الأمريكان يعترفون بتراجعهم وأزلامهم ينكرون... قراءة في تقرير جديد صادر عن مركز «راند» «RAND»

الأمريكان يعترفون بتراجعهم وأزلامهم ينكرون... قراءة في تقرير جديد صادر عن مركز «راند» «RAND»

أصدر مركز الأبحاث الأمريكي المعروف «راند» Research ANd Development Corporation، تقريراً بحثياً في شهر نيسان الماضي بعنوان «مصادر الديناميكية الوطنية المتجددة»، وهو تقرير مطوّل يقع في 126 صفحة باللغة الإنكليزية (يمكن الوصول إليه عبر الرابط المرفق).

لأهمية هذا التقرير، ولأهمية الجهة الصادر عنها، يقدم مركز دراسات قاسيون فيما يلي، قراءةً مكثفةً للأفكار الأساسية التي وردت في التقرير، وينتقل بعد ذلك لوضع بعض الخلاصات. وقبل ذلك، لا بد من تعريفٍ سريعٍ بمركز دراسات راند الذي سبق أن وقفت قاسيون عند عددٍ من تقاريره الخاصة بسورية.

أولاً: ما هو مراكز راند؟

تأسس مركز راند عام 1948 كمتعاقد مع شركة طائرات دوغلاس الأمريكية، وبهدف تقديم أبحاث ودراسات للقوات المسلحة الأمريكية. ويصل تمويل راند السنوي إلى ما يقرب من نصف مليار دولار، يحصل عليه من مصادر متعددة، أهمها: الحكومة الأمريكية، ووكالات حكومية أمريكية وجامعات وشركات خاصة كبرى وغيرها.
وقد لعبت مؤسسة راند منذ تأسيسها دوراً مهماً في صنع السياسات الأمريكية، وخاصة السياسات الخارجية، وتعتبر إحدى ركائز منظومة الحرب الباردة.
بما يخص سورية، فقد أصدرت المؤسسة عدة دراسات، بينها سلسلة من عدة أجزاء تحت عنوان «سلام من أجل سورية»، سبق لقاسيون أن وقفت عندها وعند غيرها من تقارير راند، في عدة مقالات، بينها:
السياسات الأمريكية حول العالم انطلاقاً من تقرير لـ«RAND» في جزأين (رابط الجزء الأول، رابط الجزء الثاني).
عن «قيصر» و«راند» والشمال الشرقي والحوار الكردي-الكردي (عبر الرابط المرفق).
«راند- النصرة»... صندوق باندورا (عبر الرابط المرفق).

ثانياً: راند وسورية

للتعرّف على راند أكثر انطلاقاً من الحالة الملموسة السورية، لا بد من التذكير بشكلٍ مكثفٍ بسلسلة التقارير المسماة «سلام من أجل سورية»، والتي لن نتوسع في الكلام عنها هنا، (يمكن الاطلاع على المزيد عبر الروابط السابقة)، ولكن نكتفي بالإشارة إلى أنّ مؤسسة راند منذ عام 2016، وبالتوازي مع انتقال البريطانيين وبعدهم الغرب بأسره من شعار «إسقاط النظام» إلى شعار «تغيير سلوك النظام»، قد بدأت بصياغة السياسات التي رأيناها في إطار التطبيق طوال السنوات الثمانية الماضية في سورية.
جوهر تلك السياسات هو أنّه لا ينبغي أن يكون هنالك حلٌ سياسي شامل في سورية (وتحت شعار لا يمكن)، وضمناً لا يمكن تطبيق 2254، ولذا لا بد من حلٍ «من تحت إلى فوق»، يستند إلى الحلول المحلية والإدارات الجزئية هنا وهناك... الأمر الذي تطور مع الزمن إلى ما بات يعرف الآن بـ«خطوة مقابل خطوة»، بمفرداتها المختلفة من عقوبات إلى تعافٍ مبكر إلى بيئة آمنة ومحايدة وإلخ.
أي أنّه في الوقت الذي كان لدى الدبلوماسيين الأمريكيين، هامش من الحركة في الحديث عن 2254 وضرورة تطبيقه، في إطار الإيهام والخداع (كما جرى بما يخص اتفاقات مينسك)، كان العمل الملموس على الأرض يسير وفقاً للتصور العام الذي اشتركت مؤسسة راند بالتحديد في صياغته، بوصفها ذراعاً أمنية وعسكرية وفكرية للسلطة الأمريكية.

