الدولة اقتصادياً... بين الغرب والشرق

الدولة اقتصادياً... بين الغرب والشرق

تعتبر الدولة أداة بيد الحاكمين الحقيقيين اقتصادياً، وهي جهاز القمع والتنظيم الضروريين لإدارة علاقة الحاكم اقتصادياً بالمحكوم، وهذا عموماً. ولكن الاختلاف في دور الدولة خلال الأزمة الاقتصادية الحالية بين دول المركز الغربي، وبين الدول الصاعدة يعطي دلالات هامة حول اختلافات في دور الدولة في المرحلة الحالية من الأزمة الاقتصادية والصراع العالمي نحو الجديد.


حكم المال العالمي.. غرباً
تعتبر الأزمة المالية علامة الظهور الواضحة الأولى للأزمة الاقتصادية العالمية الممتدة منذ ذلك الحين، بنمو اقتصادي وتجارة عالمية وحركة أموال تستمر بالركود، وتتراجع معدلات نموها عاماً بعد عام.
احتاجت هذه الأزمة إلى أعلى مستوى من «البراغماتية» الغربية، فسقطت مقولات عقود النيوليبرالية حول السوق التي تصحح نفسها، وانطلقت الحكومة العالمية الفعلية لتستخدم الدول وميزانياتها ومصارفها المركزية لإنقاذ السوق وانتشالها. وبالفعل ازداد تدخل الدولة في الاقتصاد، وزادت ملكيتها، ولكن لصالح الأسواق المالية فقط، فعنوانان أساسيان للتدخل منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية: الأول هو: حزم إنقاذ البنوك والشركات، والتي قدرتها دراسة أمريكية في نهاية 2015 بـ 29 تريليون (ألف مليار) دولار منذ عام 2008. أما في أوروبا فلا يوجد تقدير إجمالي، ولكن آخر التقديرات التراكمية تشير إلى أن حزم الإنقاذ الأوروبية بلغت في عام 2008 رقم: 2.8 تريليون دولار، عندما كانت حزم الإنقاذ الأميركية لا تتعدى 1.3 تريليون. أما الثاني: فهو خطط التقشف الحكومية، التي جعلت الإنفاق الحكومي الأوروبي وفي دول العالم المتقدم لا ينمو إلا بمعدلات منخفضة، فبينما ازداد الإنفاق الحكومي الإجمالي في الدول المتقدمة خلال عشر سنوات منذ الأزمة وحتى اليوم بنسبة 10% فقط، فإنه قد تضاعف في الصين ليزداد بنسبة 126%، وفي الهند بنسبة 78% على سبيل المثال لا الحصر.

حكم إدارة التحديات.. شرقاً
على الضفة الأخرى عالمياً ولدى الدول الصاعدة، فإن إمكانيات النمو الاقتصادي الحقيقي، ومعدلات الربح الأعلى، التي يتيحها التراجع الغربي، تدفع الإدارة الاقتصادية للدول لتأخذ في الأزمة سلوكاً آخر.
حيث يتضح للدول الصاعدة بأن كلاً من معدلي النمو والربح يمكن رفعهما كلما تقلصت هيمنة قطاع الغرب المالي الذي تتجمع به ومن خلاله رؤوس الأموال والاحتكارات الغربية عموماً، وكلما زادت فرص التعاون الاقتصادي والانفتاح ضمن علاقات الدول الصاعدة مع بعضها البعض، والتي كان يعرقلها الغرب. ويعتبر هذا واحداً من المحددات التي تدفع هذه الدول إلى سلوك دور اقتصادي مختلف وأكثر إيجابية خلال الأزمة الحالية، ويجعلها قادرة على تعبئة حتى أجزاء من قوى المال لديها في هذا الاتجاه.
يضاف إلى هذا عوامل أخرى، تتعلق بالأبعاد السياسية والاجتماعية التي تحتم توسيع دور الدولة وقت الأزمات، والتي يطول الخوض بها، ولكن نستطيع القول بأن العوامل الجغرافية كالمساحات والثروات الكبرى، والعوامل الديمغرافية المتعلقة بعدد السكان، في دول كالصين والهند وروسيا، تبقي الحاجة الموضوعية إلى دور جهاز دولة قوي اقتصادياً، يمنع الانهيارات الاقتصادية الكبرى، التي قد تسببها حركة رؤوس الأموال الهاربة سريعاً، والمضاربة المالية العالمية، وما قد ينجم عنها من خسائر وتوقفات وبطالة وجملة تحديات اقتصادية- اجتماعية وطنية. يضاف إلى هذا أن إمكانات النمو الاقتصادي في هذه الدول وتسارعه هو هدف للغرب في أزمته، يستخدم في سبيل تحقيقه سبلاً متعددة أهمها توسيع رقعة الحرب والفوضى، ما يعطي المسألة بعداً وطنياً سياسياً إضافياً، يدفع موضوعياً إلى دور اقتصادي- اجتماعي للدول ويتجه تدريجياً نحو سحب وعرقلة أدوات هيمنة الغرب الاقتصادية.
المعطيات تقول إن دور الدولة الاقتصادي لدى الدول الصاعدة خلال الأزمة بدأ يدفع باتجاهين واضحين: زيادة ملكية الدولة وحصتها من الإنتاج الفعلي، وزيادة الأجور الحقيقية وزيادة حصتها من الناتج. أي دور يميل لصالح ضبط الاستثمار والنمو الاقتصادي عبر زيادة الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتعويض الثغرات التي قد يتركها رأس المال الخاص فجأة خلال الأزمة، وزيادة التوزيع لصالح الأجور.

