انتخابات «نزيهة وشفافة» في حال حصلت... فليست حلاً!
عماد طحان عماد طحان

انتخابات «نزيهة وشفافة» في حال حصلت... فليست حلاً!

مرّت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة التي جرت يوم الإثنين الماضي 15 تموز، كالعادة، دون مفاجئات كبرى، أو حتى صغرى، اللهم إلا بعض التفاصيل الثانوية التي تخص توزيع مقاعد الجبهة.

الانتخابات الأخيرة هي رابع انتخابات لمجلس الشعب السوري تجري خلال الأزمة السورية، وذلك بعد إقرار الدستور المعمول به حالياً عام 2012؛ حيث جرت هذه الانتخابات أعوام 2012، 2016، 2020، و2024.
انعقاد الانتخابات المتعاقبة في مواعيدها، من شأنه أن يوحي شكلياً بحالة من الاستقرار والاستمرارية، ولكن الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لها رأي آخر معاكس تماماً؛ إلى ذلك الحد الذي تبدو معه حالة الاستمرارية الشكلية انفصالاً تاماً عن الواقع، بل واستهزاءً به!
هذا الكلام ينطبق على مجمل المظاهر الشكلية للاستمرارية، ولكنه ينطبق أكثر ما ينطبق على انتخابات مجلس الشعب بالذات، بتأثير عوامل متعددة تخص قانون الانتخابات المعمول به منذ عقودٍ طويلة في سورية من جهة، تضاف إليه الظروف المستجدة خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية.

الانتخابات والديمقراطية التمثيلية

من حيث المبدأ، ليس هنالك نظام انتخابي مثالي؛ فالديمقراطية نفسها متلازمة التلازم كلّه مع الديكتاتورية، بحيث لا يوجد أحدهما دون الآخر؛ كلمة السر في ذلك هي ديمقراطية من، ولصالح من، وديكتاتورية من ولصالح من؟
وما دام المجتمع منقسماً إلى طبقات متصارعة، فإنّ ثنائية ديكتاتورية/ ديمقراطية، ستبقى موجودة، وإنْ اختلفت درجاتها وأشكال تمظهرها.
ضمن هذا الفهم، فإنّ الديمقراطية يمكنها أن تلعب أدواراً مزدوجة وفقاً لشكل تطبيقها؛ فهي يمكنها أن تلعب دور هامش حريات سياسية يسمح بتجميع وتنظيم نضالات الطبقات المنهوبة، ويمكنها أيضاً أن تلعب دور استلاب الجماهير عبر الإيحاء بمشاركتها، والسماح لها عملياً في اختيار ناهبيها من بين نخبةٍ واحدة ناهبة تبدل الكراسي والأدوار فيما بينها.
المشكلة في سورية، أنّ «النموذج الديمقراطي»، لا يندرج ضمن أيّ من الاتجاهين السابقين؛ فلا هو يعبر عن هامش حريات وعمل سياسي حقيقي، ولا هو محاولة لاستلاب الجماهير (أو إقناعها)؛ فعموم السوريين يتعامل مع الانتخابات المتعاقبة بوصفها حدثاً لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وبوصفها مجرد ترتيبات شكلية لا يترتب عليها أي تغيير من أي نوع... والمركز الأساسي لهذه المشكلة، على الأقل بجانبها القانوني الحقوقي، هو قانون الانتخابات المعمول به.

أكثري، والدائرة محافظة

يقوم النظام الانتخابي في سورية على أساس أكثري، وعلى أساس أن الدائرة الانتخابية هي المحافظة.
هذان الأساسان للنظام الانتخابي في سورية، يجعلان الطريق لمجلس الشعب ممهداً أمام نوعين أساسيين من القوى، هما: قوى المال وقوى السلطة، اللتان بإمكانهما، وحدهما، تغطية آلاف المراكز الانتخابية و(مراقبتها)، وعدّ أصواتها، ناهيك عن الإنفاق على الدعاية بأشكالها المختلفة.
ورغم المخاطر المترتبة على هذا الأمر، إلا أنّه ليس الأشد خطورة وضرراً ضمن نظام الانتخاب القائم، ضمن الحالة السورية الخاصة، قبل وبعد الأزمة؛ وفيما يلي نشير إلى بعض مكامن الخطر الأساسية ضمن هذا النظام:

أولاً: النظام الأكثري يعني بأبسط أشكاله أنه إذا كان هنالك -فرضاً- دائرة ما فيها مرشحان فقط، حاز أحدهما على 100 ألف صوت، والثاني على 100 ألف صوت زائداً واحد، فإنّ هذا الثاني سينجح، وستضيع 100 ألف صوت التي ذهبت للمرشح الأول دون أي تمثيل سياسي. هذا النمط من ضياع التمثيل لا يقف تأثيره عند تعزيز سلطة قوى المال وقوى الدولة في تقرير النتائج بشكل مسبق والتحكم بها، بل ويتعدى ذلك إلى إضعاف أي حراك سياسي في المجتمع، الذي يتعلم بالتجربة أنّ لا خبزة له في هذه «المنافسة»، ما يفاقم من انكفائه عن العمل السياسي.

