الخيار الألماني: أمريكا أم روسيا؟! (2/2)
قد يكون هذا صحيحاً من الناحية النظرية، ولكن عملياً أوروبا وأمريكا تبتعدان أكثر وأكثر عن بعضها البعض، ويبدو هذا جلياَ لأناس مثل «فريدريش ميرز»، الذي يتضمن عمله الحفاظ على الفجوة ضيقة قدر الإمكان. «ميرز» هو رئيس لـ«جسر الأطلسي»، وهي المجموعة التي تعزز الصداقة بين ألمانيا والولايات المتحدة لأكثر من 50 عاماً. وفي هذه اللحظة، يعمل «ميرز» على تعزيز اتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي. كما يقول: «ستكون الاتفاقية علامة على تمسك الديمقراطيات الغربية ببعضها البعض»!
ترجمة: جيهان الذياب
ولكن، حتى بالنسبة لمدافع محافظ وشديد عن اقتصاد السوق مثل «ميرز» يقع في الحيرة التي يسببها ما يحدث في الولايات المتحدة. يرحب «ميرز» بكل أشكال الجدل السياسي، ولكن عندما يرى عمق الانقسامات الأيديولوجية في الولايات المتحدة، فإنه يسعد بالشكل الأقل حدة للديمقراطية الأوروبية. ورداً على مزاعم التجسس الجمعة الماضية، قال «ميرز»:«إذا ما تبين أن ذلك صحيحاً، فقد حان الوقت لوقف ذلك كله».
هل يعاني الألمان
من جرعة أخلاقية زائدة؟
ينظر العديد من الأمريكيين للألمان بالطريقة التي يتعامل بها الوالدان مع الابن الذي يعيش معهم في البيت ولا يرغب بالخروج والمغامرة في العالم الحقيقي القاسي.
تحملت الولايات المتحدة العبء الأكبر في حرب أفغانستان، ويجب أن تكبح جماح قوة الصين المتصاعدة، وحجم الإنفاق العسكري فيها يشكل أكثر من 70% من إنفاق جميع دول الناتو على جيوشها. كانت المفارقة الصارخة لألمانيا الغربية المعارضة للحروب سابقاً بأن كل ذلك ممكن فقط تحت المظلة النووية الأمريكية، والآن وطالما أن الحرب الباردة قد انتهت، فإن الولايات المتحدة لن تعارض تولي الأوروبيين مسؤوليات أكبر، على الأقل في المناطق المجاورة.
ولكن، هنا تكمن تماماً بداية المشكلة، على الأقل حسب ما يقوله «غراي سميث»، رئيس الأكاديمية الأمريكية في برلين. عاش «سميث» في ألمانيا لأكثر من عشرين عاماً، ويشعر بأن الألمان يعانون من شيء أهم من باقي العلل: جرعة زائدة من الأخلاق!.
يستطيع «سميث» بالتأكيد أن يفهم سبب انزعاج الألمان من تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على هاتف «ميركل» المحمول ويضيف، من جهة أخرى، الولايات المتحدة هي القوة الديمقراطية العالمية الوحيدة، وهي تواجه منافسين، كالصين وروسيا، اللتين ليس لديهما أي وازع عند نشر وكالات الاسخبارات الخاصة بهم. يقول «سميث»: «أصبح هاتف ميركل هاجس الألمان، ولكنهم لا يرون الصورة الأكبر».
هكذا تبدو الصورة الأكبر لـ«سميث»: فمن جهة، يسارع الألمان لانتقاد اللحظة التي يستعرض فيها الأمريكيون قوتهم العسكرية أو لحظة إصدار أوامرهم لتكنولوجيي وكالة الأمن للتنصت. ومن جهة ثانية، إن لديهم النزعة للتراجع عندما يصبح الوضع خطيراً على الساحة العالمية، كما حصل مؤخراً خلال المهمة العسكرية الغربية في ليبيا. ويسأل «سميث»: من الذي يوقف بوتين إذا رغب، مرة أخرى، بابتلاع مناطق من بلدان أخرى؟
لا حرب أخرى ضد روسيا
رأى «غيرهارد شرودر» مصير ألمانيا خلال فترة وجوده كمستشار، فقد اعتقد أن الموقع الجغرافي في قلب أوروبا يعطي بلده مسؤولية خاصة. ويقول أستاذ العلوم السياسية «هيرفريد مونكلير»:«كانت ألمانيا دائماً، كدولة في منتصف أوروبا، على كلا الجانبين، فقد كان من واجبها دائماً أن تتغلب على التوتر الحضاري في أوروبا». بالنسبة للكثير من الألمان، فإن العلاقة المقربة، التي صنعها السفير «غرينين»، هي جزء من هوية تطورت مع مرور الوقت، وذلك ليس فقط في الجزء الشرقي من البلاد. لقد تغلغلت عبارة «لا حرب أخرى» داخل النسيج الألماني. ولكن هناك وجه آخر لعبارة «لا حرب أخرى مع روسيا». فالفهم الألماني الفريد لروسيا لا ينبع فقط من الرغبة المجردة بالسلام ونفور ألمانيا من الصراع بسبب خسارتها للحرب عام 1945.
حققت مؤسسة، «فلاديمير كامينير»، أفضل المبيعات لكتبه الفكاهية التي تتحدث عن الألمان من وجهة نظر خارجية، ويقول إن روسيا كانت دائما حلماً بالنسبة للألمان.
يقول «كامينيير»:«بالنسبة للألمان فإن أمريكا هي أصل الشر الذي يجب أن يصفع على وجهه، بينما روسيا هي كالأخ الصغير الذي يجب أن يحظى بالعناية».