زيادة ملكية الدولة
ازدادت منذ الأزمة ملكية وأصول الشركات المملوكة للدولة، والتي تتباين أشكالها بين الملكية الكاملة، وبين التشاركية بحصص أكثر من 50%، وبين الحصص التي لا تقل عن 10%، ففي الصين ومنذ عام 2007 تضاعفت أصول الشركات المملوكة للدولة بمقدار 300%، بينما خلال السنوات العشر السابقة لعام 2007 كانت قد ازدادت بنسبة 50% فقط. فرغم تراجع عددها بشكل كبير في الصين إلا أن ملكياتها قد ازدادت بنسبة قياسية، ونسبة تفوق 46% منها تعمل في مجالي الصناعة، والقطاعات المفتاحية في الطاقة والنقل والبنى التحتية، كما أنها لها مساهمة كبرى وعالمية في قطاع البنوك العالمي.
أما في روسيا فقد أصبحت الشركات التي تمتلكها أو تشارك فيها الدولة تساهم بنسبة 70% من الأداء الاقتصادي العام، بعد أن كانت هذه النسبة 38% في عام 2006. بينما ارتفعت مساهمة الشركات المملوكة للدولة في الهند من 11% من الناتج في عام 2005 وصولاً إلى 16% في عام 2010 ولا تتوفر بيانات لاحقة حولها.

توزيع على الاستثمار والأجور
التغييرات التي تجري في ملكية الشركات في الشرق تترافق مع تغيرات في التوزيع، باتجاه زيادة التوزيع للأجور، وزيادة في الاستثمار الفعلي في رأس المال الثابت بينما الأموال التي تصب من «الحكومات الحقيقية» في الغرب تترافق مع تراجع مستمر في حصة الأجور، وفي الاستثمار.
حيث ارتفعت حصة الأجور من الناتج في الصين بين 2008- 2014 من 48% إلى 52%، ونمت الأجور الحقيقية بين 2006 و 2016 بنسبة زيادة 125%، وفي روسيا كانت نسبة الزيادة 60% حتى عام 2014، وكذلك الأمر في الهند.
بالمقابل إن حصة الأجور من الناتج في الولايات المتحدة تراجعت من 58% إلى 55%، ونمت الأجور الحقيقية خلال عشر سنوات بين 2006- 2016 بنسب تراكمية قليلة 6% في ألمانيا، و5% في الولايات المتحدة، وفرنسا، بينما تراجعت في بريطانيا.
أما بالنسبة للاستثمار الفعلي في رأس المال الثابت فمقابل نسبة نمو لم تتعد 3% في الدول المتقدمة بين 2006- 2015، فإن الاستثمار الثابت نما بنسبة 153% في الصين، و 49% في الهند، و26% في روسيا منذ الأزمة وحتى اليوم.

لا يمكن على الدول الصاعدة أن تتجنب آثار الأزمة الاقتصادية الرأسمالية لأن الترابط العميق حاصل فعلياً في المنظومة الاقتصادية العالمية، ولكن يمكن إدارة الأزمة بإيجاد صمام أمان يضمن استمرار الموارد والاستثمار حتى في حال الاضطرار للعمل بأدنى حدود الربح، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال ملكية عامة متوسعة لوسائل الإنتاج الموجودة لدى الشركات، ولا يمكن إبقاء الدورة الاقتصادية تعمل إلا بضمان استمرار الاستهلاك ومن خلال استمرار توسيع حصة الأجور، ومنع السيناريو التقليدي للأزمات عندما يزداد معدل الاستغلال أي حصة الأرباح مقابل الأجور كما يحصل اليوم في الغرب.
وهذا ما تفعله بعض القوى الصاعدة في الشرق بزيادة تحكمها بقوانين السوق عبر الدولة، وقد يبدو هذا كافياً في المرحلة الحالية من الأزمة حيث يستمر الركود ولا يتوسع النمو، إلا أن المرحلة اللاحقة للتراجع ستحتاج إلى خطوات حازمة أكثر لا تقوم بها إلا دول تخاف جدياً من شعوبها وتحكم بأمر المصلحة العامة.