حول ارتباطنا النسبي واستقلالنا النسبي عن المعركة العالمية!

حول ارتباطنا النسبي واستقلالنا النسبي عن المعركة العالمية!

مع بدء معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي، ظهرت تحليلات (وما تزال تظهر) تقول: إنّ «الملف السوري» قد تم وضعه على الرف إلى حين انتهاء هذه المعركة. قبل ذلك، حين بدأت المعركة في أوكرانيا عام 2022، قيل الكلام نفسه، وقيلت التحليلات نفسها... بل وقيلت أيضاً عند كل انتخابات أمريكية وحتى عند كل انتخابات تركية... حتى ليبدو الأمر أنّه في نظر من يقول بهذه التحليلات، فإنّ حل الأزمة السورية هو أمرٌ معلقٌ بانتظار يومٍ صيفي عالميٍ صافٍ لا تعكره غيمة، ويسوده الوفاق والتوافق الدولي على مختلف المستويات العالمية والإقليمية!

ليس المقصود بطبيعة الحال أنه لا ارتباط بين الأزمات المتفجرة في إقليمنا وحول العالم، فهي مرتبطة بلا شك، وهي أجزاء متعددة من أُحجية ربما من الصحيح تسميتها بأنّها حرب عالمية ثالثة بحلة معاصرة، ترتكز على الصراع النقطي الشامل، والذي لم يصل إلى ذروته بعد، وربما سيحتاج وقتاً إضافياً ونقاطاً إضافية أخرى على الخارطة العالمية وصولاً إلى حسمه.
حقيقة الأمر، هي علاقة ديالكتيكية بين ما يجري حول العالم، وبين وضعنا السوري الخاص؛ وضمن هذه العلاقة، فإنّ التطورات التي تجري عالمياً، وما تبدو عليه من تعقيد وتشابك متصاعد في كل الأزمات والصراعات، هي في الوقت نفسه فرصة تاريخية لقدر أعلى وأكبر من الاستقلالية، ربما من أي وقت مضى!
جوهر المسألة، هو أنّ موازين القوى الدولية، ولأنها بهذه الدرجة من الحساسية، تفتح مجالاً واسعاً أمام اللاعبين المحليين، شرط أن يتوفر لديهم أمران في وقت واحد: فهم صحيح لحقيقة التوازنات وتطوراتها اللاحقة، والإرادة السياسية المستقلة للاستفادة منها.
فلننظر مثلاً إلى جملة التحولات التي تجري في عدة دول إفريقية بادرت إلى طرد المستعمر الأوروبي/ الأمريكي، وإلى المضي في طريق التنمية الاقتصادية على أسس أكثر استقلالية وإنتاجية.
فلننظر إلى مثال الدول الإقليمية في إقليمنا، والتي لا تناور فقط بين القوى الكبرى، بل وتتخذ مواقف ثابتة في الأمور الأساسية، وتخدم مصالحها وتنظر إلى المستقبل بآمالٍ كبرى.
هذه الأمثلة موجودة ويمكنها أن تتسع أكثر وأكثر، وهي ليست المرة الأولى في التاريخ التي تكشف عن هذا النوع من الأمثلة؛ فقد سار قسم مهم من «دول عدم الانحياز» منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات تقريباً، خطوات كبرى على مستوى الاستقلال الوطني السياسي، وبضع خطوات معقولة في زمنها في إطار الاستقلال الاقتصادي، ومستفيدةً في ذلك كلّه من النافذة التي أتاحها التاريخ في حينه، ليس فقط عبر ما يسمى «الصراع الدولي الصفري بين المعسكرين»، بل وبالذات لأنها اتخذت صفاً واضحاً ضمن ذلك الصراع، بالضد من الاستعمار الغربي وإلى جانب الاتحاد السوفييتي (إلى هذا الحد أو ذاك)...
اليوم، نعيش ظرفاً شبيهاً إلى حدٍ ما، فسواء كان الحديث عن أوكرانيا، أو عن غزة، أو حتى عن تايوان، (وهي الأزمات الأكثر اشتعالاً كنقاط مباشرة للصراع الدولي)، فإنّ معسكرنا هو من يتقدم، ونقصد بذلك ليس الأجهزة الحكومية للدول الصاعدة، ولا حتى الدول الصاعدة نفسها كدول، بل معسكرنا بوصفه خياراً بديلاً ومضاداً للسطوة العالمية أحادية القطبية، لمركز النهب الدولاري العالمي.
في غزة وفي أوكرانيا وفي تايوان، وفي أماكن أخرى عديدة، يتكرس التراجع الأمريكي/الغربي، ويتعمق، ويفتح بذلك نافذةً تاريخية كبرى للقوى الساعية إلى استقلالها وإلى رخائها وتطورها... وذلك بالرغم من كل الاحتمالات الخطرة.
وبالحديث عن الاحتمالات الخطرة، يبدو أنّ أشدها خطراً هو حالة غياب الإرادة الوطنية المستقلة، والاستسلام لسياسة الانتظار؛ فهذه السياسة بالذات ليست سياسة ثالثة بين سياستين عالميتين متصارعتين، بل هي جزءٌ أصيل من المشروع الغربي؛ فالانتظار، في حالة مثل سورية، يعني تكريس حالة الانهيار وتعميقها، ويعني ضمناً تكريس الفوضى الشاملة الهجينة التي تشكل المخرج النظري الوحيد تقريباً لواشنطن أمام التراجع الموضوعي الذي تعيشه على كل المستويات، وعلى رأسها المستوى الاقتصادي، ومن ثم السياسي والعسكري والثقافي وإلخ.
بكلامٍ آخر، فإنّ أولئك الذين يقولون بسياسة الانتظار، ليسوا «حياديين» اتجاه الصراع الدولي كما يدّعون من حين إلى آخر، وليسوا من المقتنعين بأنّ «العالم بأسره متآمرٌ على الشعب السوري» كما يدّعون في أحيانٍ أخرى، بل هم في الواقع حلفاءُ لمشروع الفوضى الأمريكي، ومنفذون مباشرون له عبر عملهم «المثابر» على تعطيل المبادرة الوطنية المستقلة، أو على الإيحاء بالحركة باتجاه الحل، بينما هم في الحقيقة يعملون ضد الحل بكلّ شكل ممكن.
ما ينبغي أن يكون واضحاً لنا كسوريين، هو أننا أمام فرصة حقيقية لإعادة توحيد البلاد، بل ولإعادة ولادتها من جديد، وعلى شكل أفضل وأجمل من أي وقت مضى في تاريخها، وذلك رغم كل المآسي والصعوبات التي مررنا بها.
ما نحتاجه هو انتزاع زمام المبادرة، بأن نصطف مع أنفسنا، وذلك عبر فهم موقعنا الحقيقي كشعب سوري في إطار الصراع العالمي... بهذا المعنى فإنّ كلّ ضربة جديدة يتلقاها الأمريكي ومعه «الإسرائيلي»، هي تعزيز لاحتمالات صعودنا من جديد، ولاحتمالات وحدتنا... ولكن هذا وحده غير كافٍ، ما لم نبادر نحن، كسوريين، إلى انتزاع زمام المبادرة في شأننا الوطني... والطريق بهذا الاتجاه واضحٌ تماماً؛ طريق الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254، والذي لن نتمكن من السير فيه جدياً، دون تحشيد الإرادات الوطنية الفردية والجماعية باتجاهه، وبغض النظر عن الاصطفافات الشكلية التي يجري تصديرها إعلامياً...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180