يعتقد «كامينيير» أن الألمان، الذين يفكرون دائماً بالمستقبل، لديهم توق كامن لعيش الحاضر الروسي، توق لفن نسيان الغد، وللجموح الذي يصبغ الشخصية الروسية.
من السهل الإيمان بروسيا في السنوات الأخيرة. لم يكن هناك من داع للخوف: كانت ألمانيا ممتنة للوحدة والعلاقات الاقتصادية الموسعة، ويبدو أن روسيا كانت تندمج في الهيكل الغربي من خلال مجموعة الثمانية ومجلس الناتو- روسيا. ورغم الصعوبات المختلفة، سارت روسيا على طريق المستقبل الديمقراطي. واعتقد الكثيرون أنه تم التغلب على الانقسامات داخل أوروبا. ولكن الأزمة الأوكرانية وضعت كل شيء في موضع التساؤل، وقالت وزيرة الدفاع الألمانية «أورسولا فون دير ليين» مؤخراً في حديث لصحيفة شبيغل: «روسيا ليست شريكاً لنا». والآن تجد ألمانيا أن عليها أن تبني جسوراً مع روسيا، مصدر العداء المتزايد للغرب والتعصب القومي، والمتعصبة ضد الأقليات القومية والدينية والجنسية، ويدفعها لذلك الرغبة في استعادة أهميتها السابقة.
ينقسم الألمان في علاقتهم مع روسيا، ويشعر الذين لا يثقون بروسيا منهم بوجود مبرر لتصرفات روسيا، بينما يشعر الذين يتعاطفون بحاجتهم للمزيد من الشرح عما يجري. وفي استطلاع لـ«الشبيغل»، يقول ثلاثة أرباع الألمان أن ثقتهم بروسيا قد تزعزعت، ومع ذلك، يقول 40% أنهم يفضلون أن تتعاون ألمانيا مع روسيا بشكل أكبر في المستقبل.
بالنسبة للسياسة الخارجية الألمانية، التي كانت تفتخر بعلاقتها المقربة من روسيا، أصبحت موسكو لا تحتمل، فلا أحد يعلم ماهي نوايا بوتين. هل يحاول منع الناتو والاتحاد الأوروبي من التوسع شرقاً؟ أم هل يريد إحياء الاتحاد السوفييتي الكارثة؟!
دور خاص لألمانيا
تستطيع ألمانيا أن تكون أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. وكان رفض «شرويدر» التورط بحرب العراق قراراً صحيحاً- وتلك كانت إشارة أن ألمانيا، مازالت صادقة مع حلفائها، إلا أنها لا ترغب بالمشاركة في سياسة مخدوعة مبنية على الأكاذيب. وكما ظهر واضحاً اليوم، فقد غرقت المنطقة كلها بالفوضى. وأدان أوباما سياسة بوش، ولكنه لم يدن أساليب وكالات الاستخبارات بجمع الأدلة.
تستطيع «ميركل» أن تقول بوضوح للولايات المتحدة أنها ليست مستعدة للقبول بمكائد وكالة الأمن القومي. وحتى الآن لم يؤثر عتب المستشارة اللطيف على أوباما، كما تشير أحدث فضيحة تجسس. ولهذا سيكون من الصحيح أن يُمنح «ادوارد سنودن» حق اللجوء. وبالطبع، لابد من دفع ثمن ذلك، وهو ما سيعني تجميد العلاقات مع واشنطن لفترة.
لقد نشرت ألمانيا أجنحتها في العشرين سنة الأخيرة، ولم تعد تستطيع الإختباء خلف الآخرين. بدلاً من ذلك، تستطيع ألمانيا قيادة أوروبا إلى دور سياسي مستقل. يجب أن تعرض على روسيا رؤية مستقبلية لرغبتها في أن تكون جزءاً من الغرب. ولكن عليها أن تضع حدوداً واضحة إذا أعادت موسكو استخدام العنف كأداة سياسية لتهديد حلفائها.
بالنسبة لأمريكا، لن تكون ألمانيا، التي تأخذ دورها، شريكاً ملائماً، ولكن في النهاية ستكون مصدراً للاطمئنان.
موقع دير شبيغل الألمانية بالانكليزية- بتصرف
تعقيب من المحرر:
أوضح الجزء الأول من المقالة المنشورة في مجلة «دير شبيغل» الألمانية والذي نشرته قاسيون في العدد الماضي، جزءاً هاماً من فكرة تصدع المعسكر الغربي، الناتج عن التناقضات مع المحور الذي تتزعمه روسيا، والذي انبنى على هيمنة الولايات المتحدة حتى على دول كبرى كألمانيا مما جعل نمط العلاقة غير قابل للاستمرار. وفي هذا الجزء يحاول الكتاب مناقشة فكرة إمكانية لعب ألمانيا لدور خارج عن هيمنة الولايات المتحدة وندي تجاه روسيا التي تعرض لها الكتاب هنا بنقد كبير بعقلية غريبة استعلائية وبالوقت نفسه من موقع المرعوب من الدور الروسي المتعاظم. إن ذلك يعكس بالدرجة الأولى يأس هذا الطرح من إمكانية تحسن العلاقة مع الولايات المتحدة التي وضعت حلفاءهم الألمان أمام خيار موضوعي وحيد وهو على الأقل التقارب مع روسيا الصاعدة وهو محط رعب الكتاب الذي جسده في التوجس من الدور الروسي اللاحق.