ثالثاً: مقدمة حول تقرير راند الجديد

نبدأ هنا، في عرض الأفكار والاتجاهات الأساسية التي وردت ضمن تقرير راند الجديد المعنون «مصادر الديناميكية الوطنية المتجددة»، والصادر في نيسان 2024...
وفقاً للتقرير «يدرس المؤلفون الطرق التي يمكن من خلالها تجديد الديناميكية الوطنية الأمريكية – كيف يمكن للقوى العظمى التي تبدأ في الركود أو حتى التراجع أن تستعيد طاقتها وميزتها التنافسية». أي أنّ التقرير يبدأ باعترافٍ واضحٍ بأنّ هنالك مشكلة كبرى أمام الولايات المتحدة، كقوة عظمى، هي أنها -على الأقل- قد دخلت في طور الركود أو حتى التراجع، ويجعل مهمته الأساسية هي البحث عن الديناميات والآليات التي تسمح بإيقاف الركود/التراجع، وعكس مجراه. ويعرف التقرير عملية التجديد الوطني، التي هي الغاية النهائية وراء التقرير بأنها: «عكس مسار الانحدار من خلال مزيج من الخصائص المتأصلة والسياسة المتعمدة، مما يؤدي بالتالي إلى تحسين المكانة الوطنية في كل من التدابير المطلقة والنسبية».
ولهذا الغرض، قام مؤلفو التقرير «باستخدام الأدلة التاريخية لتطوير نماذج لأسباب التدهور الوطني، ومسارات وعمليات التجديد الوطني، والاستراتيجيات الوطنية المتميزة التي تنتج التجديد». أي أنهم قاموا بدراسة عدة حالات تاريخية ملموسة لقوىً عظمى مرت بمراحل التراجع والركود، ودرسوا الديناميات التي تم اعتمادها وصولاً إلى إحدى ثلاث نتائج أساسية:
إما أن تتمكن القوة العظمى من تجاوز حالة الركود والتراجع عبر استباقها بشكلٍ نشيط، بحيث تمنع المسار التاريخي من استكمال تطوره المعهود في صعود ثم هبوط القوى.
أو ألّا تتمكن من القيام بذلك، ولكن تتمكن بالمقابل من الحفاظ على مكانة متقدمة لها كقوة إقليمية مع إطلالة دولية وليس كقوة عظمى.
أو أنها فشلت في تحقيق أيّ من الهدفين وانهارت بشكلٍ كامل وتعرضت للتقسيم والتفتيت والاندثار.
وفي ختام التقرير، يجري تقديم «الدروس المستفادة من هذا الدليل التاريخي».
من خلال الأمثلة التاريخية التي اختارها مؤلفو البحث، يحاولون الإجابة عن الأسئلة التالية:
ما الذي يكشفه السجل التاريخي عن التعافي الوطني من الانحدار الوطني طويل الأمد؟
ما هي العوامل التي تميز حالات التجديد الاستباقي الناجح عن الحالات التي فشل فيها هذا التجديد؟
هل لدى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم الشروط المطلوبة لتحقيق التجديد الاستباقي؟

