عن «النُّخب» السورية وسياسة انتظار الفرج!
عماد طحان عماد طحان

عن «النُّخب» السورية وسياسة انتظار الفرج!

يشترك القسم الأعظم من «النُّخب» السورية، سواءٌ منها المصنّفة في ضفة النظام أو في ضفة المعارضة، في أنّ جوهر سياساتها وتحركاتها يقوم على الانتظار؛ انتظار التوازنات الدولية بثباتها وتغيراتها لعلها تجعل لهم مخرجاً، وريثما يتضح ذلك المخرج فلا مانع من استمرار الحال على ما هو عليه...

على ضفة النظام

إذا بدأنا بإمعان النظر في السياسات على ضفة النظام خلال السنوات الماضية، وخاصة مما بعد 2018، أي مما بعد انتهاء الطور العسكري الواسع النطاق من الأزمة وتوقف القتال في كل أنحاء البلاد بشكلٍ كاملٍ تقريباً، فإننا سنرى الملامح الأساسية التالية:
نتحدث هنا عن 6 سنوات تقريباً، كان من الممكن فيها فعل الكثير وعلى صعد عديدة لو أنّ الإرادة السياسية كانت متوفرة لفعله؛ على سبيل المثال لا الحصر: يمكن النظر إلى الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية.
من الصحيح تماماً أنّ العقوبات اشتدت ولعبت دوراً تدميرياً غير مسبوق، بالضبط منذ انتهاء الطور العسكري من الأزمة، وخاصة مع قانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في حزيران 2020، وما تلاه من قوانين عقوبات أخرى.
ولكن من الصحيح أيضاً، أنّ الحكومات السورية منذ ذلك الوقت وإلى الآن، لم تقم بأي إجراء حقيقي للتصدي لتلك العقوبات ولخلق بدائل، بل وأسوأ من ذلك فإنها مضت أشواطاً بعيدة في السياسات الليبرالية المتوحشة نفسها، التي مهدت الأرضية لانفجار الأزمة عام 2011... من عمليات رفع الدعم المتواصلة وصولاً إلى إعدامه، إلى عمليات الخصخصة المستترة، ووصولاً إلى تنفيذ كل بنود وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين... حتى لقد وصلت الأمور حداً بات فيه من الصعب على السوري أن يشتري البضاعة نفسها مرتين بالسعر نفسه؛ فالسعر متغيرٌ بشكلٍ مستمر ونحو الارتفاع. أي أنّ القيمة الشرائية للعملة السورية- ورغم الثبات النسبي في سعر الصرف أمام الدولار- تواصل تدهورها... وربما لن يطول الوقت حتى يجري التعبير عن هذا التهاوي في موجة جديدة من تدهور سعر الصرف، الذي سيؤدي دور محركٍ إضافي لمزيد من التدهور في الأوضاع المعيشية، وفي القيمة الشرائية للعملة.
كل الأحاديث عن التوجه شرقاً وعن مواجهة الحصار وعن الإنتاج المحلي وإلى ما هنالك، بقيت أحاديثاً في الهواء، بل وأسوأ من ذلك، أنه قد بدأ سحبها من التداول الإعلامي الرسمي خلال العامين الماضيين بشكلٍ متسارع مع ارتفاع أسهم العمل على ما يسمى «خطوة مقابل خطوة».
وعلى الصعيد السياسي المحلي، ورغم الجلبة التي تجري إثارتها من فترة إلى أخرى، حول إصلاحات وتغييرات وحوارات وإلى ما هنالك، إلا أنّ لا شيء فعلياً وحقيقياً باتجاه الحل يجري إنجازه.

