«معسكر السلام» العربي يتحول إلى الحرب
مع بدء عملية "عاصفة الحزم" التي أطلقها "معسكر السلام" العربي فجر الخميس الماضي، بدعم لوجيستي واستخباري أميركي معلن، بدأ الفصل اليمني في حروب داحس والغبراء العربية التي تعصف بالعرب ومقدراتهم ووحدة أوطانهم منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد المصرية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1979، وبخاصة منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
باب المندب أيضا ممر بحري فتحته دولة الاحتلال الإسرائيلي بوابة رئيسية لها إلى إفريقيا وآسيا وكانت هذه جائزتها الاستراتيجية الكبرى من مشاركتها مع بريطانيا وفرنسا في عدوانهم الثلاثي على مصر عام 1956
ولا يسع عرب فلسطين إلا أن يتابعوا هذا الانتحار العربي بحسرة ممزوجة بعتب غاضب على أشقائهم الذين يهدرون دماءهم وأموالهم في حروب جاهلية بينما فلسطين وعربها يرزحون صامدين ومقاومين تحت الاحتلال منذ عام 1948 بانتظار صحوة عربية تستجيب لاستغاثاتهم التي لم تتوقف لحظة من دون طائل حتى الآن.
واليوم يثبت "معسكر السلام" العربي أنه يملك المال والسلاح والإرادة السياسية لخوض حروب داحس والغبراء على اتساع الوطن العربي، خصوصا في الأقطار العربية التي ما زالت في حالة حرب، ولو اسمية، مع دولة الاحتلال، لكنه يقف عاجزا مكتوف الأيدي على حدود فلسطين المحتلة.
إن المطارت الحربية والألوية العسكرية التي تقصفها الآن في اليمن طائرات مقاتلة تحمل شارات عربية لكنها تسترشد بإحداثيات تتزود بها من الدعم اللوجستي والاستخباري الأميركي هي ملك الجيش اليمني، وليس ملكا لطائفة أو قبيلة منه، وملك للشعب اليمني الذي بنى هذا الجيش من قوت يومه الشحيح، وبالتالي فإن ما يجري هو تدمير لجيش عربي جديد، هو القوة الرئيسية التي تحارب "القاعدة" وتفريخاتها، بعد تدمير الجيشين العراقي والليبي بالغزو الغربي واستنزاف الجيش العربي السوري في غزو أجنبي بالوكالة العربية ممتد منذ ما يزيد على أربع سنوات، بقيادة الولايات المتحدة وتحريض دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ويتذرع تحالف الدول العربية العشر المشاركة في "عاصفة الحزم" بحجة أنه يشن حربه العدوانية على جيش اليمن وشعبه دفاعا عن "الشرعية الدستورية" المفقودة في معظم هذه الدول، بناء على طلب من رئيس يستمد شرعيته من "المبادرة الخليجية" أكثر مما يستمدها من داخل بلاده، ويركز إعلامها على هذه الحجة لإخفاء المصالح الذاتية والغربية التي تحميها هذه "العاصفة".
ويغيّب هذا الإعلام حقيقة أن باب المندب، وهو ممر مائي شرعي للمصالح العربية والدولية، هو أيضا ممر بحري فتحته دولة الاحتلال الإسرائيلي بوابة رئيسية لها إلى إفريقيا وآسيا وكانت هذه جائزتها الاستراتيجية الكبرى من مشاركتها مع بريطانيا وفرنسا في عدوانهم الثلاثي على مصر عام 1956.
ولا يوجد أي خطر يمني على الملاحة الدولية من باب المندب أيا كان النظام السياسي الحاكم، فهذه مصلحة يمنية حيوية بالدرجة الأولى، غير أن نظاما تقوده جماعة مثل "انصار الله" يهتف أنصارها في كل مناسبة بسقوط دولة الاحتلال وراعيها الأميركي سوف يكون خطرا على دولة الاحتلال فقط.
لقد تمخضت الانتخابات الأخيرة في دولة الاحتلال عن نتائج لا يمكنها أن تفضي إلا إلى تأليف حكومة حرب، ما استنفر حتى الرئاسة الأميركية الراعية للاحتلال ودولته للإعلان بأن هذا الاحتلال "يجب أن ينتهي"، بينما يستمر "معسكر السلام" العربي في خوض حروب داحس والغبراء الجاهلية في طول الوطن العربي وعرضه إلا في فلسطين، حيث ما زال عربها يستغيثون بعمقهم العربي منادين ب"عاصفة حزم" عربية بلا جدوى.
لقد اعتبر الرئيس المصري الأسبق الراحل أنور السادات حرب تشرين/ أكتوبر 1973 "آخر" الحروب العربية مع دولة الاحتلال، وفي سنة 2002 أيدته بالاجماع جامعة الدول العربية عندما أصدرت القمة العربية المنعقدة في بيروت "مبادرة السلام العربية"، لكن دولة الاحتلال اعتبرت إعلانه التزاما عربيا من جانب واحد، وضوءا اخضر من أكبر دولة عربية لتواصل وأيديها طليقة من أي رادع عربي شن الحروب والعدوان على العرب، خصوصا في فلسطين ولبنان وسوريا.
وقد أطلق هذا الالتزام العربي من جانب واحد حروب داحس والغبراء العربية – العربية والعربية – الإسلامية، لتدمر العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية العادلة وتترك عرب فلسطين لقمة سائغة معزولة ومحاصرة تحت رحمة دولة الاحتلال وآلتها العسكرية المتفوقة.
والمفارقة أن "معسكر السلام" العربي قد تحول إلى معسكر حرب يقاتل في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن ومصر وغيرها مرة باسم "أصدقاء" هذا القطر العربي أو ذاك وأخرى باسم "تحالف" ضد الإرهاب وثالثة باسم ائتلاف "المعتدلين" ضد "الخطر الإيراني" ورابعة باسم "محور سني" في مواجهة "الخطر الشيعي"، إلخ.
لكن مهما اختلفت المسميات، كانت الولايات المتحدة إما مبادرة وقائدة للتحالفات والمحاور التي شارك فيها "معسكر السلام" العربي أو مباركة وداعمة لها. وقد نفى سفير السعودية في الولايات المتحدة عادل الجبير أن تكون أميركا ضالعة في الضربات الجوية التي يشنها في اليمن تحالف الدول العشر الجديد، ومعظم أعضائه شركاء غير أعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" (دول الخليج العربية الست والأردن ومصر والسودان والمغرب مع باكستان وبدعم معلن من تركيا العضو في "الناتو")، غير أن البيت الأبيض الأميركي أعلن في بيان رسمي أن بلاده دعمت عملية "عاصفة الحزم" وأن الرئيس باراك أوباما قد اجاز تقديم "الدعم اللوجستي والاستخباري" لها وأن "خلية للتخطيط المشترك لتنسيق" الدعم الأميركي قد أنشئت مع "العربية السعودية".
ومهما اختلفت المسميات أيضا كانت دولة الاحتلال دائما حاضرة في خلفية هذه التحالفات والمحاور من خلال علاقاتها الثنائية مع راعيها الأميركي، وكانت المستفيد الأول والأخير من "جنوح" هذا المعسكر العربي إلى "السلام" معها.
وقد جاءت "عاصفة الحزم" لتشرك فيها مصر والأردن بين عشر دول عربية من "معسكر السلام"، ليتحول الأردن الذي وقع معاهدة صلح منفردة مع دولة الاحتلال عام 1994 إلى دولة محاربة في العراق وسوريا والآن في اليمن، وكذلك تحولت مصر التي أعلنت وزارة خارجيتها في بيان رسمي "دعمها السياسي والعسكري" لعاصفة الحزم وأكدت أن "التنسيق جار حاليا ... بشأن ترتيبات المشاركة بقوة جوية وبحرية مصرية وقوة برية إذا ما لزم الأمر"، والدولتان مع المملكة العربية السعودية على مرمى حجر من قطاع غزة الفلسطيني حيث شنت دولة الاحتلال ثلاثة حروب عدوانية منذ عام 2008 من دون أن تجد أي منها ضرورة لأي "حزم" في مواجهة العدوان على عرب فلسطين في القطاع.
