افتتاحية قاسيون 1179: قديمٌ يموت وجديدٌ يولد في أوروبا أيضاً

افتتاحية قاسيون 1179: قديمٌ يموت وجديدٌ يولد في أوروبا أيضاً

شكلت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخراً، بؤرة لاهتمام عالمي متواصل وواسع النطاق، ابتداءً من أخبار نتائجها مروراً بتحليل تلك النتائج، ووصولاً إلى محاولات استشراف المستقبل القريب لأوروبا والعالم على أساس هذه النتائج.

من المحق تماماً، أن تنال هذه الانتخابات اهتماماً واسعاً، ليس لأهمية أوروبا التاريخية ضمن لوحة توازن القوى الدولي، وهي أهمية تراجعت بقدرٍ كبير خلال العقد الماضي خاصة، ولكن لأنّ هذه الانتخابات ونتائجها هي مؤشرٌ مهمٌ جداً عن طبيعة التحولات الجارية على المستوى العالمي.

أول ما ينبغي تثبيته: أنّ «المسلّمة» التي تتفق وسائل الإعلام الكبرى في تكرارها، والقائلة بأنّ نتيجة هذه الانتخابات هي «تقدم اليمين»، هي مسلمة مخادعة وبعيدة عن جوهر ما جرى؛ فاليمين بالذات هو من يملك السلطة شبه المطلقة في كل دول أوروبا تقريباً منذ عقود، وليس أيّ يمين بل ربما أكثر أجنحة اليمين تطرفاً؛ اليمين المرتبط بالنخبة العالمية والأمريكية خاصة، والذي حوّل أوروبا إلى مجرد تابعٍ ذليل للإدارة الأمريكية، وعلى حساب المصالح الأوروبية الوطنية والشعبية... وهو الأمر الذي بات واضحاً أمام الشعوب الأوروبية بعد حرب أوكرانيا، التي مارست الحكومات الأوروبية اتجاهها دوراً متماهياً كلياً مع المصالح الأمريكية، ومصالح النخبة العالمية، وبالضد تماماً من المصالح الوطنية والاجتماعية لتلك الدول.

المسألة الثانية التي يجري تغييبها: هي أنّ «اليمين» الذي يجري الحديث عن صعوده، ليس مجرد يمين قومي عنصري، ولكنّ أحد أهم حوامل صعوده هو المواقف التي يعلنها ضد الهيمنة الأمريكية، ناهيك عن أنّ عدداً غير قليل من الناخبين اتجه نحو اليمين العنصري كتعبير عن الاحتجاج على اليمين التقليدي المسيطر على السلطة، وليس بالضرورة انطلاقاً من القناعة بما يطرحه اليمين القومي العنصري «الصاعد».

الحقيقة الثالثة التي يجري إخفاؤها تقريباً في كل وسائل الإعلام الرئيسية: هي أنّ من صعدت أصواته ونسبه في هذه الانتخابات، ليس فقط اليمين القومي العنصري، بل وأيضاً، وبالتوازي، وبنسب متقاربة، قوى اليسار؛ أحد أمثلة ذلك هي استطلاعات الرأي في الانتخابات الفرنسية القادمة، والتي لا تصعد فيها لو بان فحسب، بل وأيضاً الجبهة الشعبية وبنسبٍ متقاربة.

بالمحصلة، فإنّ جوهر ما يجري هو أنّ الفضاء السياسي القديم الذي تسيّد أوروبا طوال عقود، منذ سادت النيوليبرالية مع تاتشر وريغان وحتى الآن، يتهالك ويمضي نحو نهايته المحتومة، ونتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة هي مؤشر هام في هذا الإطار.

بالمقابل، فإنّ هنالك فضاءً سياسياً جديداً ما يزال في طور الولادة، وحامله الأساسي المشترك في يمينه ويساره هو التمرد على الهيمنة الأمريكية.

مخاض الولادة الجديدة سيكون عسيراً بلا شك، وستجري محاولات حثيثة لتقديم بدائل وهمية بغرض إبقاء السلطة لدى الفئات الطبقية نفسها، ولكن احتمالات تبلور الجديد بشكلٍ صحيٍ ومكتملٍ تزداد مع الوقت ومع التجارب.

السمت الأساسي الذي بات أكثر ثباتاً في مختلف الصراعات الدولية، بما فيها الداخلية، هو اندماج نضالات الاستقلال الوطني مع النضالات الاقتصادية الاجتماعية والنضالات الديمقراطية، يشمل ذلك أوروبا نفسها، التي بدأت بخوض معركة استقلال ضد النفوذ الأمريكي، ستُكلل في نهاية الأمر بالنجاح، رغم ما يمكن أن ينصبه المركز العالمي/ الأمريكي من عثرات على الطريق، بما فيها احتمالات نزاعات داخلية طاحنة...

هذا كلّه سينعكس في نهاية المطاف على منطقتنا أيضاً، التي تخوض بطريقتها الخاصة صراعها باتجاه استقلال جديد، والذي يمثل النضال من أجل حل سياسي شامل على أساس القرار 2254 في سورية جزءاً أساسياً منه...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1179
آخر تعديل على الأحد, 16 حزيران/يونيو 2024 22:08