رابعاً: المؤشرات التي تحدد (النجاح/الفشل) في عملية التجديد الاستباقي

يشير التقرير إلى أنّه يمثل المرحلة الثانية ضمن عملٍ بحثيٍ واحد بغرض البحث عن إمكانيات التجديد الاستباقي في مواجهة التراجع. في المرحلة الأولى: قام الباحثون بتطوير 9 معايير/مؤشرات، يسمح تطبيقها مجتمعة على حالة تاريخية بعينها، بالوصول إلى النتيجة النهائية حول هل هنالك فرص لنجاح التجديد الاستباقي أم لا.
هذه المعايير/ المؤشرات التسعة هي التالية:
طول عمر الصمود أو استدامة الصمود (للقوة موضع الدراسة) من حيث المرونة الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية طويلة المدى، التي تحافظ على الهوية الوطنية على مدى فترة طويلة وتعزز التأثير الثقافي والاجتماعي الممتد.
القدرة السيادية على حماية سلامة ورخاء المواطنين ضد قدرات أو تهديدات الدول الأخرى والجهات الفاعلة غير الحكومية والمخاطر النظامية.
حرية العمل الجيوسياسية من حيث القدرة على اتخاذ قرارات سيادية حرة وغير مقيدة واتخاذ إجراءات في النظام الدولي إلى أقصى درجة تسمح بها القوة النسبية.
التفوق أو الهيمنة العسكرية، محلياً أو عالمياً، والقدرة على إظهار القوة.
قيادة أو العضوية في التحالفات السائدة للقوة العسكرية والجيوسياسية.
القوة الاقتصادية السائدة – على مستوى العالم، أو داخل منطقة ما، أو داخل واحدة أو أكثر من الصناعات.
موقع قوي إلى مهيمن في التجارة العالمية والاستثمار وأسواق رأس المال (بالنسبة لحجم الناتج المحلي الإجمالي وعوامل أخرى).
موقع قوي إلى مهيمن في التصنيفات الأيديولوجية والنموذجية والسرديات والمعايير العالمية، والقوة الجذابة (الناعمة)، والمؤسسات والمعايير الدولية.
مكانة قوية أو رائدة في مجال التكنولوجيا الأكثر تطوراً؛ الدور القيادي أو المهيمن في القطاعات الصناعية الناشئة الرئيسية.

