فارس فارس الابن فارس فارس الابن

تمجيد الفرد في هوليوود

يبدو من خلال النظر في التراث الميثولوجي والأدبي الذي تركته معظم حضارات الأرض أن البشر لم يستطيعوا العيش دون افتراض فرد يمثل رمزاً، وهذا الفرد ممجد في كل شيء، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تذكر.
كذلك، ومن خلال دراسة المحطات التاريخية الكبيرة، نجد أن صناع هذه المحطات أفراد في معظم الأحيان. لكن الفرق بين الفرد في الميثولوجيا والفرد في التاريخ، أن الأول فرد مجرد من الصفات البشرية، إذ إنه القوة المطلقة، القدرة والكرم والكرامة، إلخ. أما الثاني فهو شخص يأكل ويشرب ويعيش حياته اليومية بشكل طبيعي، بل إنه يمكن أن يكون بخيلاً، أو ثقيل الدم، أو مريضاً نفسياً، ثم يتحول إلى فرد ميثولوجي بناء على رغبة الناس والتاريخ.

هناك نمط آخر من الأفراد الذين ينالون أمجاداً عظيمة: أبطال هوليوود الدائمون. سواء كانوا أبطال الرشاش والمسدس (أو السيف والرمح والترس، حسب العصر الذي تجري فيه الأحداث) أم أبطال القيم الأخلاقية والثقافة العالية والطب النفسي، أم أبطال التاريخ برؤية أمريكية… وربما كانت أمجادهم أكبر وأكثر أثراً من أمجاد أبطال التاريخ.
يمثل هذا النمط من أبطال السينما امتداداً طبيعياً، وبديلاً عصرياً لأبطال الميثولوجيا القديمة، الذين سكنوا وجدان الناس بروايات العظمة التي تروى عنهم. يقدم البطل الهوليوودي الفرد، على أنه منعزل عن التأثر بالعالم، فهو يخرج من وسط لا يمت إليه بالصلة إلا من حيث الشكل ربما (وأحياناً تهمل مسألة تناسُب شكل البطل مع البيئة التي يدعى أنه خرج منها) ثم ينقذها وينتصر للقيم الإنسانية الكبيرة. تظهر الأسماء يصفق الناس ويخرجون بدموع حارة وخطى منكسرة.

إن هذه الصورة للبطل تنطوي على لعبة تجارية ذكية، وعلى لعبة فكرية خطيرة، تمارس على كل مشاهدي هذه السينما، وما أكثرهم! أما اللعبة التجارية فتكمن في استفزاز العواطف على البطل الذي يواجه الأخطار والأشرار، بعد أن تورط المشاهد في علاقة حب مع هذا البطل، ثم الخوف عليه من السقوط، وبعد كل هذا الشفقة على مصيره الأسود أو الراحة نتيجة للنهاية السعيدة. لقد ذكر أرسطو في أول كتاب كتب في نظرية الدراما، «فن الشعر» أن الخوف والشفقة يحققان التطهير. أي أن المشاهد يدخل المسرح (وحالياً السينما) مهموماً مشحوناً بصعوبات الحياة اليومية، ويخرج مرتاحاً، وقد فرغ شحناته وهمومه. يحقق هذا راحة كبيرة للمشاهد عموماً، وبالتالي تمثل هذه الفكرة جاذباً تجارياً كبيراً. أما اللعبة الفكرية الخطيرة، فتكمن في تأطير البطولة بمختلف صورها في أطر أسطورية يستحيل الوصول إليها، وكأن البطل خلق ليكون عظيماً، أو أنه يتفرد بمواصفات العظمة ومؤهلاتها، نتيجة إرادة إلهية مثلاً. باختصار، تتمثل هذه اللعبة الفكرية في صنع هالة للبطل لإبعاده أو «تنزيهه» عن صفات الإنسان العادي، وهو ليس إلا إنساناً عادياً في النهاية.
تحتكر هوليوود بهذه الطريقة «الإنسان العظيم» ومواصفاته، وتركبه حسب حاجاتها لهذه الفترة أو تلك. ويبدو أن البطل العجيب في التسعينات كان شبه موحد من «الرقص مع الذئاب» Dances with Wolves، مروراً بـ Brave Heart(وإن كان هذا الفيلم يشكل حالة خاصة قليلاً ذلك أن دافع البطل لبداية الثورة دافع شخصي جداً وهو موت زوجته على يد الجنود الإنكليز. حتى إنه في أحد المشاهد يسخر من الأساطير التي تحاك حول الشخصيات التي من هذا النمط) وانتهاء بأفلام عام 2002 التي لم نشاهدها بعد، ولسنا بحاجة لمشاهدتها لنؤكد وجود عظماء غير بشريين كثيرين.

لست أريد على الإطلاق الانتقاص من مكانة الفرد في حياة الشعوب، على العكس، فأنا من أشد المؤمنين بالفردية (وليس الفردانية). حتى إنني قلت إن معظم المنعطفات في التاريخ صنعها أفراد، ولكننا ننسى أنهم أفراد نشأوا ضمن ظروف موضوعية خصبة جداً، وجاهزة لإنتاج فرد عبقري يغير مجرى التاريخ. فهل من الممكن أنه لم يمر على البشرية قط شخصان يحملان عبقرية ابن رشد، أو شخصان يحملان عبقرية ماركس، أو عظمة الإسكندر الأكبر، أو غير هذه الأمثلة الكثير، الكثير. لقد ظهر هؤلاء -وغيرهم- لأن عبقرياتهم كانت ضرورة تاريخية واجتماعية، وليس لأنهم طبخوا على يد الهوليووديين المهرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
168