فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً (1)

فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً (1)

منذ الشهر الماضي أثار التصريح التلفزيوني للعالِم الفرنسي لوك مونتانييه، حول فرضية تصنيع فيروس كورونا المستجد، موجةً جديدة من هجوم متشدّدي الرأي السائد «المنشأ الطبيعي للفيروس» على «هراطقة مؤامرة تصنيع الفيروس»، مع أنّ المعطيات غير السرّية المتوافرة حتى الآن لا تسمح بَعدُ بحسمٍ قاطع لإحدى الفرضيتين. لكن المشكلة أنّ النفي الدوغمائي لفرضية المنشأ الاصطناعي وصل لدرجةِ أنّ بعض المجلّات «العِلميّة المُحكَّمة» سمحت بالترويج لأسطورة أنّ «ظهور أيّ عوامل ممرضة جديدة بشريّة الصنع هو أمرٌ مستحيل»!

بين الفرضية العلمية والجمود العقائدي

عندما نقول «فرضية علمية» نقصد استنتاجاً غير ناجز كنظرية مكتملة يملك عناصر معقولة مستندة لتحليل معطيات تجريبية، مثلما يملك جوانبَ ضعف تحتمل النقد والنقاش ومتابعة البحث عن الحقيقة. وحتى إن لم تتحول لنظرية، يمكن للفرضية المساهمة بصياغة نظرية عبر نفيها ديالكتيكياً، بتثبيت العناصر الصحيحة فيها وتصحيح الخاطئة.

على هذا الأساس يمكن وضع النتيجة التي أدلى بها الدكتور مونتانييه وورقة البحث الهندية التي أشار إليها في حديثه ضمن تصنيف «الفرضية العلمية». لوك أنطوان مونتانييه حائز على جائزة نوبل عام 2008 على اكتشافه لفيروس HIV المسبب للإيدز في أوائل الثمانينيات. وفي مقابلته على تلفزيون CNews الفرنسي قال بأنه وزملاءه توصلوا «إلى نتيجة أنه تمّ التلاعب بهذا الفيروس... قام أحدٌ ما بإضافة بعض التسلسلات الجينية بما فيها من فيروس الإيدز... إنه ليس طبيعياً، بل عملٌ احترافي لِعالِم بيولوجيا جزيئية». مضيفاً بأن الفيروس يحوي أيضاً شدفاً من جينوم طفيلي الملاريا [قد يكون لذلك علاقة بفائدة علاجات الإيدز والملاريا لكوفيد-19]. وقال بأنهم ربما كانوا يريدون صنع لقاح ضد الإيدز فأخذوا قطعاً صغيرة من المادة الوراثية لفيروس HIV الإيدز (تسلسلات جينية) وأقحموها ضمن التسلسل الأكبر لفيروس كورونا. وأنها لم تكن تسلسلات عديمة المعنى بل تحمل إمكانية تعديل المواقع المستضدّية (أي التي يتعرّف عليها جسم المصاب فيشكل لها أضداداً مناعية وهو أمرٌ معروف كأحد مبادئ عمل اللقاحات).

لم ينشر مونتانييه ورقة عن ذلك حتى الآن، ولم يُجرِ تجارب سريرية لكنه قال بأنه قام مع زملاء له بما يقوم به معظم الباحثين المعاصرين في أصل وتطور الأنواع الحية، ولا سيّما العوامل الممرضة (وكذلك فعل الباحثون الهنود الذين نشروا الورقة التي أشار إليها مونتانييه في مقابلته) – ألا وهو التحليل الحاسوبي للبيانات الوراثية المنشورة على قواعد البيانات الإلكترونية. ومن المعروف أنّ التسلسلات الوراثية والمعلومات البروتينية أيضاً، الكاملة أو الجزئية، لكثير من الكائنات الحية بما فيها الفيروسات منشورة ومفتوحة الوصول للجميع منذ سنوات على قواعد بيانات ضخمة على الإنترنت، أشهرها موقع المركز الوطني الأمريكي لمعلومات التقانة الحيوية NCBI وموقع بنك الجينات GenBank، تحتوي على أكثر من مليون تسلسل وراثي sequence لذراري أنواع حية من الثديِيّات حتى الفيروسات، فضلاً عن مجموعة كبيرة من خوارزميات وبرمجيات المقارنة الحاسوبية بين التسلسلات الوراثية للكائنات تعطي التشابهات والاختلافات وغير ذلك، والتي أصبحت لا غنى عنها لأي باحث في هذا المجال.

ورغم أن مونتانييه حاول أن يبدو حيادياً بالجانب السياسي وأوضح في المقابلة بأنه لا يعرف مَن قام بذلك ولماذا قام به ولا يتهم أحداً، لكن معدّ البرنامج الفرنسي وبعض الضيوف الآخرين استغلّوا كلام هذا العالِم لتسعير الهجوم على الصين واتهامها بالمسؤولية عن انتشار الوباء واتهموها حتى بـ«الإرهاب»، متجاهلين أي احتمال لدور ما لمخابر أمريكية مثلاً. وربما هذا ما جعل وكالة شينخوا الصينية تفشل في تغطية الخبر إعلامياً بطريقة لا تضحّي فيها بالفرضية العلمية الوليدة والتي ألصِقَت بحبل سرّتها قاذوراتُ العداء للصين، فجاءت تغطية شينخوا (21 نيسان 2020) بشكل ألقى كليهما معاً في القمامة: «قام خبراء فرنسييون بدحض مزاعم زميلهم الحائز على جائزة نوبل لوك مونتانييه... فرضية أنّ فيروساً تمّ اختلاقه في مخبر في ووهان تبدو (نسخة مؤامراتية لا صلة لها بالعلم الحقيقي) حسب ما قال جان فرانسوا ديلفراسي، عالم المناعة ورئيس المجلس العلمي الاستشاري للحكومة الفرنسية لشؤون وباء كوفيد19». وتتابع شينخوا فتستشهد بـ«خبيرٍ» آخر: «بالنسبة لأوليفر شفارتز، رئيس قسم الفيروسات والمناعة في معهد باستور الفرنسي، فإنّ الدراسات على جينات الفيروس تُظهِر بوضوح أنه لم يكن فيروساً من صُنِع بشرٍ في المختَبر» ثم تقتبس من شفارتز «البروفيسور مونتانييه ينشر نظريات واهمة».

