فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً (2)

فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً (2)

«ربما يمكن تصنيع الأجزاء المكوِّنة لمخلوق، وتجميعها معاً، ومَنْحها دفء الحياة» – ماري شيللي في مقدمة الطبعة الثالثة لرائعتها «فرانكنشتاين، أو بروميثيوس العصر الحديث» 1818.

الفيروسات الخيمريّة

يعود أصل الصفة خَيمَريّ chimeric إلى اسم الكائن الأسطوري «خَيميرا» Chimera الموصوف في النشيد السادس من إلياذة هوميروس (القرن الثامن ق.م): «لهُ رأسُ ليثٍ على ذيل أفعى، على جسم تَيسٍ مِنَ المَعز يَرعى. وَمِن فمه نفثاتُ الأوار، تَقاذَفُ ناراً تُثيرُ الشرار». أمّا الجينات الخَيمريّة فهي مورّثات تتشكل من اتحاد أقسام من تسلسُلات مورثات أخرى لتكوين نمط جديد من «إطار القراءة المفتوح»  ORF (سلسلة نكليوتيدات تبدأ بكودون إقلاع وتنتهي بكودون توقّف وتشفّر سلسلة أحماض أمينية لتركيب بروتين معيَّن). وتستطيع المورثات الخيمرية منح مرونة كبيرة وتسريعاً استثنائياً للتطور بإحداثها قفزات كبرى بالتغيّر الجيني لمواجهة الضغوط الاصطفائية، مانحةً وظائف جديدة تماماً neofunctionalization، أو زائدةً وظائفَ فرعية subfunctionalization، بشكل أكثر جذرية عادةً من التراكم الاعتيادي للطفرات النقطية (تغيير نكليوتيد واحد).

 لمحة تقنية وتاريخية

عام 1970 اكتشف تيمين وبالتيمور أنزيم النسخ العكسي الذي ينسخ RNA إلى DNA. عام 1973 طوّر كوهين وبوير طرائق تأشيب الدنا DNA recombination (دمج سلسلتين أو أكثر في تركيب جديد غير موجود بالطبيعة عادةً). وبناءً عليهما تطورت أواخرَ السبعينيات تقنيةٌ ثالثة؛ «نسخة الدنا المُعدِية» infectious DNA clone وهي شريطٌ مزدوج من دنا الجينوم الفيروسي محمول ضمن بلازميد (دنا حَلقَي) جرثومي، مما جعل العلماء قادرين على إدخال طفرة في أيّ موقع يريدونه في الجينوم الفيروسي. في علم الوراثة الكلاسيكي يستَنتَج نمطٌ وراثي genotype معيَّن بدراسة النمط الظاهري phenotype، أي البروتينات/الصفات الناتجة عن ترجمته، لكنَّ علماً جديداً هو الوراثة العكسية reverse genetics أتاح تدفُّق المعلومات بالاتجاه المعاكس، فبات ممكناً مباشرةً تحديد أو تعديل المورثة مخبرياً ثمّ مراقبة ماذا ينتج عنها كنمط ظاهري. في علم الفيروسات عرّف نيومان وكاواكا (2004) الوراثةَ العكسية بأنّها توليد فيروس كامل من الدنا المتمِّم cDNA (المنسوخ عكسياً عن RNA) وهي تكنولوجيا وُصِفَت بأنها «أداة قوية ومدهشة لتوليد فيروسات مُعدَّلة» – (الوراثة العكسية لفيروسات الرنا، آن بريدجين 2012، ص17).

