واشنطن ترفع مهر «ابنتها»!
جرى إعداد هذه المادة بتاريخ 20 آب وكانت الخطوات الأمريكية لإعادة فرض العقوبات على إيران مستمرة ولا تزل تفاعلات النشاط الأمريكي جارية حتى اللحظة، وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية لم تأخذ خطوات ملموسة في اتجاه مغاير إلا أن تصريحات ملفتة للرئيس الأمريكي قالها في 21 آب تؤكد الاستنتاجات المذكورة في مادتنا هذه.
في تصريحات الرئيس الأمريكي أعلن صراحة عن نيته عقد اتفاق جديد مع إيران إذا ما تم إعادة انتخابه رئيساً في تشرين الثاني المقبل، وعلى الرغم من هذا الإعلان لا يزل ما ذكر في هذه المادة يساهم بفهم السلوك الأمريكي وخصوصاً مع ظهور المؤشرات الأولية التي تدعم الاستنتاجات التي جاءت ضمنها
فيما يلي نصها كما كتب:
متّعْنا نظرَنا بمشهد أمريكا معزولةً في جلسة مجلس الأمن حول تمديد حظر الأسلحة على إيران، وعلى الرغم من أن المشهد يكادُ يكون لوحةً تاريخية بديعة لكننا – وإن كنا تواقيين للاحتفال بهذه اللحظة التاريخية التي تعلن اقتراب طي صفحة الهيمنة الأمريكية – لا بد لنا أن نسأل: إنْ كانت نتيجةُ التصويت معروفة، فلماذا قرَّرت الولايات المتحدة إعلانها أمام الناس بهذا الشكل؟
من المعروف أنّ النشاط الدبلوماسي يكون عالياً قبل انعقاد جلسات مجلس الأمن، فيجري استطلاعٌ واسعٌ للآراء قبل القيام بخطوة ما، إمّا لرصِّ صفوف الحلفاء أو لاستطلاع سلوك الخصم، لذلك تكون مصائر مشاريع القرارات التي ستُقدَّم جرى حسْمُها قبل انعقاد الجلسة التي غالباً ما يكون لها وظيفةُ الإعلان عن النتيجة.
لا يعني هذا أن لا مفاجآت يمكن أن تحصل داخل القاعة بل هذا وارد الحدوث، لكن جوهر الفكرة أن الداخلين إلى قاعة المجلس يكون لديهم معلومات وتقارير وافية عن موقف المصوِّتِين من القرارات الموضوعة على الطاولة، ومن هذه النقطة يمكننا استنتاج أن ما يجري أوسع من مجرد اعتماد مشروع قرار أو رفضه!.
«مجريات الجلسة» هدفاً
اتخاذ قرارٍ معيَّن في مجلس الأمن لا يمكن النظر إليه إلا من منطق التوازن الدولي حصراً، أيْ أنّ قراراً ما قد لا يلقى دعماً كافياً داخل المجلس لكنه يلقى دعماً واسعاً لدى الرأي العام العالمي مثلاً، وبغض النظر عن الآليات التي تساهم في تشكيل الرأي العام إلا أن كسبه يكون ضرورياً في استراتيجيات البعض، ويمكننا النظر إلى الملف السوري في مجلس الأمن على سبيل المثال، والذي جرى طرح قراراتٍ بشأنه للتصويت على الرغم من إعلانٍ روسي-صيني مسبق عن نيَّتهما استخدام «حق الفيتو» في وجه هذه القرارات. لكن طرح تلك القرارات كان أشبه بإرسالها للموت وحصد ثمار الرفض الروسي الصيني لها عن طريق إيجاد مبرر لحملات مضادة لهذا الموقف – الروسي تحديداً – وتحويل مجريات جلسات مجلس الأمن إلى حملات متلفزة ضد الدور الروسي.
لكن وإذا عدنا إلى القرار الأمريكي الأخير حول إيران، فكيف يمكننا استنتاج الغرض منه؟ لا يعني هذا بالطبع إنكار عزلة الولايات المتحدة بل يعني فهم سلوكها في الإعلان عن هذه العزلة.