 

الورقة الهندية

الورقة التي أشار إليها مونتانييه في حديثه، والتي أعدّها تسعة باحثين هنود (Prashant Pradhan et. al.) من معهد تكنولوجيا العلوم البيولوجية في نيودلهي كانت قد ظهرت في 31 كانون الثاني 2020 على منصة bioRxiv المخصصة أصلاً لنشر أوراق الأبحاث البيولوجية التي تكون في مرحلة pre-print أي مرحلة إطلاع المهتمّين والدوريات العلمية عليها تحضيراً لأن تتبناها وتنشرها رسمياً إحدى «الدوريات العلمية المُحكَّمة». وكثيراً ما يصدر على هذه المنصات عدة إصدارات (مسودات) متتالية منقّحة ومطوّرة حسب ما يرد من تعليقات وملاحظات. بالنسبة لهذه الورقة وبعد يومين فقط من نشرها وتهافت أكثر من مئة ملاحظة وتعليق من باحثين آخرين بعضهم كاد يعلّق المشانق لمؤلّفيها بوصفهم «المؤامراتيّين» و«العلماء الزائفين»، وضعت المنصة إشارة «مسحوب» withdrawn على الورقة، بدل أن تبقيها باعتبارها مسودة أولى v1 مثلاً ريثما يعدل المؤلفون بحثهم آخذين الملاحظات النقدية الجدية التي قد يكون بعضها محقاً، بعين الاعتبار لصياغة نسخة ثانية v2 وثالثة v3 إلخ، كما هي العادة في هذا النوع من المنصات، ومع ذلك تلقّى المؤلفون النقد برحابة صدر وعلّقوا بأنهم هم من سحبوها من تلقاء أنفسهم وسيعيدون النظر والتحليل، الأمر الذي عبّر مونتانييه عن شكِّه به مرجِّحاً أنّ هناك ضغوطاً معينة مورست على المؤلّفين لإلغاء متابعة البحث نهائياً.

ربما كان المؤلفون مستفزِّين في عدة توصيفات لنتائج بحثهم اعتباراً من العنوان الذي يترجم إلى: «تشابه غريب بين إقحامات فريدة في البروتين الشوكي لفيروس 2019-nCoV من جهة وبين البروتين السكري للإيدز HIV-1 gp120 وبروتين Gag الإيدز من جهة أخرى»، لأن كلمة «إقحام» insertion ترجّح الاصطناع المخبري المتعمَّد، ومبرّر ذلك حسب المؤلفين:

«من المثير للاهتمام، أنه رغم كون الإقحامات غير متواصلة مع بعضها على السلسلة الأولية للأحماض الأمينية، فإنّ النمذجة ثلاثية الأبعاد لفيروس كورونا المستجد تقترح بأنها [أي الشدف المقحمة] تتقارب لتشكل الموقع الرابط للمستقبِل. ووجود أربعة إقحامات inserts فريدة في الفيروس وتطابقها/تشابهها كلها مع ثمّالات حمضية أمينية في بروتينات بنيوية مفتاحية في فيروس HIV-1 من غير المرجّح أن يكون أمراً تصادفياً في الطبيعة».

وكمثال على الانتقادات التي وردت أنه من الممكن أن تكون هذه القطع «الإيدزية» الأربع في جينوم فيروس كوفيد-19 ليست سوى صدفة طبيعية من باب ما يعرف بـ«التشكّل المتجانس» تطورياً homoplasy حيث قد يحدث لدى أنواع أو ذرارٍ حيّة أن تتعرض لضغوط اصطفاء طبيعي متشابهة وتمتلك بعض أجزاء جينوم متطابقة (وبالتالي بروتينات متماثلة). ربما يكون ذلك «إمكانية واقعية» مهما كان احتمالها صغيراً (واحد بالمليون أو بالمليار؟ لا ندري فالأمر يحتاج لدراسة جيدة تجمع البيولوجيا ونظرية الاحتمالات الرياضية معاً). لكن أن تكون القطع الأربع قد تصادف وجودها في أربعة مناطق متباعدة من سلسلة جينوم الكورونا بحيث أن ترجمة معلوماتها الوراثية إلى سلاسل ببتيدية ثم الانطواء الفراغي لهذه السلاسل يؤدي تحديداً لتشكل البروتين الشوكي S لفيروس الكورونا الذي وظيفته تمكين الفيروس من الارتباط بغشاء خلية بشرية، وأن تكون هذه «الإقحامات» نفسها في جينوم فيروس HIV-1 تترجَم في الإيدز إلى بروتينَين مميَّزين يؤديان وظائف مشابهة تتعلق بتمكين الفيروس من التعرف على الخلية البشرية الضحية والالتصاق بها واختراقها (فالبروتين HIV-1 gp120 يربط فيروس الإيدز مع مستقبله على غشاء الخلية البشرية الضحية، والبروتين HIV-1 Gagوظيفته اندماج فيروس الإيدز بالغشاء الخلوي للضحية) – أن تجتمع كل هذه «المصادفات» يثير التساؤل عن نوعية «الضرورة» الكامنة وراءها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
966
آخر تعديل على الأربعاء, 20 أيار 2020 14:53