إننا نُسلق أحياءً...  فلنقفز!
عماد طحان عماد طحان

إننا نُسلق أحياءً... فلنقفز!

إذا ألقيتَ ضفدعاً في ماءٍ ساخنةٍ فإنها ستقفز فوراً، هرباً من الموت. ولكنْ إن وضعتها في قدر ماءٍ باردٍ ووضعت القدر على نارٍ هادئة، فإنها ستبقى في القدر، ستسترخي تماماً مع ارتفاع الحرارة التدريجي، وستُسلق بهدوءٍ حتى النهاية... حتى الموت!

يستخدم الكاتب والمفكر الروسي سيرجي قره مورزا المثال السابق في الصفحات الأولى من كتابه المعنون «التلاعب بالوعي»، والذي ترجمه إلى العربية عياذ عيد عام 2013، لصالح وزارة الثقافة السورية.
قرأتُ الكتاب في السنة نفسها التي صدر فيها بالعربية، ومنذ ذلك الوقت، أي منذ 11 سنة، ما يزال الانطباع الكابوسي لهذا المثال المأساوي، محفوراً في ذاكرتي، ولم تزده هذه السنوات، والقراءات والتجارب التي تلت، إلا رسوخاً...

الكسل العقلي والنماذج الاختزالية

لو كان القِدر شفافاً، لربما رأت الضفدع النار وقفزت هرباً بحياتها. وحتى لو كان القدر شفافاً، هنالك احتمالُ أن يجري التسخين بوسائل أخرى، كهربائية مثلاً، وسائلَ ليست واضحةً ومفهومة ومباشرة وضوحَ ومباشرةَ النار، لكّن الحياة هكذا... ليست شفافة ولا واضحةً ولا مباشرة، بل شديدة التعقيد والغموض في أغلب الأحيان.
ولذا، فقد كان على الضفدع ألا تستسلم لـ «الكسل العقلي» و«النماذج الاختزالية»، وألّا تقف في فهمها لوضعها ضمن القدر، عند حدود الخمول والراحة والاسترخاء والمتعة التي يؤمنها لها الدفء المؤقت؛ كان عليها أن تستنتج من ارتفاع الحرارة التدريجي أنها في خطرٍ، وأنّ عليها أن تقفز بأسرع وقت ممكن. (الكسل العقلي والنموذج الاختزالي، تعبيران يستخدمهما بشكل متكرر المفكر الإسلامي المعروف عبد الوهاب المسيري، ويقصد بهما- فيما يقصد- تعامل الإنسان مع أي ظاهرة من الظواهر عبر الاكتفاء بجانبٍ واحد أو بضعة جوانب منها، والقفز نحو نتائج بسيطة، سهلة، وخاطئة في معظم الأحيان).

التراكم الكمّي والتحول النّوعي

مثال الضفدع هذا نفسُه، يكشف جانباً مهماً في كيفية عمل القانون الأول من ديالكتيك هيغل، والذي- كما يقال- أوقفه ماركس على رجليه بعد أن كان واقفاً على رأسه (في إشارة للانتقال به من المثالية إلى المادية).
الجانب الذي يكشفه ليس متعلقاً بأنّ التحول النوعي تسبقه تراكمات كمية تقود نحوه، كالقول مثلاً: إنّ الماء المقطّر يبقى سائلاً طالما بقيت حرارته أكبر من صفر وأصغر من 100، ويتحول إلى غاز فقط عند الوصول إلى عتبة 100 درجة، وإلى صلب عند الوصول إلى عتبة 0 درجة مئوية؛ فهذا الجانب من القانون هو جانبه الجوهري الأكثر وضوحاً...
ما يكشفه مثال الضفدع، هو أنّ عمليات التراكم الكمي، تجري- في معظم الأحيان- بشكلٍ مستترٍ، إلى هذا الحد أو ذاك؛ فالنظر إلى ماءٍ درجة حرارته 40 درجة، أو 80 درجة، لا يعطي انطباعاً واضحاً عن الفرق بينهما.
يكشف أيضاً، أنّ التحول النوعي (من سائل إلى غاز في مثال الماء المغلي)، يجري بشكلٍ مفاجئٍ، يجري كقفزةٍ غير متوقعةٍ (بالنسبة لمراقب ذي عقلٍ كسول).
يعرّف بعض الأطباء الموت بطريقة طريفة ملخصها: أنّ حياة الإنسان هي عملية طهيٍ مستمرة من الداخل، عبر الأكسدة. وحين ننضج تماماً... نموت.
الناظر العادي إلى وضع السوريين عام 2010 أو عام 2005، لن يرى فروقاتٍ كبرى، ولن يتوقع 2011.
في كلّ هذه الأمثلة، بما فيها مثال الضفدع، فإنّ المشترك هو ثلاثة عناصر؛ عنصر التراكم البطيء غير المنظور، وعنصر المفاجأة، وعنصر الجهل الذي يجعل من المفاجأة مفاجأةً.