1178-8

خامساً: الأمثلة التاريخية المدروسة

يعطي التقرير أمثلة عن حالات الصعود والانحدار الوطني والتجديد المحتمل لعدة قوى تاريخية سابقة وحالية، وفي هذا السياق يصنف التقرير الولايات المتحدة فيما يتعلق بنوع الصعود أو الانحدار الوطني الذي تشهده على أنه مرتبط بالتنمية الصناعية؛ وأنها مؤهلة للقيام بالتجديد الاستباقي للديناميكية الوطنية، ويربط ذلك بالأحداث والخصائص الرئيسية التالية: «صعود طويل كقوة صناعية مهيمنة؛ قيادة عالمية مهمة بحلول أوائل القرن العشرين، وديمقراطية صناعية مهيمنة منذ الأربعينيات، وذروة القوة من عام 1989 إلى أوائل القرن الحادي والعشرين؛ التعافي من العديد من التحديات السابقة، بما في ذلك التوترات الاجتماعية في سبعينيات وعشرينيات القرن التاسع عشر؛ هناك جدل حول درجة التراجع في وقت كتابة هذا التقرير، لكن القوة النسبية (على سبيل المثال، تجاه الصين) انحسرت، والعديد من التحديات المحلية تخلق خطر التراجع المتوقع».
كما يدرس الاتحاد السوفييتي/روسيا كمثال آخر، ويصنفها فيما يتعلق بنوع الصعود أو الانحدار الوطني الذي شهدته على أنه مرتبط بالتصنيع، والجهود الفاشلة لتجديد الطاقة في الثمانينيات والتسعينيات. وربط ذلك بالأحداث والخصائص الرئيسية التالية: «فترة طويلة من الاعتماد على الحجم والسكان كأساس لمكانة القوة العظمى؛ ولم تحقق الجهود المتقطعة للتحديث نتائج مهمة حتى العشرينيات والستينيات من القرن الماضي، مما ساعد على صعود الاتحاد السوفييتي كقوة مهيمنة ثنائية القطب؛ أدى التدهور التدريجي للنظام السوفييتي إلى الركود والانهيار النهائي للإمبراطورية والأزمة الاقتصادية في التسعينيات؛ على الرغم من التعبير عن السلطة، لم يكن هناك تجديد عام بعد التسعينيات». واعتبر التقرير أن الاتحاد السوفييتي يُعتبر مثالاً عن «القوى التي تراجعت من ذروة النفوذ العالمي ولم تتعاف أبداً».
واستخدم التقرير الصين كذلك كأحد الأمثلة، مصنفاً إياها في نوع الصعود أو الانحدار الوطني: «الصعود إلى قوة عظمى، ثم الانخفاض النسبي يليه التصنيع»، وربط ذلك بالأحداث والخصائص الرئيسية التالية: «يمكن اعتبارها قوة اقتصادية رائدة قبل عام 1800 بناءً على تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الحديثة، لكنها لم تكن لاعباً جيوسياسياً مؤثراً باستمرار خارج منطقتها المباشرة حتى القرن العشرين؛ علاوة على ذلك، أفسحت القوة المبكرة الطريق أمام عدم الاستقرار والضعف مقارنة بالقوى الأوروبية، فضلاً عن الغزو والهزيمة على يد اليابان في ثلاثينيات القرن العشرين؛ بدأت حملة التصنيع في السبعينيات، والتي دفعتها إلى قمة التسلسل الهرمي العالمي في العديد من المجالات، ولكن هذه ليست حالة تجديد وطني بقدر ما هي حالة تنمية».
ثم نظر التقرير فيما سماه «التجديد الاستباقي»، ولتقييم ذلك درس «العوامل التي أنتجت (1) تقديراً عاماً، أو في بعض الحالات، تقييماً رسمياً بأن نوعاً ما من التدهور أو الانهيار الأكثر خطورة وشيك و(2) قدرة المجتمع أو ميله إلى الاستجابة لمثل هذه الإشارات من خلال العمل المثمر».
في هذا السياق، «التجديد يعني عملية التعافي من الركود أو الانحدار الوشيك من جانب قوة كبرى أو عظمى كانت في السابق في مكانة قمة العالم، أو قريبة منها، سواء في القوة النسبية أو في بعض المقاييس المطلقة».
ونظر التقرير في ثلاثة أمثلة: بريطانيا في العصر الفيكتوري (1830-1900)، والولايات المتحدة ما بعد العصر المذهب (من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين)، والاتحاد السوفييتي في أواخر الحرب الباردة. ووفق التقرير، مثالي بريطانيا والولايات المتحدة كانا ناجحين، وذلك نتيجة «زيادة عمل الدولة لصالح ما يمكن وصفه بالتغيير الاجتماعي التقدمي... وكانت الحركة الاجتماعية الشعبية لمواجهة التحديات أمراً أساسياً».
وفق التقرير وحول مثال بريطانيا، «بين عشرينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، اجتاحت موجة من الإصلاح مجالات متعددة من الحياة البريطانية. فقد وسعت التشريعات الرئيسية حق التصويت، وتناولت ظروف العمل للنساء والأطفال، ووسعت الفرص التعليمية، وتناولت التكلفة البيئية للتصنيع، وغير ذلك الكثير. والأهم من ذلك، أن هذه الأجندة لم يتم التخطيط لها من قبل الحكومة البريطانية أو مجموعة واحدة من الإصلاحيين: بل عكست اعترافاً شعبياً معقداً ومتغيراً بالتحديات المتعددة التي تواجهها مجموعات مختلفة في المجتمع. وكانت النتيجة مجموعة مختلطة ومتوقفة، ولكنها في نهاية المطاف شاملة من الإصلاحات التي عالجت العديد من مصادر التدهور الوطني المحتمل. كان من المثير للاهتمام بشكل خاص في الحالة البريطانية دور النخب، بما في ذلك أعضاء مختارون من الطبقة الأرستقراطية المالكة للأراضي، في دعم عناصر هذه الإصلاحات. وكان هذا الدعم يعتمد في كثير من الأحيان على المصلحة الذاتية؛ على وجه الخصوص، مع توسع حق الانتخاب، أدركت النخب أن النجاح السياسي يعتمد جزئياً على جذب الدعم من الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة في نهاية المطاف».
حول مثال الولايات المتحدة في المرحلة المعنية، يقول التقرير: «إلى جانب التقدم الاقتصادي المذهل، جاء اتساع فجوة التفاوت، والتوترات الاجتماعية بشأن حقوق العمال، والمخاطر البيئية والاجتماعية الناجمة عن التصنيع غير المنضبط، وعناصر الفساد السياسي، بما في ذلك الروابط الوثيقة بين المصالح التجارية والجهات الفاعلة السياسية. رداً على ذلك، قامت مجموعة من السياسيين والناشطين والإصلاحيين الأثرياء، الذين اعتقدوا أن تحديات العصر الذهبي قد عرّضت استقرار وتضامن المجتمع الأمريكي في المستقبل للخطر، بقيادة ما أصبح يعرف بالحركة التقدمية... كان هذا التجديد يدور إلى حد كبير حول الفرص المشتركة، والمساواة الاجتماعية، والالتزام المتجدد، جزئياً بين مجموعة من النخب المفعمة بالحيوية العامة وعامة الناس».
ينتقل التقرير بعدها إلى مثال الاتحاد السوفييتي في أواخر الحرب الباردة، ويقول إنها «مثالاً على فشل التجديد الوطني. بحلول أواخر السبعينيات، واجه الاتحاد السوفييتي معضلات أساسية بدأت مع دور الحزب الشيوعي، الذي لم يكن من الممكن الهروب منه أو إصلاحه. وكان يعاني من بيروقراطية خانقة، وصناعات تديرها الدولة، تتدهور وتتخلف أكثر من أي وقت مضى عن الدول الصناعية الرائدة، وميزانية دولة مثقلة بالأعباء (جزئياً بسبب عشرات الالتزامات الأجنبية في خدمة الأيديولوجية الماركسية اللينينية)، والفساد والسعي وراء الريع في جميع أنحاء النظام... وفي حين أظهر الشعب الروسي، وإلى حد ما، الحكومة السوفييتية مرونة هائلة خلال الحرب العالمية الثانية، بحلول الثمانينيات، لم يعد النظام السوفييتي يُظهر مثل هذه الخصائص. حيث أصبح قوقعة هشة وضعيفة. ومن المحتمل أن الإصلاحات الأكثر عقلانية وتدريجية كان من الممكن أن تساعد في إبقاء النظام على قيد الحياة، ولكن من غير الممكن أن يكون هناك تجديد كامل النطاق».

