فلاحو سورية يهجرون أراضيهم: فوق الموت غصّة المازوت!
بعد نحو شهرين على تحرير سعر مادة المازوت، بدأت تتضح صورة التأثيرات السلبية في القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وفي مقدمتها الزراعة. لكن ثمّة تباين واضح في تقدير تلك التأثيرات بين ممثلي التنظيم الفلاحي، ومسؤولي وزارة الزراعة.
لم يكن ينقص الفلاحين والمزارعين، في سورية، سوى تحرير سعر مادة المازوت، لتكتمل حلقة الضغوط والمشاكل التي يتعرض لها القطاع الزراعي منذ سنوات، والتي تعمّقت منذ بداية الأزمة، واستهداف القطاع بأعمال التخريب والتدمير والنهب. جاء تحرير سعر مادة المازوت بنتائج سلبيّة، قد تبلغ حدّ الكارثة، على أحد أهم القطاعات الإنتاجيّة في سورية، والذي كان، حتّى وقت قريب، يشكّل 26% من الدخل القومي، ويضمّ قرابة 23,5% من قوّة العمل.
"لم يعد بمقدورنا تحمل تداعيات رفع سعر المازوت إلى 125 ليرة. هذا الأمر انعكس سريعاً على مستلزمات الإنتاج كافة، وبخاصة أجور النقل والأسمدة والأدوية الزراعية والحراثة، ما أدى إلى تراجع تنفيذ الخطة الزراعية في حمص بنسبة 45%" هذا ما يقوله الفلاح، نزار يونس، من ريف حمص، في حديثه إلى الـ"الأخبار". أما رئيس مكتب الشؤون الزراعية، في الاتحاد العام للفلاحين، علي حبيب عيسى، فيؤكد الأثر "الكارثي" لرفع سعر المازوت، "لا سيما في ظلّ صعوبة الوصول الآمن للأراضي، وعدم تنفيذ النشاطات الزراعية في أوقاتها، وعدم توفر مستلزمات الإنتاج، والانقطاع المستمرّ للتيار الكهربائي". كل ذلك تسبب بتراجع نسب تنفيذ الخطة الإنتاجية الزراعية، وبخاصة الحبوب (القمح والشعير)، إلى 70% من المساحات المخطط لها. يشير إلى أنّ الزيادة الناجمة عن رفع سعر المازوت، والبالغة نسبتها 56% "ستنعكس على أجور العمليات الإنتاجية كافة، حيث ستزداد، على سبيل المثال، تكلفة الهكتارالواحد من إنتاج القمح المروي بحدود 35 ألف ليرة (أكثر من 140 دولاراً)، كما أن وسطي تكلفة نقل الطن الواحد من السماد تبلغ 3715 ليرة، ونقل طن واحد من البذار بحدود 3690 ليرة". مضيفاً أنّ ذلك يترافق مع الصعوبات التي يعانيها الفلاحون للحصول على مادّة المازوت "بسبب تلاعب تجار الأزمة والسماسرة، ما يزيد من الأعباء المالية على الفلاحين، والتي ستدفع قسماً منهم، عاجلاً أو آجلاً، للعزوف عن ممارسة النشاط الزراعي، بسبب تراجع جدواه الاقتصادية". بينما يرى الفلاح مفيد صقور، من اللاذقية، أنّ تحرير سعر مادة المازوت لن يدفع الفلاحين للتخلّي عن زراعة أراضيهم، موضحاً: "رغم التراجع الكبير في الخدمات المقدمة للفلاحين، ورغم الظروف الصعبة الناجمة عن قرار رفع سعر المازوت، غير أنّ الفلاح سيبقى متمسكاً بأرضه"، مشيراً إلى أنّ التأثيرات السلبية للقرار طاولت مجمل القطاع الزراعي، وخصوصاً الحمضيات والزراعات المحمية، التي شهدت تراجعاً ملحوظاً في عدد البيوت المحمية. ونقص عدد البيوت البلاستيكية ليبلغ 8 آلاف بيت من أصل 11200 بيت، كونها تعتمد على مادة المازوت للتدفئة، إضافة إلى الارتفاع الخيالي لسعر شرائح النايلون، إذ تجاوز سعر الشريحة الواحدة 52 ألف ليرة، بعدما كان بحدود 8 آلاف ليرة، ويضاف إلى ذلك ارتفاع أجور النقل والأسمدة وأجرة العمالة وغيرها.
