رداً على مقالة... «أشياء لا تحدث إلا في ساروجة»
حقاً... للحياة في حي ساروجة الدمشقي مذاق آخر، إنه حي صغير ووديع.. ولكن كل ما هنالك أنه أصبح مرسى أحلام الكثيرين ممن لم يجدوا في واقعهم ما يلبي أحلامهم وميولهم.
حقاً... للحياة في حي ساروجة الدمشقي مذاق آخر، إنه حي صغير ووديع.. ولكن كل ما هنالك أنه أصبح مرسى أحلام الكثيرين ممن لم يجدوا في واقعهم ما يلبي أحلامهم وميولهم.
«كم هي غريبة حياة ذلك الشقي.. فالتي أحبها تحب ابن عمه الذي يحب فتاة أحبت الشقي.. وبعد شبكة معقدة من تراشق الرصاص وهدر الدماء.. مات الشقي كومبارساً... وعاش ابن عمه بطلاً في مسرحٍ جمهوره نائم».
يصر البعض على التشابه القائم بين الشعراء والدينصورات. فكلا الفريقين انقرض. ولأسباب غامضة -وما تزال- في كلتا الحالتين. وفي هذه الأزمنة حيث يمكن الحديث عن كل شيء، دون وجود ضرورة لأي شيء- عن موت أي شيء. يتحدث البعض . يتحدث البعض عن موت الشعر. كموت الأيديولوجيا والمؤلف، والتاريخ وجارنا الذي لم يستطع أن يكمل مائة عام من عمره .
هذا الحوار منقول حرفياً بين اثنين دخلوا إلى إحدى غرف المحادثة على الإنترنت ( chat room) الأول سوري والثاني من الخارج: يدور الحوار كالتالي:
كل شيء أحمر، والأصح أن نقول «أشد احمرارا»..
إذاً لنُعِد صياغة العبارة:
كل شيء أشد احمراراً من السابق وفق تعبير اللغويين، أو «أحمر» من السابق وفق رأي العارفين بما تسهل معرفته.. قبعات حمراء، ورود حمراء، أحذية حمراء، والرؤوس «أحمر».. وبين الأحمر، والأشد احمراراً يقف السوق ليجذب طرفي اللعبة، فهو الوحيد الخارج من لعبة الأحمر، كما هو الوحيد الذي لا يحمر خجلاً.
وإذا كان لابد من العودة إلى اللغة، فلنقل إن السوق هو «الفاعل»، والبقية هم «المفعول به» إذا جاز التعبير أو لم يجز..
في عالم اليوم الذي يسوده اللون الرمادي ،لون الخوف و الحرب و الاستغلال، بات اللون الأحمر لوناً استثنائياً! فكيف إذا تزينت به مدينة بكاملها، فتلونت به واجهات محالها التجارية و زين الشارع الذي تقع فيه تلك المحال ببالونات حمراء وورود حمراء عرضها باعة الورود أمام محالهم. هكذا كان وضع دمشق طوال أسبوع مضى مثلها مثل الكثير من مدن العالم، أما الحدث الذي تمت كل هذه التحضيرات من أجله فهو عيد الفالانتاين الذي ظن الكثيرون أنهم عرَّبوه من خلال تسميته عيد الحب و الذي يصادف 14 شباط. و قد تميز هذا اليوم بامتداد اكبر للون الأحمر من البضائع و الورود و الهدايا إلى الناس الذين لبسوا اللون الأحمر و تجولوا في الشوارع و الأسواق الكبرى و كأنه إعلان عن الحب «أنا أحب إذا أنا موجود»
الاندماج المنفصل
في إطار ما سماهلغرب «بالعولمة» و الذي يسعون من خلاله إلى نشر النمط الرأسمالي و تعميمه على العالم كله عن طريق تصدير تفاصيل الحياة اليومية و الاستهلاكية التي تحول الجميع إلى نسخ عن بعضهم مندمجين بذلك النمط المصدَّر و مكرسين في الوقت نفسه فرديتهم: عائلتي، وردتي و بضعة أحباء لي، حيث لا تمارس طقوس هذه المناسبة من خلال مجموعة كبيرة من الأشخاص كما هو الحال بالنسبة للمناسبات الأخرى و إن كان ذلك يحمل إيجابية ابتعاده عن الطائفية فإنه يحمل سلبية أكبر هي تكريسه للفردية.
ثورة..
و إذا كان اللون الأحمر يرتبط في ذهن البعض بالثورة و البعض الآخر بالحب فان هذا اللون قد حمل عندنا كلا المعنيين:
الحب بغض النظر عن ثنائية «أنثى - ذكر»..
