عقد الرايات ضرورة!

عقد الرايات ضرورة!

اعتاد مئات الآلاف من الأطفال السوريين، وتحديداً في عقودٍ مضت، وحين كان ما يزال الحصول على المازوت أمراً ممكناً لكل عائلة، اعتادوا الجلوس بجانب المدفأة في الليالي الباردة، متحلقين حول الأجداد يسمعون منهم القصص ذات المقاصد النبيلة. وكانت هذه واحدة من طرق كثيرة جرى من خلالها نقل موروث وتجارب جيل إلى جيلٍ جديد، وكان الأحفاد يحملون معهم هذه القصص ويحتفظون بما ينفعهم ويعجبهم ويتركون القصص الباقية ليمحوها النسيان، وعلى هذا الأساس يملك السوريون اليوم إرثاً عريقاً جرى نقله بشكلٍ شفهي أو مكتوب من جيلٍ إلى آخر، ونحن اليوم أحوج ما نكون لنقلّب ذاكرتنا ونبحث عما يعيننا الآن!
ربما تكون أكثرها حضوراً اليوم هي قصص الثأر والصلح؛ خلال السنوات الماضية، فقدنا مئات الآلاف من أهلنا وأبناء بلدنا، وظلّت هذه الخسارة جاثمة فوق صدور الملايين، لا تفارقهم صورة أحبائهم، حتى رغب كثيرٌ منهم بالثأر، لكن رغبة كهذه مهما بدت مسيطرة، إلا أنّها تتحول في واقعنا الحالي إلى خطر حقيقي يمكن أن يجرنا إلى الفوضى والاقتتال من جديد، وهذا ما لا نريده وينبغي أن نعمل لاستبعاده، ففي إرثنا مثلاً مئات القصص عن أولئك الذين سعوا وراء ثأر ما، ولكن غالبية هذه القصص تنتهي بشكلٍ من التوافق يرضى به طرفا النزاع بإنهاء القتال وحقن الدماء، وإحدى طرق الاتفاق عند العشائر هي ما يعرف باسم «عقد الراية» وهي عندما يتدخل الحكماء لحل خلافٍ ويجتمع المتخاصمون بعد المشاورات وتعقد الراية البيضاء وعندها يقال:
«أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن عفا فأجره على الله، واشهدوا يا أهل الحمية، ضيوف ومحلية، الراية البيضا المبنية، هذه لفلان طيّب الله وجهه» أو «اشهدوا يا أهل الحمية، يا ضيوف ويا محلية، والدية المبنية من (مكة) أجتنا هدية» وعندها يطوى الخلاف ويذهب المجتمعون لتناول الخبز والملح.
إن موروثاً شعبياً ودينياً كهذا، يمكن أن يتحوّل إلى سند حقيقي لنا، يحمينا من الانزلاق في وادٍ مظلم، ويبعدنا عن الثأر والانتقام ويقربنا حقاً من عهد جديد يسوده الوئام بعد أن فرقنا لصوص سورية... وهذا لا ينتقص بحالٍ من الأحوال من ضرورات تحقيق العدالة عبر مساربها الصحيحة، أي عبر القضاء، ولكن إرثنا الفكري والشعبي والديني، لم يجعل من «العفو عند المقدرة» واحدة من أكبر الفضائل وأجلّها؛ لأن العفو عند المقدرة، وإلى جانب كونه شيمة من شيم الكرام الصابرين المحتسبين، فإنه وسيلة لخير المجتمع ولحقن الدماء ولإحلال السلام والمودة والتراحم...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1212