سادساً: معايير مرتبطة بالتجديد الاستباقي وبالتراجع الوطني العام

ركز التقرير على ثلاثة معايير لتقييم الحالات الناجحة للتجديد الاستباقي:
هل طورت القوة العظمى مجموعة من الإصلاحات أو الاستجابات المحددة، إما من خلال التخطيط الحكومي والنوايا، أو من خلال الاستجابات الناشئة لمختلف المصالح والجهات الفاعلة في المجتمع والتي أنتجت نتائج قابلة للقياس؟
هل ظلت القوة العظمى قوة عظمى – متماسكة، ومحكومة بشكل جيد، وقادرة على المنافسة في فن الحكم العالمي، وقادرة على إبراز القوة الاقتصادية والعسكرية؟
هل ظلت مكانة القوة العظمى ونفوذها (بما في ذلك القوة الناعمة والنفوذ الثقافي) ثابتة تقريباً؟
وحدد التقرير أيضاً مجموعة من العوامل المرتبطة بالانحدار الوطني:
ضعف في الروح أو الطموح أو قوة الإرادة الوطنية، ويرتبط أحياناً بالشعور بالأحقية وحب الرفاهية.
التخشب والانحلال المؤسسي والبيروقراطي، مما يؤدي إما إلى عدم فعالية المؤسسات أو الفساد، أو كليهما.
طبقات النخبة المهتمة بمصلحتها الذاتية أو المنقسمة، وتصور الانقسامات الاجتماعية وانعدام الفرص المشتركة.
الفشل في مواكبة المتطلبات الاقتصادية والتكنولوجية لعصر ما، وتحديداً بمعنى عدم القدرة على التوافق مع النموذج التنافسي للعصر.
الشعور المتضعضع بالوحدة الوطنية والتضامن مع تزايد الانقسام السياسي والصراع الاجتماعي.
تجاوز قاعدة موارد المجتمع من حيث الموارد المالية أو الطاقة أو البيئة.