أما معنى الثورة فهو مرتبط بتلك الثنائية إذ يعتبر «الشباب» عيد الحب هذا ثورة على المفاهيم و التقاليد السائدة الناظمة للعلاقة بين الشاب والفتاة حيث أنه رغم التحرر الذي شهده مجتمعنا فإن العديد من الأوساط ما زالت تعاني حتى من مجرد ظهور الفتاة مع الشاب الأمر الذي يعتبر «إساءة للسمعة»!! إذ تحاك حول هذا الحدث الأقاويل الكثيرة التي تصل أحيانا إلى تزويجهما و هذه ليست مبالغة بل هي حقيقة ما زالت موجودة حتى الآن و الثورة الأكبر هي فيما يخص «البوح» فما زال التعبير أو البوح عما في النفس خاصة في قضايا حساسة كالسياسة و الدين، و كذلك الحب، أمر غير مقبول! و مجرد وجود هذا الاحتفال بهذه المناسبة بشكل علني يبرر هذا البوح و يضعه في نطاق الأمر «الطبيعي» الذي انتشر منذ فترة ليصبح معروفا و من ثم متعارَفاً عليه.
الأسواق و الحب
إن لم تتجول في الأسواق في فترة عيد الحب فأنت لن ترى شيئا! إذ أن أعدادا من الشبان والشابات بل وحتى الأكبر عمراً ومن كل الفئات والطوائف والانتماءات نزلت إلى الأسواق لتتحول إلى مستهلكين، ومن ثم إلى نقود بنظر التجار الذين استخدموا كل أساليب الجذب والترغيب لاصطياد الزبائن المحتملين، بل الأكيدين. فكيف يمكن لك أن تقاوم قلباً يمد لك ذراعيه المفتوحتين ويقول لك بالكلمات العربية «هل أد بحبك»... يستعمل الكلمات نفسها التي تخشى أنت أن تبوح بها وتماما بالطريقة نفسها التي كنت ستستخدمها لذلك إن تجرأت وفعلت!
وربما هذا ما ميز الأسواق هذا العام. فهناك إنتاج وطني يلائم الأذواق المستوردة! و لكن حالات الابتكار والإبداع مثل «هل أد بحبك» قليلة و أغلب المنتجات مقلدة عن أصل أجنبي فما زلت مثلا ترى الأرنوب الأحمر يرقص الديسكو أو الدبدوب يشرب «البيبسي»، و لكنك لا تجد دبدوباً يرقص «الدبكة» أو دبدوبة تصنع القهوة لدبدوبها! .
وللورود قصة أخرى فقد ارتفعت مبيعاتها بشكل كبير بالرغم من أسعارها المرتفعة 100 ل س للوردة الجورية و 50 ل س للقرنفل مع أن الوردتين تصنيع محلي و ليس استيراداً!، بل تفنن الباعة في صنع تشكيلات متعددة للورود تصل أسعارها إلى آلاف الليرات !! و بهذا تحولت الورود من رمز للتعبير إلى وسيلة للقياس (قياس الحب بحسب سعر السلعة!!).
و كما هي العادة بالنسبة لشركات الخليوي فإنها لاتفوت مناسبة إلالتستفيد منها وتنشّط مبيعاتها، و هكذا استغلت هذا العيد لتعلن عن سحب سيجري لمشتركيها و الجائزة في هذا السحب هي سيارتان من النوع الفخم جدا عُرِضتا في إحدى الساحات الرئيسية في دمشق تحت شعار «عبّر عن حبك»! فهل يستطيع الملايين من السوريين أن يعبروا عن حبهم على الطريقة الخليوية؟؟ أم سيبقى حلمهم بامتلاك سيارة تماماً كحلمهم بامتلاك خليوي.. تماماً كامتلاك غرفة للسكن.. تماماً كامتلاك كرسي ورغيف خبز و.. و.. و...!؟؟؟
الخواء
ووفقا لما ذكر و بما أن كل سلعة مستهلكة تشبع حاجة معينة كذلك كان استيراد هذه المناسبة لتملأ الفراغ الذي تركه الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والذي يمكن التعبير عنه «بالخواء»
هذا الخواء المخجل الذي حرم الإنسان من التعبير عن مشاعره لأسباب إن كان أهمها في سورية والمنطقة العربية هو الكبت فإنها تشمل العالم كله الذي تحول فيه الناس إلى آلات خالية من كل مشاعر مما يبرز الحاجة إلى يوم يحيا فيه الحب.