على ضفة المعارضة

على الضفة «الأخرى»، أي على ضفة المعارضة الرسمية، ليس هنالك من جديد أيضاً، فتلك القوى التي تعوّل على الغربي، وتمتثل لنصيحته بأنّه ينبغي «ترويض الحصان» على مهل، وبمنتهى الصبر... في تعبيرٍ هزلي عما يسمى بسياسة «تغيير سلوك النظام».
وفي الأثناء، فإنّ المعارضة الرسمية تصرف جلّ جهدها في شؤونها الداخلية، بما في ذلك سعي بعض «قياداتها» لتجديد البيعة لأنفسهم قادةً أبديين.
وإلى جانب هذا «الجهد»، تسعى للحصول على بعض المكاسب من هنا ومن هناك... على سبيل المثال لا الحصر: يتعاطى قسم منها مع موضوعة «التعافي المبكر» التي تشكل موضةً هذه الأيام، انطلاقاً من أنّه ينبغي أن تكون أموال هذا التعافي تحت إدارته هو وليس تحت إدارة النظام، أو أن يتم تقسيم إدارة العملية بين الطرفين، وذلك بغض النظر عن الموقع الحقيقي لهذه المسألة من الحل، وبغض النظر عن كونها- كما سبق وأن بيّن مركز دراسات قاسيون- جزءاً من مشروع استدامة الأزمة وإطالتها، ومفردةً من مفردات «خطوة مقابل خطوة».
فوق ذلك كلّه، وحيث تمكنت المعارضة بأشكالها المتعددة من التحول إلى سلطة أمر واقع، فإنها لم تستطع تقديم نموذج جديد، بل نموذج مستنسخ بالكامل في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية ومجال الحريات عن واقع الحال في مناطق سيطرة النظام.

على الضفة «الثالثة»

بين هذه الضفة وتلك، تظهر ضفة تبدو ثالثة، هي ضفة مجموعة من النُّخب ضمن «المجتمع المدني»، والتي تأخذ على عاتقها مهمة التنظير لضرورة السير في مقترحات الأمم المتحدة على المستوى المناطقي؛ ابتداءً من التنظير لتنفيذ اللامركزية وترك مسألة المركز إلى وقت لاحقٍ! ومروراً بالحديث عن الهويات المحلية والتعافي المبكر وإلخ.
ورغم ما يبدو من تعارض شكلي بين هذه النُّخب «الثالثة» وبين كلٍ من النظام والمعارضة، إلا أنّ الطرح الملموس لها جميعاً يصب المصب نفسه، وهو الانطلاق المسبق من أن لا حل شاملاً للأزمة في أي وقت قريب، وأنه ليس بيدنا أي شيء نفعله في هذا الاتجاه (وبالنسبة للبعض ليس بودنا العمل للوصول إلى مخرج)، ولذا فلا بأس من أعمال جزئية هنا وهناك.
والحق، أنّ هذه «الإجراءات الجزئية»، ورغم ما قد تتغطى به من دوافع إنسانية وسياسية، إلا أنها في الجوهر جزء أساسي من سياسة الانتظار طويل الأمد، بل وأداة أساسية من أدواته... ناهيك عن كونها جزءاً عضوياً (سواء قصد الداعون لها ذلك أم لا) من المشروع المسمى خطوة مقابل خطوة...

الدور الوطني السوري

بقدر ما تكون «النُّخب» مرتبطة بالمشاريع والترتيبات الخارجية، بقدر ما تزداد ضعفاً وعجزاً عن التأثير في وقائع الأمور. أكثر من ذلك، فإنّ هنالك انسجاماً ملفتاً للنظر في الطروحات التي تخرج عن كلٍ من الضفاف الثلاث في طريقة تعاطيها مع الحدث السوري، إلى الحد الذي يبدو معه المشهد وكأن هذه الضفاف لا تريد أي منها إحراج الأخرى... لتتحول المحصلة الإجمالية لها إلى محصلة صفرية.
إنّ غياب القدرة/الرغبة في انتزاع زمام المبادرة، يبدو واضحاً وجلياً عند القسم الأعظم من «النُّخب»، وذلك بالرغم من أنّ الإمكانية النظرية لفعل ذلك، موجودة دائماً.
مجرد متابعة الطريقة الهزلية في التعاطي مع ملف التفاوض المباشر، ومع ملف اللجنة الدستورية ضمناً، يسمح بتبيّن غياب الإرادة في الانتقال أي خطوة فعلية إلى الأمام، نحو الحل... إلى الحد الذي يظهر فيه التعاطي الرسمي على الضفتين شكلاً من أشكال تقاذف الكرات ضمن لعبة متفقٍ مسبقاً على شروطها ونتائجها...
رغم مأساوية حال «النُّخب»، إلى أنّ لهذه المأساة وجهها الإيجابي، وهي أنها تعبيرٌ متكامل الأركان عن موت فضاءٍ سياسي كامل، ما يزال كالميت يمسك بتلابيب الأحياء، ولكن مصيره هو أن يندثر فاتحاً الساحة لولادة مكتملة للجديد الذي ما يزال في طور النشوء...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180
آخر تعديل على الإثنين, 24 حزيران/يونيو 2024 13:01