ثانياً: انكفاء المجتمع عن العمل السياسي ضمن «الأطر القانونية»، يترك فراغاً موضوعياً يجري ملؤه بالضرورة حين يلزم ذلك. وليس بالضرورة أن يتم ملؤه بشكلٍ إيجابي وبناء؛ فانقطاع الصلة بين الناس وممثليهم المفترضين، مع استمرار تردي أحوالهم على مختلف المستويات، يؤدي إلى تراكمٍ في الغضب العام وفي حالة عدم الرضا العام، يمكنها أن تنفجر في أي لحظة، ويمكنها أن تنفجر بمختلف الأشكال الإيجابية وغير الإيجابية... وبكلمة، فإنّ انكفاء المجتمع عن العمل السياسي يعني ضمنياً: أن هنالك تهديداً للاستقرار يقف عند كل مفترق وخلف كل زاوية ويتأهب ليقفز إلى ساحة الحدث في أي لحظة.

ثالثاً: الضعف المزمن للتنمية في سورية، طوال عقود ما بعد الاستقلال تقريباً، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، منع التطور الطبيعي للمجتمع السوري كمجتمع دولة، أي كمجتمع يتكون من مواطنين متساوين لهم هويتهم الوطنية الناضجة، التي ينصهر ضمنها الكل الاجتماعي السوري. بكلامٍ آخر، فإنّ التموضع الجغرافي للسوريين على الخارطة السورية، بقي في جوهره مشابهاً لتموضعه أيام العزلة الإقطاعية التي يشكل فيها السكان جزراً شبه معزولة، لكل منها انتماءاتها ما قبل الوطنية الخاصة بها، ولكل منها خصوصياتها الثقافية والاجتماعية التي تتجاوز في بعض الأحيان مشتركاتها مع بقية المواطنين السوريين.
ضمن هكذا واقع، فإنّ إجراء الانتخابات على أساس أنّ الدائرة الانتخابية هي المحافظة، من شأنه فقط أن يكرّس حالة الانعزال النسبي هذه، لأنّه سيحصر العمل السياسي المفترض خوضه عبر «البوابة الديمقراطية» ضمن حدود كل محافظة على حدة؛ الأمر الذي يعزز إلى جانب قوى المال والسلطة، القوى التي تعمل على أسس ما قبل وطنية، سواء كانت طائفية أو قومية أو عشائرية وإلخ.

رابعاً: ضمن المنطق نفسه، فإنّ تصميم الدوائر الانتخابية على أساس المحافظات، يؤدي إلى إضعاف شديد للعمل السياسي على المستوى الوطني الجامع، ويلجم التطور الطبيعي لنشاط المجتمع السياسي واصطفافه على أساس مصالحه الوطنية العامة، وعلى أساس صياغة تلك المصالح ابتداءً من المركز باتجاه الأطراف... (وهنا تظهر مفارقة منطقية تماماً، إذا ما نظرنا إليها ديالكتيكياً وليس بشكل ميكانيكي، وهي أنّ النظام الانتخابي المعمول به، ورغم أنّه يجري ضمن دولة شديدة المركزية، إلا أنه يعزز في الآن نفسه من ضعف كلٍ من المركز والأطراف، فيقدم وهماً بسيطرة المركز على العمليات الاجتماعية المختلفة، في حين يترك لتطور الغضب أن ينمو بشكل متواتر ومتصاعد مهدداً بشتى أنواع الانفجارات).

خامساً: تصميم انتخابات مجلس الشعب على أساس محلي، يؤدي ضمنياً إلى تحويل مجلس الشعب إلى «مجلس عضاوات وأعيان»، أي إلى شكلٍ من أشكال مجلس الإدارة المحلية، التي يطرح فيها كل ممثل مشاكل منطقته على المستويات الخدمية خاصة، مع غياب البرامج الشاملة على مستوى البلاد... وليس مستغرباً والحال هذه، أنّ المرشحين يعرضون أمام الشعب السوري في كل انتخابات ابتساماتهم مرفقةً بشعارات عامة فضفافة تكاد تكون بلا أي معنى، مع غياب تامٍ تقريباً للبرامج السياسية على النطاق الوطني الشامل...

نسبي دائرة واحدة

لطالما كان النظام الانتخابي واحداً من أهم أعمدة أي نظام سياسي، وربما لذلك بالذات يكثر الحديث عن الشفافية والنزاهة وإلخ، ويقل الحديث عن قانون الانتخابات... أي يكثر الحديث في الشكليات، ويقل الحديث في المضمون.
إعادة بناء سورية دولةً ومجتمعاً، يتطلب ليس فقط انتقالاً سياسياً على أساس حلٍ سياسي مبني على القرار 2254، ولكن أيضاً، وفي جوهر هذا الانتقال- حتى يكون انتقالاً حقيقياً- نظاماً انتخابياً جديداً يقوم على سورية دائرة واحدة نسبية، بما يسمح بإعادة توحيد البلاد والمجتمع على أساس المصالح الحقيقية الجامعة، وعلى رأسها المصالح الاقتصادية-الاجتماعية...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184