تحول إعمار ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى النموذج المثالي لإعادة الإعمار.. ويكرر الكثيرون أنه على سورية أن تستفيد من التجربة الألمانية فهل يمكن؟.. وكيف؟!
اقتصادياً، وبعزل مؤقت للعوامل السياسية، يمكن أن نقول: أن إعمار ألمانيا الغربية، وفق قوانين السوق الليبرالية، كان قائماً على فكرة أن عملية الاستثمار في ألمانيا كانت مربحة ومغرية لرؤوس الأموال، الأمريكية والألمانية. لأن معدلات الربح تكون مرتفعة عموماً في ظروف ما بعد الحرب، نظراً لأن تكاليف الإنتاج تكون منخفضة، سواء الأجور أو قيمة رأس المال الثابت، حيث يلعب هنا تدهور العملة المحلية للبلد، دوراً حاسماً في تخفيض هذه التكاليف.
محرر الشؤون الاقتصادية
هل سيستثمر رأس المال
في صناعتنا؟!
ولذلك، فإن أموال الاستثمار تدفقت على ألمانيا، ولكن المساهم الأساسي كان رأس المال الألماني الصناعي الذي حافظ على نفسه خلال الحرب، فالمعامل كانت جاهزة، ولكنها كانت تحتاج إلى تنشيط السوق، وتأمين المستلزمات. وهنا أمن الأمريكيون استثماراً كبيراً في قطاعات البنى التحتية الألمانية كهرباء- فحم وتعدين- مواصلات- أسطول بحري- اتصالات.. وساهموا بنسبة الثلث في رأس ماله، وأدخلوا الدولة لتمارس نشاطها الاقتصادي هنا، ليؤمنوا للصناعة الألمانية تكاليف إنتاج منخفضة، وليضمنوا حصتهم من مستلزمات إنتاج هذا القطاع الضخم، بالإضافة إلى مساهمتهم المباشرة في رأس المال الصناعي في القطاعات الأخرى. وبقيت أجور العمال في القطاع الصناعي الألماني دون زيادة بينما ازدادت أرباح الصناعة مرتين ونصف خلال عشر سنوات، وتطلب هذا أن تعمل الدولة على تعويض الأجور عبر الإنفاق الاجتماعي، درءاً لموجات الإضراب، فالنجاح والاستقرار كان مطلوباً في أوروبا عموماً وألمانيا تحديداً.
إذاً أمنّت المقدرات الألمانية، وبمساهمة وحصة للاستثمارات الأمريكية، أن يتوسع الاستثمار في الصناعة الألمانية، ويستمر تطورها، وأن يتأمن لها شروط تخفيض التكاليف، لتتوسع حصتها من السوق العالمية من 7% إلى 19% خلال عشر سنوات فقط!
فإذا ما قارنا هذا الظرف الاقتصادي، مع سورية، هل تصحّ المقارنة؟! حيث سورية لا تمتلك رأس مال صناعي وحصة هامة من السوق العالمية تحقق ربحاً إذا ما استثمر المستثمرون فيه! بالتالي، فإنها لن تكون جاذبة للاستثمار إلا بمقدار ما تسمح لهم بالاستثمار، في أي موضع ربح يرونه مناسباً، وعليها أن تخفض من تكاليف أجور العمل، وأن تخفض من قيمة الأصول، عبر تخفيض قيمة العملة، وهذا ما يفعله ليبراليو سورية اليوم: تخفيض قيمة الليرة، وقيمة الأجور في سورية، أي (إغراء المستثمرين برخصنا)!
ولكن المستثمرين في ألمانيا استطاعوا أن يحققوا ربحاً سريعاً من نمو الصناعة الثقيلة، وصناعة وسائل الإنتاج التي لم تكن مدمرة، فما الذي ستعمل به رؤوس الأموال لتدر ربحاً سريعاً من سورية؟! ..
ماذا سيختار رأس المال في سورية؟!
لن تجد رؤوس الأموال ربحاً سريعاً في الصناعة، أو الزراعة في سورية، حيث البنية تحتاج إلى ترميم وتطوير لتزيد إنتاجيتها وربحها، وستتجه إلى أسهل الطرق، كأن تستثمر الأموال في الدين والإقراض لجهاز الدولة، وتضمن فوائدها عبر سلطته وممتلكاته، سواء تم النمو أم لم يتم، أو أن تعمل في العقارات، وامتلاك جزء أو كلٍ من القطاعات الريعية مثل النفط، أو القطاعات الاستراتيجية التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثل الكهرباء، والاتصالات، وبناء الطرق والجسور، وتأخذ عوائدها إما من الدولة عبر التعهد لصالحها، أو من التشغيل المباشر لها،، وبالتالي ستسعى إلى الربح منها، ولن يكون بالإمكان دعمها وتخفيض تكاليف الإنتاج، ما يعني عرقلة تقدم القطاعات الأخرى الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة وغيرها..
