مداخلة عبر الأثير: الهوية الوطنية والدستور
تتناول النقاشات الجارية في الجلسة الأولى ضمن الجولة الثالثة للجنة الدستورية، والتي انطلقت اليوم الإثنين الساعة الحادية عشرة بتوقيت جنيف الثانية عشرة بتوقيت دمشق، عدة موضوعات ونقاط مشتقة من العنوان العريض لجدول الأعمال (الأسس والمبادئ الوطنية).
إسهاماً بالنقاش، أضع هنا ما يمكن أن أصفه بأنه «مداخلة عبر الأثير»، وأضعها مبندة في بنود مكثفة قدر الإمكان:
1- مفهوم الهوية الوطنية هو أحد المفاهيم الواسعة النطاق إلى ذلك الحد الذي يبدو الدستور معه، لا بمقدمته فقط، بل وبكل مواده وتفاصيله، مجرد تعبير حقوقي –وتعبير حقوقي غير كامل- عنها؛ فمفهوم الهوية الوطنية يُعنى بالجوهر بعلاقة المجتمع مع مؤسسات الدولة المعنية وكيانها وأرضها وسيادتها، بوصفه جزءاً أساسياً منها.
2- وظيفة الدستور (بما هو عقد اجتماعي)، أن يعبر بشكل مكثف عن الهوية الوطنية وأن ينظمها.
3- المرحلة الأولى من تشكل الهوية الوطنية السورية (والتي مرت حتى الآن (باعتقادنا) في ثلاث مراحل أساسية) هي مرحلة التشكل الأولي الذي أرساه الآباء الأوائل من يوسف العظمة إلى سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وهنانو والأشمر... بنضالهم ضد الاستعمار وبقيمهم وأخلاقياتهم وسلوكهم الذي اتصف إلى جانب حكمته وغيريّته بأنه كان أقرب إلى سلوك الزهاد في السلطة والمال. وإذا كانت سايكس بيكو قد رسمت حدود سورية الحديثة، فإنّ دفاع الآباء الأوائل لسورية عنها ضد المستعمر الفرنسي، لم يكن دفاعاً عن حدود سايكس بيكو بقدر ما كان جزءاً من حركة تحرر وطني ضد الاستعمار الغربي بشكله القديم، حركة شملت بقاعاً عديدة من بلدان العالم (التي يحلو للمستعمر تسميتها ببلدان العالم الثالث).
أي أنّ المرحلة الأولى من تشكل الهوية الوطنية، أرست الانتماء الوطني لسورية ليس كحدود فقط، وإنما كمشروع مضاد للاستعمار الغربي. هذا الأمر كان ولا يزال جزءاً أساسياً من المكونات الأساسية للهوية الوطنية السورية.
4- المرحلة الثانية من مراحل تشكل الهوية الوطنية، هي تلك التي امتدت بعد الاستقلال السياسي ولعدة عقود بعده، جرت خلالها محاولات بناء اقتصاد وطني مستقل وجرت ضمنها عمليات التأميم الكبرى وبناء القطاع العام وعمليات محاربة الإقطاع وإنهائه. ولكن عملية الاستقلال الاقتصادي لم تكتمل حتى اللحظة، بل تعرضت إلى نكسة كبيرة مع سيادة السياسات الليبرالية، بشكل مستتر وبطيء منذ بداية التسعينيات، وبشكل واضح وسريع ومتوحش منذ 2005 مع تبني ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» بما خلّفه من نتائج كارثية.
5- بالتوازي، وضمن المرحلة الثانية نفسها، لم تجر حتى اللحظة عمليات المراجعة الضرورية لمجمل الإرث الذي تركه الاستعمار في سورية؛ فحتى اللحظة لا تزال أجزاء غير قليلة من المنظومة القانونية تعود بأصولها، بل وحتى في أشكالها المنجزة في بعض الحالات، إلى حقب الاستعمار الفرنسي وحتى العثماني. من ذلك مثلاً قانون الانتخابات الذي كان في حين تطبيقه الأول في سورية مشابهاً لذاك الذي كان في فرنسا، ولا يزال إلى الآن كما هو رغم أنّ الفرنسيين أنفسهم عدّلوه مراراً وتكراراً. كذلك الأمر مع قانون الأحوال الشخصية مثلاً، والذي لا يزال بأقسام عريضة منه كما كان تحت سيطرة الدولة العثمانية...
