الصين، ولكن، كيف استطاعت الدولة الصينية ِأن تبقي هذا الشريان حياًّ حتى اليوم بالرغم من التدخلات المتكررة؟ الجواب العريض هو أن الدولة الصينية أجبرت الشركات التي تمتلكها على مواجهة التحديات التنافسية في سوق تتعايش فيه هذه الشركات مع أنواع الملكية المختلفة، وعليها أن تكون ذات كفاءة عالية، وإلا فإنها ستُزاح من السوق ولو من قبل شركات مملوكة للدولة أيضاً. أي: نعم، شركات الدولة الصينية تنافس بعضها البعض أيضاً.
كيف وصلت الصين إلى هذا التعايش؟
هذا ما جاء نتيجة الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ منذ عام 1978 وما زال مستمراً حتى اليوم. وكعرض سريع لما حصل ويحصل في الصين سنقوم هنا بتقسيم هذا الإصلاح إلى فترتين، على أن تكون الأولى بمرحلتين والثانية بثلاث مراحل:
الفترة الإصلاحية الأولى، والتي لم تكن موفقة، تشمل مرحتلين: الأولى (1978-1984) حيث تم زيادة الحقوق التشغيلية فيها وتسريح فائض العمال من الشركات مقابل مكافئات للعمال المنتجين الذين يحققون الأهداف الإنتاجية. المرحلة الثانية (1984-1992) التي شهدت نظام المسؤولية العقدية (CNS) حيث يتم تعاقد الدولة مع مديرين للشركات مقابل إعطاء الأخيرين جزء من الأرباح بغية تحفيز الإنتاج.
أما الفترة الإصلاحية الثانية، والتي جاءت نتيجة خسائر طالت 40% من الشركات المملوكة للدولة الصينية في أوائل التسعينات، تنقسم إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى (1992- 2002) إنشاء نظام مؤسسي حديث يعتمد على اقتصاد السوق. في حينها ألقى دنغ شياو بينغ ، كبير المهندسين للإصلاح والانفتاح في الصين، سلسلة من الخطب الهامة لتعزيز دور السوق في التنمية الاقتصادية. وفي نفس العام، ذكر المؤتمر الوطني الرابع عشر للحزب الشيوعي الصيني بوضوح أن "هدف الإصلاح الاقتصادي الصيني هو إقامة اقتصاد السوق الاشتراكي" حيث تلى هذا الانفتاح والتحول مرحلتين إصلاحيتين (2002-2012) وهي المرحلة الثانية التي تم فيها إصلاح نظام إدارة الأصول المملوكة للدولة. والمرحلة الثالثة (2012 إلى الوقت الحاضر) والتي يتم فيها إصلاح شامل للشركات المملوكة للدولة.
أخيراً:
لا وقت للصينين لإجراء المقارنات بين "الماوية" و"الشياوية – نسبة إلى دنغ شياو بينغ" كما يفعل الماويون الأوروبيون، فالصينيون مشغولون بكتابة التاريخ، ويعتبرون أن طريق الصين واحدٌ قد بدأ منذ عام 1949 وما زال مستمراً حتى اليوم. أما أولئك الذين يريدون إقناعنا بأن درب الوصول إلى الاشتراكية الكاملة في الصين قد هُزم عام 1978 من خلال المقارنات المقتطعة من سياقها التاريخي، ويريدون إقناعنا بأن الاشتراكية "فكرة" لم يثبت نجاحها على مستوى الممارسة العملية، وأن نموذج التنمية المستدامة الناجح في الصين هو نموذج رأسمالي خالص، وأن على دول العالم الفقيرة والمنهوبة والمتخلفة (على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي) ألا تأخذ نموذج التنمية الصيني كمثال يحتذى به، وألا تتأمل بحل غير الحل البربري الرأسمالي الخالص، فهؤلاء يحاولون تأبيد اللاعقلانية الذي يعيشها العالم المحكوم بالنظام الرأسمالي، ويحاولون إخفاء نجاح مفهوم "رأسمالية الدولة الاشتراكية" في تحقيق التنمية والوصول إلى أعلى معدلات نمو في العقود الأربعة الأخيرة في الصين. إنهم يحاولون التعتيم على هذا النموذج الفريد الذي قدمه الحزب الشيوعي الصيني للبشرية التي تسير في ذلك الدرب الطويل، والمفعم بالعذاب، للوصول نحو عالم معقول، نحو الاشتراكية الكاملة.