كل الأنهار مصبها البحر
عزلة الولايات المتحدة في الملف الإيراني بدأت منذ انسحابهم من اتفاق لوزان حول النووي الإيراني في 2015، ولا شك أن هذا الانسحاب كان طمعاً بإيجاد اتفاقٍ جديد لا يقر بحق إيران رفض «طرفيتها»، ويفرض قيوداً على مشروع استقلالها بهدف إعاقة تطورها، لكن هذه الرغبة الأمريكية لم تلقَ رواجاً أبداً بل أظهرتهم بوصفهم خارجين عن القانون الدولي ولم يلحق برَكْبهم أحدٌ هذه المرّة، وعلى الرغم من تشديد العقوبات الأحادية على إيران والتي كانت تهدف إلى منعها من إخراج أي برميل نفط من أراضيها، استطاعت إيران إيجادَ مخارج باتجاه الشرق، بل شكّل الملف الإيراني عنصراً ضاغطاً على الدول الأوروبية مما عزَّز موقف القوى الأوروبية الداعية للانفكاك عن أمريكا، وإن كنا لم نشهد بعد هذا الانفكاك الشامل إلا أننا شهدنا خطوات تمهيدية بهذا الاتجاه مثل آلية دعم التبادل التجاري (INSTEX) التي هدفُ إنشائها إيجادُ طرقٍ للتبادل التجاري بين أوروبا وإيران بعيداً عن الولايات المتحدة وعقوباتها، وإن كانت لم تنطلق بعد إلا أنها مؤشر لمجرى الأمور، أي أنّ الانسحاب الأمريكي من هذا الاتفاق ارتدَّ بشكلٍ سلبي ولم يحقِّق إلى الآن هدفَه النهائي، بل أعطى دفعاً لعملية الانفكاك الأوروبي-الأمريكي الجارية، وباتت الولايات المتحدة تحتاج لإجراء تغيير جذري لهذه الاستراتيجية وهذا التغيير يحتاج أولاً لإعلان عزلتهم عبر استخدام استراتيجيتهم الجديدة «يلي ما بدو يزوج بنتو بعلي مهرا»، والتي بدأت تظهر بوضوح في الملف الفلسطيني ثم انتقلت إلى الملف الإيراني أيضاً، فباتت ترفع سقف مطالبها إلى الحد الذي تضمنُ أن تُرفَض، وبالتالي تعلِن عزلتها وعدم قدرة مسارها على الاستمرار بعد أن جرى ختمها من قبل المجتمع الدولي، فهزيمة مسارهم هو التمهيد الضروري لإعلان الخطوة التالية التي لن تكون إلا واحداً من خيارين؛ إما إعلان الحرب أو إعلان الولايات المتحدة قبولها بمخرجات لوزان 2015، بل ربما اتفاق جديد أسوأ بالنسبة لها، فاللحظة التي جرى فيها توقيع الاتفاق النووي الإيراني لا تشبه اليوم، فقد مرّت خمسُ سنين هَرِمت الولايات المتحدة فيها أكثر بكثير مما تعتقد.
كان خيارُ الحرب مطروحاً منذ اللحظة الأولى، وإنْ كان ما زال مطروحاً اليوم إلّا أنّ حظوظَه قليلة، فقد وصلت العلاقة بين البلدين إلى لحظة إعلان الحرب فعلاً، وادّعى ترامب أنه ألغى هذا القرار في آخر لحظة حرصاً «على حياة المدنيين»، لكن السبب الحقيقي هو أنّ الكفة داخل الإدارة الأمريكية لم تسمح بإعلان الحرب، وهذا لم يتغير حتى اللحظة، بل تقول الوقائع أن الكفة أصبحت في الاتجاه المقابل تماماً؛ فقد صرّح الرئيس الأمريكي منذ ساعات في مؤتمر صحفي حول الوجود الأمريكي في العراق فقال: «لقد تركنا العراق عملياً، ولم يتبقَّ سوى عدد قليل جداً من القوات هناك. وسننهي هذه الحروب السخيفة التي لا نهاية لها»، معتبراً أن قرار دخول الولايات المتحدة إلى العراق هو «القرار الأسوأ في تاريخنا... ما كان يجب على العسكريين الأمريكيين التواجد في الشرق الأوسط». فالرئيس الأمريكي الذي أعلن منذ البداية رغبته في الخروج من هذه الحروب لا يرحِّب بالطبع بفتح مغامرةٍ جديدة، وهذا لا يخالف قرارَ باراك أوباما الذي سبقه أو حتى منافسه الجديد جون بايدن.
لذلك يصبح إعلان التراجع بشكله هذا خطوةً ضرورية في المعركة الأمريكية الداخلية ولدى الرأي العام الأمريكي، فالوصول إلى الطريق المسدود يشكّل نقطةَ قوةٍ في يد «فريق الانكفاء» الذي يحتاج إلى إعلان هزيمة الفريق الآخر، لتكونَ نقطةً في صفِّه في ظل الانقسام الحاد في الداخل الأمريكي، وتكونَ مبرراً لتحوّل السلوك في الاتجاه الآخر، فعدم قدرة الولايات المتحدة الذهابَ إلى حربٍ واسعة، وعزلتُها داخل مجلس الأمن بهذا الشكل، سيجري استخدامهما في المعركة الدائرة بين الفِرَق المنقسمة. لذلك يبقى التفسير الآخر الغالب هو المفاوضات، وإن كانت الملامح التفصيلية لهذه الخطوة غير واضحة بَعْد، إلا أن خياراتها متنوعة؛ إما الدخول في المباحثات التي يدعو لها الرئيس الروسي للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن مع ألمانيا وإيران، والتي لا تشمل الملف النووي الإيراني فحسب بل تشمل كل منطقة الخليج لإيجاد آلية لحفظ السلام في المنطقة، «ما يعني تنازلاً أمريكياً أكبر من اتفاق لوزان 2015». وإما إعادة تفعيل الآلية السابقة التي شملت «الخماسية» إلى جانب روسيا وإيران. وقد تحملُ الأيام القادمة «توليفة» جديدة، لكنّ أياً منها سيكون خاضعاً للتوازن الدولي الحالي، أي سيكون أقصى طموحات واشنطن العودة لاتفاق لوزان دون تعديله. ومن هنا كان لا بد قبل الانطلاق باتجاه المفاوضات أن يُدرك الرأي العام عزلة الولايات المتحدة وأن يقتنعَ الجميعُ بأن هذا الطريق باتَ مسدوداً فعلاً