لقد أعلنت عملية "عاصفة الحزم" أجواء اليمن منطقة محظورة، ولم يتوقف "معسكر السلام" العربي عن المطالبة بحظر مماثل في الأجواء السورية منذ ما يزيد على أربع سنوات، بعد أن التزم مؤيدا بحظر أميركي مماثل في الأجواء العراقية قبل غزو العراق، وتكرر الموقف في ليبيا، لكن هذا "المعسكر" لم يجد مسوغا يدفعه للمطالبة بحظر جوي لحماية عرب فلسطين في القطاع.
ويلفت نظر المراقب أن منظمة التحرير الفلسطينية، وهي "الشريك" في "معسكر السلام" العربي الذي يعمل كحاضنة لها، لم تنتظر أربعة وعشرين ساعة كي تعلن رئاستها "دعم" عاصفة الحزم التي شنها هذا المعسكر على اليمن، ليعلن المتحدث باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة أن هذه "العاصفة" قد أدخلت الشرق الأوسط في مرحلة جديدة حاسمة عنوانها "اصطفاف عربي قومي" يعيد الحياة إلى شعوب المنطقة !
ولأن المنظمة لا تملك من وسائل الدعم ما يمكنه أن يساهم في الجهد الحربي لتحالف الدول العشر، فإن مسارعتها إلى إعلان دعمها لا تفسير لها سوى حرصها على استمرار الدعم "المالي" الخليجي لها، على شحته، عشية انعقاد مؤتمر القمة العربية في القاهرة حيث تستعد للمطالبة بتفعيل "شبكة الأمان" المالي العربية ل"السلطة الفلسطينية" التي تمر في أزمة مالية خانقة بسبب قرصنة دولة الاحتلال لعائداتها الضريبية والجمركية، اللهم إلا إذا كانت المسارعة بإعلان تأييدها شرطا خليجيا مسبقا للوفاء بتوفير "شبكة الأمان" المالية لها.
لكن منظمة التحرير، التي تكرر رئاستها التزامها كمسألة مبدأ بعدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية وبعدم الانجرار إلى "المحاور" العربية وبعدم الانحياز في الخلافات العربية البينية، شذت هذه المرة لتتدخل في الشأن اليمني، وتنجر إلى محور عربي، وتنحاز في خلافات عربية بينية، مخاطرة بتكرار ما وصفه بعض منها ب"الخطأ" ووصفه بعض آخر ب"خطيئة" انحياز المنظمة إلى "حل عربي" للنزاع بين العراق وبين الكويت قبل خمسة وعشرين عاما.
إن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة هو المستفيد الأول من وقف حروب داحس والغبراء العربية الجاهلية، ودولة الاحتلال هي المستفيد الأول والأخير من استمرارها، وكان الأحرى بالرئاسة الفلسطينية أن تنتظر انعقاد القمة العربية يومي السبت والأحد لتطالب بحل عربي سلمي للأزمة في اليمن، وبوقف الاقتتال اليمني، وبرفض التدخل الخارجي في اليمن عربيا كان أم أجنبيا، وبفسح المجال للحوار اليمني الوطني داخل اليمن كي يأخذ مداه للخروج من الأزمة، فأهل مكة أدرى بشعابها.
وهذه هي تحديدا مطالب كل القوى اليمنية المتصارعة، من حزب المؤتمر الشعبي العام وأنصار الله والحزب الاشتراكي والناصريون وحزب الإصلاح وغيرهم ممن يمثلون الأغلبية الساحقة للشعب اليمني، وحتى "القاعدة" في اليمن رفضت التدخل الخارجي، فلماذا تريد منظمة التحرير لعرب اليمن غير ما يريده أهل اليمن أنفسهم لأنفسهم!