ولأخذ فكرة عن مدى الدقة والسرعة اللتين يتيحهما هذا التطوّر التكنولوجي للاصطناع المخبري للفيروسات، سواءً المطابقة للأصل الطبيعي أو المعدَّلة بأيّة طفرات «حسب الطلب»، نقتبس من خلاصة دراسة أمريكية عام 2003 نَشَرها بُعَيدَ وباء السارس الأول فريق من تسعة علماء أمريكيين، منهم أربعة من المعهد العسكري للأبحاث الطبية في قاعدة الجيش الأمريكي في «فورت ديتريك» إضافةً للمخترع الدكتور رالف باريك Ralph Baric عالِم فيروسات الكورونا الأوّل على مستوى أمريكا والعالَم:

«العامل السببيّ المسؤول عن متلازمة SARS هو أحد فيروسات الكورونا غير المَوصوف من قَبْل. قمنا بتجميع الدنا المتمِّم cDNA كامل الطول من السلالة الفيروسية SARS-CoV Urbani واستنبطنا فيروسات سارس مُستَنسَخة مُعدِية بحيث تحوي الطفرات الواسمة المتوَقَّعة التي أقحمناها في النُّسَخ. وتكاثرت الفيروسات المأشوبة [المُصطَنَعة] بالكفاءة ذاتها التي يتمتع بها الفيروس البرّي [الطبيعي]... إنّ توافر هذا الدنا المتمِّم يزوِّدنا بقالَب من أجل المناورة/التلاعب manipulation بالجينوم الفيروسي [المادة الوراثية للفيروس]، مما يسمح بشكل سريع ورشيد بتطوير واختبار لقاحات وعلاجات مُرشَّحة». لكنّ سبع عشرة سَنةً انقضت دون أن يظهر أي لقاح ناجح لأيّ من فيروسات الكورونا على الإطلاق.

 براءات اختراع لفيروسات خارقة

منذ 20 نيسان 2014 تقدّمت جامعة نورث كارولينا الأمريكية باسم ثلاثة من علمائها (رالف باريك، سودهاكار أغنيهوثرام، وبويد يونت) بطلب لتسجيل براءة اختراعهم الممولة من الحكومة الأمريكية «طرائق وتركيبات للبروتينات الشوكية لفيروس كورونا خَيمَرِيّ»، فسُجِّلَت في 9 أيلول 2016، ونُشِرَت في 6 نيسان 2017. وقد مثّلت اختراقاً علمياً أرسى طريقةً عامة للاصطناع المخبري لفيروسات كورونا خَيمرية، طبقوها بتوليفات متنوعة. منها مثلاً توليفة من ثلاث سلالات فيروسية (فيروسين من الخفافيش مع فيروس سارس بشري) في فيروس واحد جديد. وكان معروفاً أن وظيفة البروتين الشوكي S تتحكم بأُلْفَة استقبال الخلية الضحية للفيروس، بشدة المرض (جزئياً)، وبطيف الكائنات التي يستطيع التطفل عليها، بما في ذلك إمكانية «القفز» من الحيوان إلى الإنسان. أما الهدف المذكور بالاختراع فكان «المساعدة على صنع لقاحات وعلاجات».

 «الدوريات المحكَّمة» تفقد ذاكرتها

بذريعة مواجهة «نظريات المؤامرة» وفيما بدا ردّاً على الورقة الهندية التي تناولناها في الجزء الأول من هذا المقال، نشرت مجلة «الميكروبات والإنتانات الناشئة» العلمية المحكَّمة Emerging Microbes & Infections في 4 شباط 2020 ورقة ردّ كتبها ستة باحثين، بعنوان «فيروس الإيدز HIV-1 لم يساهم بالمادة الوراثية لفيروس كورونا المستجد». ورغم احتوائها على ملاحظات تستحق المتابعة، لكن ما لا يُغتَفر فيها هو الادعاء الكاذب والمضلّل في الجملة الأخيرة من السياق التالي: «قبل أن يتمّ التحديد الواضح للمصادر الطبيعية لعوامل ممرضة جديدة، غالباً ما تطفو على السطح نظريات المؤامرة القائلة بأنّ العوامل الممرِضة الجديدة هي من صنع البشر. ولكن بكل الأحوال فإنّ نظرياتٍ كهذه لطالما كان يُفتَضَحُ زِيفُها في التاريخ». وكلمة debunk التي استعملها المؤلفون بمعنى (يفضح زيف) كثيرة الاستعمال بالأدبيات العلمية المعاصرة بسياق يرتبط غالباً بلهجة السخرية والتنمّر التي يوجّهها مثقَّفو السلطات العلمية السائدة ضدّ أيّ عالِمٍ أو ناقد يخرج عن «كهنوت» القيود التعسفية على حرية البحث العلمي، ناعتين إياه بـ«العالِم الزائف». في المساحة المتبقية هنا سنكتفي بمثالين معاكسَين من تاريخ العِلم القريب يدحضان كذبة (انعدام سوابق تاريخية لتصنيع البشر عاملاً ممرضاً جديداً).