فلماذا نعاني من هذا الخواء مع أنه في تاريخنا الكثير من قصص الحب الرائعة مثل قصة قيس بن الملوح و حبيبته ليلى العامرية وقصة عنترة وعبلة وقصة كُثيّر عزه وغيرها من قصص الغرام التي خُطت أجمل الأشعار من أجلها فلماذا لم نحي ذكرى لقاء قيس وليلى بدلاً من أن نستورد فالانتاينهم؟
لماذا لا نتعظ ونضفي لمسة الحب هذه على حياتنا؟
لماذا ننكر أهمية هذا الموضوع ونضعه في المرتبة الأخيرة سامحين بذلك للكثيرين بأن يستغلوا الفراغ ويبثوا رموزهم وإشاراتهم. أهكذا نحن في كل شيء نتأخر فيأخذ الآخرون مقاعدنا.....
يبدو من خلال النظر في التراث الميثولوجي والأدبي الذي تركته معظم حضارات الأرض أن البشر لم يستطيعوا العيش دون افتراض فرد يمثل رمزاً، وهذا الفرد ممجد في كل شيء، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تذكر.
كذلك، ومن خلال دراسة المحطات التاريخية الكبيرة، نجد أن صناع هذه المحطات أفراد في معظم الأحيان. لكن الفرق بين الفرد في الميثولوجيا والفرد في التاريخ، أن الأول فرد مجرد من الصفات البشرية، إذ إنه القوة المطلقة، القدرة والكرم والكرامة، إلخ. أما الثاني فهو شخص يأكل ويشرب ويعيش حياته اليومية بشكل طبيعي، بل إنه يمكن أن يكون بخيلاً، أو ثقيل الدم، أو مريضاً نفسياً، ثم يتحول إلى فرد ميثولوجي بناء على رغبة الناس والتاريخ.
عندما أسمع جملة تقول بأن شخصاً ما أكبر من بلده، لم أكن أعرف ما تعنيه هذه العبارة تماماً، لكنني الآن أعرف ما تعنيه، إنها فيروز، فيروز التي يتجاوز صوتها حدود لبنان إلى كل العالم.
فيروز التي تعي تماماً علاقتها ووجودها بالزمان والمكان التي جاءت فيهما، تفهم صيرورتهما، تدرك الماضي،الحاضر والمستقبل، وتلون كل مرة بجديدها وحاضرها تجربتها التاريخية، الماضي يؤثر بقوة على الحاضر ويتركه واضحاً وجلياً في أغانيها، لا نستطيع أن نرى فيروز إلاّ انطلاقاً من كليتها، لا نستطيع أن نجتزئ منها شيئاً، فيروز هي فيروز، ماض، حاضر ومستقبل.
في حديث دار بيني وبين أحد الأصدقاء حول الوضع الثقافي الراهن، توقف صديقي برهة بعد أن قلت له: أنا أؤمن بمواهب فلان، وأتوقع أن يتطور وتتفتق مواهبه إذا أعطي مجالاً.
نظر إلي صديقي بشكل غريب وقال لي: هل تعرف أن فلان هذا الذي تتحدث عنه قد تجاوز الستين من عمره فأي مواهب تنتظرها منه؟. هذه المواهب التي تتحدث عنها التي قد تظهر فجأة بعد فترة هي لمن هم في مثل عمرك يا عمو وليس لفلان. ( وصديقي يكبرني ب20 عاماً تقريباً).
فقلت لصديقي: أمن المعقول أن تتحدث عنه بهذا الشكل إنه شخص مهم.
مع أن خيره ماقل ودلً، غير أنه، (ونعني) العنف والعنف المضاد، لايحتمل الكلام القليل، ذلك أنه كثير وكثير وكثير، حتى ليمكن أن يكون أكثر طولاً من التاريخ المقروء نفسه، بما فيه ذلك المكتوب على بوابات المغاور على شكل ضباع وغزلان، والعنف والعنف المضاد، ليس كما يحلو أن نراه مجرد أكياس رمل يقبع وراءها مموهون قاتلون، فوراء كواليس المسرح، وفي البيان الثقافي، وتحت القصائد التي يكتبها شعراء مخضرمون طالما اختبأ العنف حتى يكاد أن يخجل «المارينز» لو علموا به وكف «الغوستابو» أن يكون عنيفاً بالقياس مع عنف المثقفين، وللحصر بعد التعميم، فمن يعرف كواليس النخب الثقافية في بلادنا بوسعه إدراك ذاك العنف الواصل إلى حدود الإرهاب، ومرة أخرى، بما يفوق الإرهاب الذي يحلو للمثقفين الحديث عنه بدءاً من مجالس نميمتهم، وصولا إلى كتابهم المقروء.. وغيض من فيض بوسعنا تثبيته في هذا الكلام الذي يأتي فوق التوقيع: