ماذا بعد زيارة موسكو؟
حظيت الزيارة التي قام بها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى روسيا يوم الأربعاء 15 تشرين الأول، بكمٍ كبير من القراءات والتحليلات، ناهيك عن «التسريبات» التي ليس من الصعب التقدير أن جزءاً مهماً منها يندرج ضمن إطار البروباغاندا الإعلامية، أكثر مما يندرج في إطار ما جرى فعلاً ضمن الزيارة، وضمن اللقاء مع الرئيس الروسي بوتين.
من حيث الشكل، يمكن تسجيل النقاط التالية:
أولاً: قبل الزيارة بأكثر من شهر، كان الحديث أنها ستكون على هامش القمة العربية-الروسية في موسكو، التي كان من المفترض أن تعقد في التاريخ نفسه، أي في 15 أكتوبر. كما هو معلوم، فقد تم تأجيل هذه القمة، ربما إلى الشهر القادم، كما تشير بعض المصادر الصحفية- ارتباطاً بالاتفاق الذي جرى في غزة، وفقاً للمصادر الرسمية الروسية والعراقية. حصول الزيارة رغم تأجيل القمة، هو مؤشر مهم على أن الزيارة بقيت ثابتة في جدول أعمال الطرفين، رغم تأجيل القمة العربية- الروسية، ما يعني أن الترتيب لها كان جارياً على قدم وساق منذ عدة أشهر، ويعني أيضاً أن الملفات التي على جدول أعمالها، وحصولها هي نفسها، كانت ملحةً من وجهة نظر الطرفين، وغير قابلةٍ للتأجيل أو التسويف.
ثانياً: بدا اللقاء بروتوكولياً وودياً إلى حدّ بعيد، بما في ذلك التصريحات الصحفية التي أطلقها الطرفان ضمن اللقاء، والتي تشير إلى رغبة مشتركة في الوصول إلى تفاهمات وطوي صفحة الماضي.
ثالثاً: التصريحات التركية التي تلت الزيارة، وخاصة تصريحات وزير الخارجية التركي، تشير بشكل غير مباشر إلى وجود دورٍ أساسي لتركيا كوسيط في الدفع نحو ترتيب اللقاء، ومن ثم في حدوثه.
من حيث المضمون
أول ما ينبغي أن يلفت الانتباه في زيارة الشرع إلى موسكو، وقبلها زيارة وزيري الخارجية والدفاع، ثم وزير الدفاع، وأيضاً زيارة وفدين حكوميين روسيين لدمشق، هو سقوط السردية التي جرى الترويج لها منذ 8/12، والقائلة بأن سورية ستتحول من معسكر إلى معسكر، وأنها ستدور في الفلك الغربي، الأمريكي خاصة، في السياسة والاقتصاد والعسكر وغير ذلك. الأمر هنا لا يتعلق بالرغبات والرؤى الإيديولوجية للأطراف المختلفة، بل بوقائع الجغرافيا السياسية، إضافة إلى وقائع ميزان القوى الدولي والإقليمي.
الأمر الثاني الذي لا يمكن القفز فوقه، هو التجربة العملية الملموسة لـ«الرعاية الغربية» المفترضة؛ فقد أثبتت الأشهر القليلة الماضية من محاولة الأمريكي التفرد بالملف السوري الأمور التالية:
أولاً: لم يتم رفع العقوبات الأمريكية بشكل حقيقي حتى اللحظة، وذلك رغم مرور عشرة أشهر على سقوط السلطة السابقة، ورغم أن أطرافاً ضمن السلطة الجديدة احتفلت مراراً وتكراراً برفع العقوبات، مع كل إشارة أمريكية بأن العقوبات سيتم رفعها؛ رغم ذلك كله، فالوقائع تقول: إن الأمريكي ما يزال يتعامل مع عقوباته بوصفها أداة ابتزاز سياسي، وهو لم يتخل عنها حتى الآن، وليس من الواضح إنْ كان سيتخلى عنها في أي وقت قريب.
ثانياً: لم يمارس الأمريكي أي ضغط على حليفته الأولى والأخيرة في المنطقة، أي «إسرائيل»، لضبط سلوكها تجاه سورية كشعب وكسلطة وكدولة، بل بقي مؤيداً لكل اعتداءاتها على سورية، بما في ذلك التأكيدات الأمريكية مؤخراً على اعتراف ترامب بالجولان السوري المحتل جزءاً من «إسرائيل»، ناهيك عن غض النظر نهائياً عن التوغل البري «الإسرائيلي» في الأراضي السورية، واستخدام حق النقض في مجلس الأمن بشكل مستمر لمنع أي قرار يدين تدخلات الكيان العدائية في الأرض السورية.
ثالثاً: تشير التجربة الإقليمية، بما في ذلك الاعتداء الصهيوني على قطر مؤخراً، أن التحالف مع الأمريكي مهما بلغ من التطور، فإنه لا يؤمن حماية لدول المنطقة من الاعتداءات «الإسرائيلية»، فما بالك بدولة هي من دول الطوق المتاخمة مباشرة لفلسطين المحتلة؟ وهذه التجربة لم تمر مرور الكرام بالنسبة لدول الإقليم كلها، بما في ذلك السعودية، التي بدأت بالتحرك علناً لحفظ أمنها عبر شبكة علاقات سياسية واقتصادية ودفاعية، بما في ذلك عبر المصالحة مع إيران، وعبر اتفاقية الدفاع المشترك مع باكستان بمظلتها النووية، وباكستان كما هو معروف هي عنصر ثابت في التحالف مع الصين أولاً وروسيا ثانياً...
رابعاً: مع الغياب المؤقت للدور الروسي في سورية، على الأقل الدور الظاهر، بعد 8/12، باتت القوى الأساسية الموجودة على الساحة هي الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتركيا، وقد كشفت تجربة الشهور الماضية، أن ثالوثاً من هذا النوع، سيصب بالضرورة ضد مصلحة تركيا، ولن تكون تركيا وحدها قادرة على موازنة الكفة، ما يجعل من عودة دور روسي واضح، ضرورة تركية أيضاً، ويفسر جزئياً على الأقل الاحتفاء التركي بالزيارة.
خامساً: التجربة العملية في الداخل السوري خلال الأشهر الماضية، أثبتت أن إدارة الأمريكي للأزمة، وخاصة عبر توم براك، كان الهدف منها بشكل مستمر هو إشعال الأزمات الداخلية وتعميقها، سواء عبر ما جرى في الساحل السوري، أو في السويداء، التي اعترفت السلطات السورية عبر شخصيات مختلفة منها أنها «فخٌ» تم جرها إليه، ولكنها لم تقل من هي الجهة التي جرتها إلى هذا الفخ... رغم أن التخمين ليس صعباً، خاصة أن ما جرى في السويداء قد جرى بعد اجتماع باكو مع «الإسرائيليين».
سادساً: أقرب حدود بين سورية وروسيا كخط نظر هي حوالي 665 كم، ما يعني ضمن أبسط فهم للأمن القومي، أن سورية بحكم الجغرافيا والتاريخ هي بالضرورة، من وجهة نظر الأمن القومي الروسي، هي جزء من دائرة الأمن القومي الروسي، والتي لا يمكن لروسيا أن تتخلى عنها لخصومها الاستراتيجيين بأي حال من الأحوال. والمسألة هنا لا تتعلق بنفط أو غاز أو حتى قواعد عسكرية كما يسود في الإعلام العالمي، بل بالضبط بمفهوم الأمن القومي.
والآن؟
بما أن تحييد التدخلات الخارجية بشكل كامل في عالم اليوم، هو أمر تعجز عنه حتى الدول العظمى، فإن مما لا شك فيه أن محاولة موازنة التأثيرات الخارجية على سورية، هي أمر ضروري ولا غنى عنه؛ فموازنة التأثيرات ببعضها البعض يمكنه أن يقلل من محصلة تلك التأثيرات بسبب تعاكسها، ما يعني الحصول على قدر أكبر من إمكانيات الاستقلالية السورية، ولكن هذا الأمر النظري وحده لن يكون كافياً بأي حال من الأحوال.
فلنتذكر دائماً أن بشار الأسد وقبله حافظ الأسد، ورغم أنهما رفعا شعارات شكلية تقول: إن نظامهما هو «نظام شرقي» حليف للسوفييت تارة، وللصين ولروسيا تارة أخرى، إلا أن الممارسة العملية كانت طوال الوقت ممارسة أقرب للدور الغربي، اتضح ذلك عبر محطات عديدة في التاريخ السوري الحديث؛ من حرب الكويت إلى التدخل في لبنان إلى النموذج الاقتصادي الليبرالي الذي تم تبنيه بالتدريج منذ أوائل التسعينيات، وصولاً إلى أدق التفاصيل في طريقة إدارة عمليات تخريب وتدمير سورية ابتداء من 2011.
البوصلة التي كانت تحكم عمل الأسدين هي النظر إلى الخارج وتوازناته وفقط، دون أي اعتبار لاحتياجات الداخل ومطالبه وحقوقه. وهو ما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه...
المطلوب اليوم، إضافة إلى محاولة موازنة العلاقات الخارجية، هو أن تكون البوصلة ونقطة الانطلاق هي حقوق الشعب السوري عبر العمل من أجل حل أزمته حلاً سياسياً شاملاً، يضمن مشاركته مشاركة حقيقية في إدارة أموره، عبر مؤتمر وطني عام، وعبر تطبيق جوهر القرار 2254... هذا الطريق هو الطريق الوحيد الذي يضمن أمن سورية ووحدتها، ودونه لا يمكن لأي علاقات دولية، مهما بلغت مرونتها، ومهما بلغت حذاقتها أن تحمي سورية والسوريين في ظل صراع عالمي متوحش، وفي منطقة هي الأخطر في العالم على الإطلاق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248