سابعاً: النتائج الرئيسية للبحث

بعد عملية مقارنة تاريخية مطولة مع عدة نماذج (سنعرضها باختصار تالياً)، يصل التقرير إلى جملة نتائج تتسم لغتها بعمومية كبيرة (وهذه العمومية هي الميزة المشتركة بين معظم أبحاث راند المنشورة، لأنه من المعلوم أنّ مثل هذا النوع من المؤسسات، غالباً ما يصدر نسختين من أي تقرير أو بحث ينجزه، نسخة للنشر، وأخرى للتداول الضيق، تكون أكثر مباشرةً وتحديداً، ولكن بكل الأحوال، ليس من المستحيل التكهن بقسم على الأقل من التفاصيل غير المنشورة في أيٍ من التقارير...)
النتائج العامة التي يخلص إليها التقرير هي التالية:
إن التعافي من التدهور الوطني الكبير طويل الأمد أمرٌ نادر الحدوث، ويصعب العثور على أمثلة عنه في السجل التاريخي. عندما انزلقت القوى العظمى من موقع التفوق بسبب عوامل داخلية، فإنها نادراً ما تمكنت من عكس الاتجاه التراجعي. لكن السجل التاريخي يكشف أيضاً عن أنه حدثت عمليات إبطاء وتطويق للتراجع في بعض الحالات التاريخية، أدت إلى تحول الانحدار الكامل واحتمال السقوط النهائي إلى انحدارٍ جزئي. تلك الحالات هي التي حصلت ضمنها عمليات تجديد استباقي ناجحة، جرى تطبيقها في الوقت المناسب؛ قبل أن يبدأ التراجع الفعلي.
تدخل الولايات المتحدة فترة تتطلب نوعاً من التجديد الوطني الاستباقي الموجود في العديد من الحالات التاريخية. في حالات قليلة، حددت المجتمعات التحديات التي تواجه وضعها التنافسي، وأجرت إصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية واسعة النطاق للحفاظ على قوتها. ومع ذلك، فإنها لم تكن قد تراجعت بعد بشكل ملحوظ (وغالباً لم يكن تراجعها قد بدأ فعلاً) عندما بدأت عمليات التجديد الاستباقي هذه.
يبدو أن هناك العديد من العوامل المشتركة التي تميز حالات التجديد الاستباقي الناجح عن حالات الفشل. هناك سبع خصائص مجتمعية رئيسية مرتبطة بالنجاح التنافسي (يحددها التقرير بشكلٍ تفصيلي إلى حد ما، ويظهر الضعف النسبي للولايات المتحدة بما يخص كلاً منها).
لم تظهر الولايات المتحدة بعد اعترافاً مشتركاً واسع النطاق بالتحديات المجتمعية أو التصميم على الإصلاح في مجالات القضايا الرئيسية. لا يوجد إجماع حول العوائق التي تحول دون التجديد والتي تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة، ويتم النظر إلى المشكلة الأساسية بمصطلحات مختلفة تماماً من قبل شرائح مختلفة من المجتمع ومجموعات من القادة السياسيين، الأمر الذي يخلق تحدياً واضحاً للجهود المتعددة لحل القضايا الرئيسية، لذلك فإنّ فرصة التجديد الاستباقي قد لا تنشأ من الأساس.
الولايات المتحدة لديها كل الشروط اللازمة لأجندة محتملة للتجديد الاستباقي. فهي تتمتع بقوى متبقية هائلة وقدرة مثبتة على الصمود والتجديد، وتتمتع بالحجم والأسس الصناعية والعلمية، وخزان غني من الفاعلين الاجتماعيين لتبقى واحدة من القوى العظمى في قمة السياسة العالمية (ورغم النبرة التفاؤلية التي توحي بها هذه النتيجة الأخيرة، إلا أنّ قراءة التقرير كاملاً، تدفع القارئ لاستنتاج مفاده: أنّ هذه النتيجة ليست «نتيجة» لما سبقها من دراسة، بل هي «رغبةٌ» يتم وضعها كنتيجة، خاصة وأنّ العوامل التي يستخدمها المؤلفون لتبرير هذه النتيجة، كانوا قد نسفوها أو شككوا فيها على الأقل، ضمن التقرير نفسه).
التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة هو أن موقعها التنافسي مهدد من الداخل (من حيث تباطؤ نمو الإنتاجية، والشيخوخة السكانية، والنظام السياسي المستقطَبْ، وبيئة المعلومات الفاسدة على نحو متزايد) ومن الخارج (من حيث التحدي المباشر المتزايد من الصين وتراجع إذعان العشرات من الدول النامية لقوة الولايات المتحدة).
«تشير دراسات الحالة التي أجريناها إلى أن أشكال التجديد الاستباقي يمكن أن تكون مدفوعة بشعور متزايد بالإلحاح في مجتمع لا يشهد حرباً فعلية أو ثورة. إن تراكم ما يكفي من الأحداث والاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المثيرة للقلق يمكن أن يدفع مختلف الجهات الفاعلة في البلاد إلى رؤية الحاجة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. ومع ذلك، فإن النقص النسبي في حالات التجديد الحقيقي على نطاق واسع في العصر الحديث قد يدل على صعوبة تحقيق جميع متطلبات التجديد الوطني في غياب الكارثة».
«إن الخطوة الأولى نحو أي شكل من أشكال التجديد الوطني أو التنظيمي هي دائماً الاعتراف الجاد بمشكلة، أو مجموعة من المشكلات والوعي بأن التغيير مطلوب... وتثير بعض دراسات الحالة لدينا سؤالاً حول مدى كثافة وفورية هذا التأمل الذاتي لدفع الإصلاح الهادف... قد تكون بعض الأنظمة السياسية أكثر قدرة على التشخيص الذاتي من غيرها. يميل التشخيص الذاتي الوطني إلى الارتباط بالمجتمعات الديمقراطية المنفتحة التي تتميز بالتبادل الحر للأفكار، على الرغم من أنها لم تقتصر على أشكال الحكم الديمقراطي وحدها».