وبالتالي، لن تجد رؤوس الأموال في سورية، قطاعاً إنتاجياً يحقق نمواً وانتعاشاً حقيقياً، بشكل سريع كما في ألمانيا، وستعمل كما عملت رؤوس الأموال في سورية قبل الأزمة، وفي العالم كله اليوم، على الاستثمار في قطاعات النهب السريع، التي لا تساعد على تطوير البنية الاقتصادية، بل تعرقلها عبر سحبها للأرباح وإخراجها من البلاد.
إذاً، سورية لن يكون لديها خيارات ألمانيا، حيث توجه الاستثمار إلى تطوير سريع لقطاعها الصناعي المتطور، ما ضاعف الناتج الصناعي مرتين ونصف خلال عشر سنوات. سيكون لدى سورية خيار وحيد هو: قبول رغبات المستثمرين بالربح السريع، وأولها تخفيض الأجور، وتخفيض قيمة العملة، لتخفيض التكاليف، وسيكون علينا تحمل نتائج ذلك، النتائج التي توصل إلى (الدولة الفاشلة) المثقلة بالديون، ولا تستطيع أن تقود دفة الاقتصاد ولا تمتلك أي قرار استثماري، أو تنموي، وتتحول إلى موظف يدير شؤون أعمال أصحاب الربح من المستثمرين. وهذا ما حدث في تجارب إعادة إعمار الدول النامية كلها في مرحلة (الإدارة الأمريكية للعالم): لبنان- كوسوفو- ألبانيا- أفغانستان- العراق..
ولكن هل هذا فعلاً هو الخيار الوحيد؟!
الخيار الآخر، هو تجاهل رغبات المستثمرين، وتلبية حاجات السوريين. أي تجميع الموارد المتاحة الداخلية والخارجية كلها، والإدارة الدقيقة لها، عبر خطة موحدة، وتحديد أين ستثتثمر وفي أي قطاعات، وأين ستنفق وعلى أي استهلاك؟! وجعل التخطيط الاقتصادي للموارد منهج عمل.
هذا إذا ما أردنا أن ننجز مهمات اقتصادية من نوع: تطوير البنية الصناعية، والزراعية، وبنية النقل والموصلات، وزيادة التشغيل وغيرها، أو مهمات اقتصادية –اجتماعية، مثل: الفقر، وزيادة الأجور، وإعادة النازحين والمهاجرين، والسكن، وتعليم الجيل الذي خلفته الحرب دون تعليم، وتطوير بنية التعليم والبحث العلمي وغيرها من المهمات المعقدة، التي نراها اليوم كلما نظرنا إلى حجم التدهور في الوضع الاقتصادي الاجتماعي السوري.
خيار السوريين الوحيد
لا يمتلك السوريون إن أرادوا أن يعمروا بلادهم (ترف) ترك الخيار للسوق، وللمستثمرين ليحددوا المهمات، وليوسعوا أو لا يوسعوا الاستثمار، وليحصلوا على الربح، ويهربوه خارج البلد، ولا يملكون أي خيار سوى التخلص من فوضى السوق وقوانينها، وتخطيط عملية إعادة إعمارهم.
ولا يمكن تكرار تجربة ألمانيا، إلا إذا أصبحنا دولة مركزية في النظام الرأسمالي العالمي، بقاعدة صناعية سليمة ومتطورة بعد الحرب، وإلا إذا عدنا إلى عام 1949!
والأهم، لأن عالم الرأسمالية ومستثمريها المحليين والعالميين اليوم، أصبح أكثر تعفناً، ولا يمتلك أن يقدم لسورية، ما قدمه لألمانيا في عام 1949، بل لا يمتلك إلا أن ينتشل الربح من الدمار والفوضى وعرقلة التطور، في سعيه لتجاوز أزمته العميقة.
ولكن هل ستمتلك سورية القدرة على تحدي قوانين السوق، وبناء نموذج فريد لإعادة الإعمار ، قائم على تعبئة الموارد وتخطيطها، في دولة من دول جنوب العالم؟!
هنا، يمكن أن نقول: بأننا نشبه ألمانيا.. فإعادة إعمار ألمانيا كانت النموذج المطلوب نجاحه من قبل الولايات المتحدة المنتصر الأكبر بعد الحرب، وصاحبة الكفة الراجحة في ميزان القوى الدولي حينها.
وإذا ما توقفت الحرب في سورية، فإن عملية إعادة إعمارها وتأمين استقرارها وبناء نموذج، سيكون في صلب اهتمام قوى (كبح جماح الحرب) الصاعدة عالمياً، والتي تحاول فرض الحلول السياسية.. بالقوة، وستتشكل اللحظة الدولية التي تساعد السوريين على بناء أول نموذج إعادة إعمار ناجح لدولة (عالم ثالث).