 فيروسات جديدة مُمرِضة صَنَعها البشر

عام 2000 أجرى علماء من جامعة أوتريخت إحدى تجارب «كسر الحاجز بين الأنواع»، ونُشِرَت هذه الورقة الهولندية بعنوان «إعادة استهداف فيروس كورونا عبر استبدال النطاق الخارجي للبروتين السكري لأشواكه: عبور حاجز نوع الخلية الثَوِيّ». ونصّت خلاصتها: «باستخدام تقنية تأشيب حمض الرنا النووي المستَهدَف، أنشأنا نوعاً طافراً من فيروس كورونا التهاب الكبد الفأري MHV استبدلنا فيه النطاق الخارجي للبروتين السكري الشوكي S ووضعنا مكانه النطاق الخارجي المختلف كثيراً للبروتين S من فيروس التهاب البرتوان الإنتاني السنّوري. فاكتسبَ الفيروس الخَيمَريّ الناتج، والذي سمّيناه fMHV، القدرةَ على إصابة خلايا الهِرّ، وبالوقت نفسه فَقَدَ قدرتَه على إصابة خلايا الفأر في الزرعات النسيجية».

وليس ممكناً فقط تصنيع فيروسات أشدّ قدرة على العدوى infectivity بل وكذلك أشدّ إمراضاً pathogenicity وفتكاً lethality من الفيروس الطبيعي (البَرّي wild type)، كما في مثالنا الثاني من ورقة تصنيع MA15 عام 2007 – سلاسة جديدة من فيروس كورونا تقتل الفئران بأقل من أسبوع. وتألّف فريق البحث من 14 عالِم أمريكي، وضمنهم، من جديد، مهندس الكورونا الأوّل المخترع الدكتور رالف باريك. تُفتتح الورقة بملاحظتهم أن فيروس كورونا السارس SARS-CoV Urbani الذي سبب الوباء للإنسان عام 2003 لا يسبب أيَّ مرض يذكر لدى الفئران، رغم أنه يستطيع التكاثر في جسم الفأر، لكن يبدو أنّ هذا الفيروس والفأر يتعايشان معاً بسلام. إلّا أنَّ مؤلّفي الدراسة رأوا في ذلك عائقاً اقتصادياً وإحصائياً أمام إمكانية استعمال الفئران لدراسة الفيروس. فما العمل؟ هيّا نخلق فيروساً ممرضاً للفئران: قاموا بتكييف السلالة الفيروسية المُسالِمة للفئران عبر تمريرها المتسلسل بحقنها في أنوف الفئران وصولاً لأكثر سلالة فتاكة (بنسبة وفيات 100%) والتي نتجت بعد 15 تمريراً متسلسلاً. عزلوا فيروس السارس ذي التكيُّف الفأري الجديد الفتّاك هذا وسمّوه MA15 واكتشفوا بدقة الطفرات الست المسؤولة عن هذا التطوير غير الطبيعي، ثم أعادوا إدخالها نفسها على سلالة مأشوبة من الفيروس البرّي فنتج فيروس ثالث أشدّ فتكاً سمّوه rMA15. وهذا يصنَّف ضمن «الاصطفاء التطوري المُوجَّه اصطناعياً». فيما بعد صُنِعَت منه توليفات خَيمرية أيضاً، مثل SH014-MA15 عام 2015 و WIV1-MA15 عام 2016.

معلومات إضافية

العدد رقم:
967
آخر تعديل على السبت, 30 أيار 2020 13:21