أمام هذه المخاوف، تستمر وزارة الزراعة في الدفاع عن استراتيجية الحكومة في ما يتعلق بالطاقة. فمدير الاقتصاد والاستثمار في وزارة الزراعة، الدكتور مجد أيوب، وإن كان يعتبر القرار الأخير خاطئاً استراتيجياً، إلا أنه يرى أنّ "الحديث عن تأثير رفع سعر المازوت على الزراعة مضخّم. فالفلاح يعتمد على المازوت في تكلفة ضخ المياه للآبار، وتكاليف العمالة الآلية، واليوم يعتمد على الكهرباء نسبياً، وحتى مع انقطاعها فهو لا يعدم وسيلة لتدبير أمره". ويضيف أن "ارتفاع سعر المازوت كان بحدود 55%، لكن التكلفة الفعلية لا تتجاوز في حدها الأقصى 25-30%، وحدّها الأدنى 10%، لوجود منتجات زراعية كثيرة لا تعتمد على المحروقات".
الفلاح لا يخسر!
لا تكتفي وزارة الزراعة بنفي وجود تأثير سلبيّ عميق لرفع سعر مادة المازوت على الإنتاج الزراعي ومستقبله، بل تذهب أبعد من ذلك، معلنة أن "الفلاح في سورية لا يخسر"، فلو كان يخسر، بحسب أيوب، لما استمرّ بعمله. ويدلل على ذلك "بدفع مزراعي الحمضيات ديونهم لمحال بيع الأدوية الزراعية، بالرغم من تعرضهم لخسائر كبيرة جرّاء العاصفة الثلجية الأخيرة". فالفلاح، بحسب أيوب، "يدّعي الخسارة إن قلّت أرباحه، فيما واقع أسعار السلع الزراعية في السوق يثبت العكس. فحالياً كيلو البرتقال يباع بـ30 ليرة داخل الأرض، والبندورة بين 40-50 ليرة، ما يعني أنّه، حتى بوجود حلقات وساطة تجارية، فإنّ الفلاح يبيع محصوله بأسعار جيدة. وأيّ كلام خارج هذا السياق يعدّ تجاوزاً".
يخالف الخبراء الاقتصاديون الدكتور أيوب في ما ذهب إليه. ويجزم الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور سامر مصطفى بأنّ "قرار رفع سعر المازوت بنسبة 200%، عن عام 2013، أثر سلباً في القطاع الزراعي، وبخاصة في المناطق الآمنة. بعد تسببه بارتفاع أجور اليد العاملة، وتكلفة ضخ المياه، إضافة إلى ارتفاع أسعار قطع الغيار والنقل والأسمدة جرّاء ارتفاع سعر الدولار، ما أدى إلى ازدياد تكاليف الإنتاج الزراعي على المزارعين، وتالياً انخفاض مساحات الأراضي المزروعة، وارتفاع حاد في أسعار المنتجات الزراعية في الأسواق. فمثلاً إنتاج القمح عام 2014 سيكون قرابة 2.4 مليون طن، بما يقل 15% عن العام الماضي". أمّا رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية، الدكتور سنان ديب، فلا يذهب بعيداً عمّا خلص إليه زميله. فسورية "عرفت، في الماضي القريب، أمناً غذائياً واكتفاء ذاتياً جرّاء جهود كبيرة لتأمين البنى التحتية اللازمة، وفق أسعار حوامل الطاقة المنخفضة، ما أعطى عائدية ربحية للفلاح. لكن، قبل اندلاع الأزمة، اتخذ قرار رفع سعر الوقود بشكل أدّى إلى الهجرة من الأرياف، مترافقاً مع محاولة انسحاب الدولة من شراء بعض المحاصيل كالقمح، وتخفيض المساحات المزروعة بالمحاصيل الاستراتيجية كالشمندر والقطن، وتحرير سعر الأسمدة والعلف، ما اضطر سورية لاحقاً لاستيراد القمح وغيره". ولذلك، بحسب ديب، كان من الطبيعي أن يوصل قرار "رفع سعر المازوت، الأخير، وفق مبررات الحصار، وسرقة النفط، وانخفاض سعر الليرة السورية، والارتفاع المستمر لحوامل الطاقة والأسمدة والنقل، وضعف التسويق خلال الأزمة، بقية المزارعين إلى التفكير جديّاً بهجرة أراضيهم".
حلول بديلة
كان لقطاع الدواجن النصيب الأكبر من الأضرار الناجمة عن رفع سعر المازوت. ويعترف معاون وزير الزراعة، أحمد قاديش، بتأثير القرار على الإنتاج الحيواني "لجهة ارتفاع مستلزمات الإنتاج وأسعار المنتجات. إنما هذا، حتماً، لم يمنع المنتجين من العمل، إذ يتوجب التأقلم مع القرار، والتعاون مع المربين لاستمرارية العملية الإنتاجية". يؤكد أنّ "الوزارة تحاول إيجاد حلول بديلة، مع أنها محدودة حالياً، وتبقى للزراعة خصوصيتها التي منحتها الأولوية في عمليات توزيع المازوت، للتخفيف من معاناة المنتجين". مضيفاً في عرضه للحلول البديلة أنّ "الوزارة تعمل على توزيع بعض المواد المنتجة في مصافي بانياس وحمص، كفحم الكوك والبيرين، أو مخلفات عصر الزيتون، كي تستخدمها المداجن في التدفئة.