قراءة في التقرير ونتائجه

ربما أهم ما في التقرير الذي استعرضنا أعلاه نقاطه الأساسية، هو الاعتراف الواضح بالتراجع الأمريكي، وبأنّ التراجع قد بدأ فعلاً. ورغم محاولة التقرير أن يقدم صورة متفائلة إلى حدٍ ما، عبر تطبيق غير موضوعي للمعايير التسعة التي اعتمدها على حالة الولايات المتحدة الراهنة، إلا أنّه يقرع أجراس الخطر، ويطالب بالمباشرة بحلول كان ينبغي أن تبدأ قبل أن يصبح التراجع أمراً واقعاً كما يستنتج التقرير نفسه.
في قراءة التقرير للمؤشرات التسعة، يحاول الالتفاف على كوارث كبرى يواجهها الوضع الأمريكي، على رأسها، واستناداً لمنطق التقرير نفسه، ما يلي:
أولاً: إذا كان تراجع التصنيع إنذاراً خطراً حول التراجع والانحطاط الشامل، فإنّ استعادته تبدو عمليةً شبه مستحيلة، لأنّ تلك الاستعادة تعاكس إلى حد بعيد النمط الاقتصادي المبني على فكرة السعي نحو الربح الأعلى، الربح الأعلى الذي غادر منذ عدة عقود مساحة الأرض الأمريكية، وهاجر نحو شرق آسيا وأماكن أخرى حول العالم...
ثانياً: بالنسبة للهيمنة العسكرية وقيادة التحالفات، يسقط التقرير من الحساب ما يجري واقعياً في أوكرانيا ودول أفريقية عديدة، ومؤخراً في كامل منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها فلسطين.
ثالثاً: يكرر التقرير الكلام الممجوج حول جاذبية النموذج الديمقراطي، فيما يبدو أنه تعامٍ كامل عما يجري حول العالم من تداعٍ شامل لهيمنة المنظومة النيوليبرالية الغربية، وخاصة بجانبها القيمي... ما يعني ضمناً، أنّ عنصر القوة الناعمة قد تم فقده فعلياً؛ وربما من المفيد تذكّر ما خلص إليه المفكر الفرنسي المعروف إيمانويل تود خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث اعتبر أنّ الغرب خسر المعركة وانتهى الأمر، لأنه خسر جانبها الناعم/الثقافي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1178