منحنى غاوس للرأي العام

تذهب النظريات التي تدرس الإعلام الجماهيري، وكذلك نظريات علم الاجتماع العام، إلى أنّ توزع آراء الناس من مختلف القضايا، يأخذ في معظم الأحيان شكلاً مشابهاً للتوزيع الرياضي الاحتمالي المعروف باسم توزيع غاوس، المبيّن في الشكل المرفق، حتى أنّ الاسم الآخر الرائج لتوزيع غاوس، هو «التوزيع الطبيعي»، في إشارة إلى أنه كثير التكرار في الطبيعة، وكما تبيّن لاحقاً، في المجتمع أيضاً.

1179g

ما يعبّر عنه هذا التوزيع، في إطار الحديث عن الرأي العام، ودون تعقيدات رياضية لا ضرورة لها هنا، هو أننا حين نضع سؤالاً ما أمام الناس، قضيةً ما، فإنّ القسم الأكبر منهم ستكون لهم مواقف متقاربة، تشكل بمجموعها موقفاً وسطياً يتمتع بأعلى قيمة احتمالية (وهو ما تعبر عنه المستطيلات الأكبر مساحةً التي في منتصف الشكل المبين)، بينما ستكون نسبة الناس أصحاب المواقف الأكثر جذرية أو تطرفاً (بالنسبة للموقف الوسطي)، هي النسبة الأقل، (كلمة تطرفٍ هنا ليست محمّلةً بالضرورة بالشحنة السلبية التي عادة ما تحملها في الإطار الاجتماعي، ولكن هي هنا توصيف مجردٌ لِطَيفِ الآراء الذي يتموضع على أحد طرفي التوزع، أو القريب منهما). ولكن ما علاقة ذلك بالضفدع وبما قلناه سابقاً؟
فَهِمَ أصحاب الدعاية الإعلانية والسياسية هذا التوزيع جيداً، واخترعوا طريقةً شديدة الدهاء للتلاعب به. فيما يلي فكرتها الأساسية: فلنفترض أنّ مصلحةَ جهة معينة هي في أن يكون الرأي العام من قضية ما، ليس متوزعاً توزعاً طبيعياً، بل أن تكون النسبة الأكبر من الناس تحمل الرأي الأقرب لـ(+1 المبينة في الشكل، وليس إلى 0 الوسطية الطبيعية).
لكي تصل هذه الجهة إلى غايتها، عليها القيام بعدة أمور، وباستخدام الإعلام ووسائله المختلفة بالدرجة الأولى.

أولاً: ستحاول التعتيم بشكلٍ كاملٍ على الطيف من الآراء القريب من القيمة (-1). ثانياً: عليها بالتوازي أن تشنّ حملات ترهيب واسعة النطاق ضد طيف الآراء القريب من (-1) وعليها تصويرها بأنها جنون محض وخروج عن المنطق.
ثالثاً: ستركز الضوء على أصحاب الرأي (+1) وتفتح لهم منابر التعبير المختلفة، ورابعاً: (وهو الأخطر ربما)، ستبث بين الناس أشخاصاً وجهاتٍ تطرح رأياً هو (+2) وليس فقط (+1)، أي رأياً شديد التطرف إلى درجة لم تسمع الناس به من قبل، وستتعامل معه في بداية الأمر وكأنه جنون مطلق، لأنّه من خارج الطيف الطبيعي لتوزع الآراء بأكمله.
بهذه الطريقة، ومع الوقت، ومع تقدم عملية السلق التدريجية، سيحدث انزياحٌ في طيف الرأي العام، بحيث تختفي القيمة (-1) وتصبح القيمة (0) هي القيمة (-1)، والقيمة (+1) هي القيمة (0) الجديدة، والقيمة (+2) هي القيمة (+1). وبكلمة، فإنّ الرأي الذي كان يعتبر قليل الانتشار سابقاً (والذي كان يحمل القيمة +1 ضمن الشكل الأول)، يصبح بعد عملية الإزاحة، الرأي الأكثر رواجاً وقبولاً... هذه العملية بمجملها، تسمى إزاحة طيف الرأي العام، ويعبر عنها بصورة بسيطة، الشكل المرفق.

1179h

مثال تطبيقي (1)