رغم المخاوف تستمر وزارة الزراعة في الدفاع عن استراتيجية الحكومة في ما يتعلق بالطاقة
لكن معاناة المربين، إجمالاً، ستخفّ خلال فصلي الربيع والصيف، لتبقى المعاناة فقط في أجور النقل" متوقعاً انخفاض أسعار الفروج قريباً، "بسبب إقبال المربين على التربية نتيجة انخفاض استهلاك المازوت للتدفئة، فضلاً عن افتتاح مشاريع أخرى عديدة". ومن بين الحلول البديلة، أو الإجراءات الأخرى، التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومة للحد من تأثير ارتفاع تكلفة المنتج الزراعي، يبدو التوجه نحو رفع أسعار المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، لتسدّ جزءاً من ارتفاع التكلفة، والاستمرار بتقديم البذار والشتول بسعر مدعوم ومجاني.
المنظمة الفلاحية... بلا صوت
في الدفاع عن مصالح الفلاحين يبدو صوت المنظمة الفلاحية غائباً، إن لم يكن معدوماً. فاعتراضها على أي قرار يتخذ، لا يتجاوز موقفاً أو رأياً لا يؤخذ به. وكان لدى رئيس مكتب الشؤون الزراعية الشجاعة للقول: "لا صوت لنا بسبب وجود إدارات مترهلة، ما يوجب اختيار قيادات كفوءة، ذات ثقافة وخبرة عالية، تعرف كيف تدافع عن الفلاح وتطالب بحقوقه". ليعود ويطالب الحكومة بأن تأخذ في الحسبان ارتفاع تكاليف الإنتاج، الناجمة عن زيادة سعر المازوت، عند إعداد دراسات تكاليف الإنتاج، وتحديد أسعار المحاصيل الاستراتيجية والرئيسية، وتفعيل صندوق دعم الإنتاج الزراعي، وإعداد خطط تسويقية، وفتح أسواق خارجية لضمان استقرار الأسعار داخلياً، وتحقيق ربح معقول للفلاح، وتقديم كل دعم ممكن لاستمرارية الإنتاج الزراعي. بينما يطالب الفلاحون بإعادة الدعم الزراعي، وتقديم المازوت للفلاح بأسعار مدعومة، ومراقبة أسعار الأدوية الزراعية والأسمدة، وإعادة تفعيل صندوق الدعم الزراعي، وزيادة قيمته كحلّ إسعافي يخفّف من تداعيات القرار الكارثيّة.
الأمن الغذائي ولّى
أمام الواقع الراهن يبدو أنّ الأمن الغذائي في سورية قد دخل حالةً مَرضية يخشى من تفاقهما، ما يدفع الدكتور سنان ديب للتشديد على "ضرورة التفكير الجدي بإعادة النظر في السياسات المفروضة باسم الأزمة، ومنح الفلاح تعويضاً مشجعاً لضمان عودته إلى أرضه. والأهمّ هو جعل الأمن الغذائي من أولويات المرحلة المقبلة، بحيث يبدأ بالدعم المالي، وصولاً إلى عودة الحكومة لتأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار تشجيعية، وإعادة النظر في أسعار الوقود باستمرار". ويشدد على ذلك أيضاً الدكتور سامر مصطفى، بقوله: "يعد القطاع الزراعي الركيزة الأساسية للاقتصاد، لتأمينه الغذاء بأسعار معقولة. كما أن نسبة كبيرة من السوريين تعمل في الزراعة، ونسبة أكبر منهم تحصل على رزقها من العمل بها. ومن هنا تأتي ضرورة التوجه الحكومي لدعم هذا القطاع، والعمل على تقليل مخاطره، عبر قروض زراعية منخفضة الفوائد، ودعم الأسعار، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، ودعم القدرة الشرائية للمواطنين، بواسطة بيع المنتجات الزراعية بأسعار مدعومة، كالقمح والقطن والشعير وغيرها، إضافة إلى تدخل الدولة تسويقياً، عبر شرائها كميات كبيرة من المنتجات الزراعية بأسعار تتناسب مع التكلفة الحقيقية، مع الحفاظ على هامش ربح ملائم".
المصدر: الأخبار