6- عدم استكمال الاستقلال، وبالتالي عدم استكمال صياغة الهوية الوطنية السورية، لم يقف عند حدود الاقتصاد والقانون، بل وشمل الثقافة أيضاً... فحتى الآن لم يتم إنجاز استقلال ثقافي وطني سوري بما تعنيه الكلمة رغم وجود محاولات إبداعية عظيمة، فردية أو محدودة النطاق على مستوى الموسيقى والأدب والمسرح والسينما والدراما وإلخ. ليس المقصود بالاستقلال الثقافي بطبيعة الحال، الانعزال عن الثقافة الإنسانية العامة، بل العكس تماماً، أي إبراز وتخليق المشروع الثقافي الإنساني العام، المشروع المدافع عن الإنسان وحقه في حياة كريمة وهانئة وعمل كريم، ضمن الخصوصية السورية.
7- عدم استكمال بناء الهوية الوطنية في مناحي عديدة (اقتصادية وقانونية وثقافية وغيرها) سمح خلال السنوات الأخيرة، بالتوازي مع عوامل عديدة بطفو مؤقت للهويات تحت الوطنية إلى السطح.
8- المرحلة الثالثة التي نعيش بداياتها منذ عدة أعوام، هي مرحلة مفصلية ووجودية بالنسبة لسورية ككل، فإما أن نمضي في تجاهل ضرورات إنجاز استقلال سياسي واقتصادي متكامل ونمضي أعمق وأعمق باتجاه اللاعودة وباتجاه التفتيت، وإما أن نتحمل مسؤولياتنا صوب بلورة هوية وطنية راسخة تبنى في جوهرها على ما أرساه الآباء الأوائل.
بضع اقتراحات لنقاط ملموسة بما يخص الدستور:
1- ينبغي أن تتضمن مقدمة الدستور الجديد إشارة كافية للآباء الأوائل للجمهورية ولنضالاتهم وتضحياتهم، وما أرسوه من جوهر في هوية سورية كأول بلد نال استقلاله من الاستعمار الأوروبي، وكبلد معادٍ للاستعمار بأشكاله المختلفة، بما فيها شكله الاقتصادي الحديث، وبما فيها شكله الصهيوني المتمثل بالكيان المحتل وشكله الأمريكي المعادي لحقوق الشعوب عامة. وينبغي إعادة تكريس ما ثبته الآباء الأوائل عن سورية كدولة وشعب مناصر لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، ولعلاقات دولية تقوم على التكافؤ والاحترام المتبادل، وعلاقات بين الشعوب وخاصة شعوب المنطقة، تقوم على أساس الأخوة والتعاون.
2- ينبغي حل القضايا المعلقة التي أعاقت حتى اللحظة استكمال بناء انتماء وطني سوري خالص؛ القضية الكردية ينبغي حلها في الإطار السوري حلاً عادلاً ينهي الحالة الناشزة التي نشأت مع الإحصاء الاستثنائي لسنة 62 وما تلاها.
3- انتماء السوري لوطنه ليس منظومة واجبات فقط، بل هو أيضاً منظومة حقوق، وعلى رأس هذه الحقوق حقه في عيش حياة حرة وكريمة بما تعنيه هاتان الصفتان من تفاصيل عديدة في الإطار الاقتصادي والديمقراطي...
4- في الإطار الاقتصادي، ينبغي أن يؤسس الدستور لنموذج اقتصادي جديد يحقق أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو ويضمن ربطاً للحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة وربطهما بالأسعار وتغيرها.
5- في الإطار القانوني، يجب أن يؤسس الدستور لحقوق المنتجين في الدفاع عن مصالحهم؛ فهؤلاء كما أثبتت التجارب التاريخية المختلفة، هم المعنيون أولاً وأخيراً بالوطن وبالانتماء إليه وفي الدفاع عن هذا الانتماء. يشمل ذلك حق الإضراب وحق العمل النقابي وحمايته واستقلاليته...
6- في الإطار الديمقراطي، ينبغي أن يتحقق شعار السلطة للشعب وبالشعب ولأجله، لأنّ أساس الهوية الوطنية هو شعور المواطن بأنه مواطن حقاً وبأنّ لرأيه دوراً وسلطة. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر نموذج جديد للدولة يعيد توزيع الصلاحيات بين المؤسسات الثلاث، ويعيد صياغة العلاقة بين المركزية واللامركزية في الإدراة بحيث ينقل أكبر قدر من السلطات المباشرة الضرورية للنمو والتنمية باتجاه المناطق.
كمحصلة أولية، النقاش في مسألة الهوية الوطنية السورية هو نقاش في ماضي سورية وحاضرها، ولكنه نقاش من أجل المستقبل، والنقاش الدستوري في جوهره هو نقاش لمسألة الهوية الوطنية... ولذلك كلّه فإنّ تأسيس مفهوم متكامل قدر الإمكان للهوية الوطنية السورية (في الإطار القانوني الدستوري)، هو ذاته تأسيس الدستور الجديد.