سبق لمركز دراسات قاسيون أن نشر دراسة حول الاستثمار السياسي لأجندة LGBT أو مجتمع الميم-ع، بعنوان «في الأبعاد السياسية والأيديولوجية والهيمنيّة لمتاجرة الغرب بمسائل المثلية الجنسية». ولن نتوسع هنا في نقاش هذه القضية، ولكن سنستعين بها لتوضيح فكرة إزاحة طيف الرأي العام.
ليس خافياً على أحد، أنّ الرأي العام عالمياً ومحلياً من قضايا «المثلية الجنسية» قد انزاح خلال العقود الماضية، وخلال العقد الأخير بشكلٍ خاص؛ فبينما كان القسم الأكبر من الناس يتخذ موقفاً رافضاً ومعارضاً، كانت قلة قليلة تؤيد، وقلة قليلة أخرى تعارض بشكل متطرف.
للتخصيص أكثر، نأخذ مثالاً: الموقف من عمليات التحول الجنسي، والتي كان الرأي العام السائد حولها هو الرفض القاطع، بل والنفور والازدراء... كيف تمّ تحويل الرأي العام؟
أولاً: جرى تصوير الرافضين بأنهم متخلفون (وإنْ كان بعضهم كذلك فعلاً)، وحمقى وغير متحضرين. (الهجوم على القيمة (-1))
ثانياً: فتحت المنابر لأصحاب الرأي الأقرب إلى +1، وبات وجودهم شخصيات تمثلهم ضمن الأفلام والمسلسلات والأوساط الفنية والثقافية، شرط عبورٍ أساسي لأي عمل تقريباً، وبغض النظر عن الصلة بين ذلك وبين حبكة العمل المعني. (التركيز على القيمة (+1))
ثالثاً: تم اختراع القيمة (+2) عبر القول بحق الأطفال تحت 18 عاماً بتحديد هويتهم الجنسية، وبالقيام بعمليات تحول جنسي إنْ شاؤوا ذلك، ودون موافقة الأهل، وبحماية القانون والدولة! أي تم إدخال قيمة جديدة غير معروفة سابقاً إلى طيف الرأي العام، وتمت المبالغة في تسليط الضوء عليها، رغم أنّ هذه القيمة بدت جنوناً محضاً في المراحل الأولى التي تمّ إظهارها فيها... (بين أشكال الجنون المتطرف في طرح هذا النوع من المسائل، القول مثلاً: إنّ البيدوفيليا أي الرغبة في إقامة علاقات جنسية مع الأطفال، هي مجرد ميول جنسي كغيره من الميولات الجنسية الأخرى!)
استخدام العناصر الثلاثة المذكورة آنفاً، وبشكلٍ مركز، أدى إلى إزاحة طيف الرأي العام، وليس من باب القبول بقدر ما هو من باب «الدفاع عن النفس» ... مثلاً، وبعد أن كان كثيرون يجاهرون برفضهم لكل فكرة عمليات التحول الجنسي، باتوا يقولون، لا بأس، لن نقف ضدها، ولكن نرجوكم أن تتركوا الأطفال وشأنهم، دعوهم يبلغون الثامنة عشرة من أعمارهم وبعدها يمكنهم أن يقرروا بأنفسهم...

مثال تطبيقي (2)

الرأي العام من قضية «الدعم الحكومي»، هو مثال مدرسي ونموذجي على كيفية إزاحة طيف الرأي العام، وهو مثال نرى تطبيقه في سورية، ولم يكن تطبيقاً فريداً إذ كان تكراراً لما جرى في عدد كبير من البلدان حول العالم التي تبنت بشكلٍ علني أو غير علني السياسات النيوليبرالية.
أولاً: يجري هجوم مكثف على فكرة الدعم وأنها علة العلل، وسبب الفساد وهدر الموارد (الهجوم على القيمة -1).
ثانياً: يجري الترويج لضرورات الخصخصة، وإنهاء الدعم كلياً وبشكل فوري، والانتقال الكامل إلى «اقتصاد السوق الحر» (الترويج للقيمة +2).
ثالثاً: ثم يخرج الحل بشكله الأولي تحت مسمى (إعادة توزيع الدعم على مستحقيه)، والذي كان سابقاً عند القيمة +1 وأصبح بعد الإزاحة عند القيمة (0)، أي الرأي الأكثر رواجاً.
وبمجرد الانتقال نحو الطيف الجديد، تستمر العملية نحو إزاحة إضافية بحيث يصبح مركز الآراء (المطلوب) هو الخصخصة ورفع الدعم نهائياً...

مثال تطبيقي (3)

الموقف من القضية الفلسطينية ومن الكيان الصهيوني هو أيضاً مثال تطبيقي نموذجي لعملية إزاحة طيف الرأي العام.
الحالة الطبيعية هي أنّ القيمة (0)، أي القسم الأكبر من الرأي العام في منطقتنا، هو ضد الكيان الصهيوني ومناصر للقضية الفلسطينية، ولذا:
أولاً: يجري الهجوم على كل خطاب مناصر للقضية ووصفه بالخشبي والمتخلف وإلخ... (الهجوم على القيمتين -1 و 0)
ثانياً: يتم فتح المنابر لأصحاب الآراء ذات القيمة (+1)، التي تقول بأنّ «إسرائيل» هي عدو، ولكن لا يمكن هزيمته، ولذا ينبغي أن نكون «واقعيين» وأن نبحث عن طريقة للوصول إلى صفقة سلام معه.
ثالثاً: يتم اختراع قيمة متطرفة (+2) وإبرازها إعلامياً، المقصود هو فتح المنابر لأولئك الذين يقولون: إنّ «إسرائيل» ليست عدواً، بل صديق وحليف، وهي ليست الخطر الأكبر، هنالك أخطار أخرى كثيرة أكبر منها، بل وهي يمكن أن تكون حليفاً في مواجهة الأخطار الأكبر.
ليس المقصود من إظهار هذه الآراء المنحطة والترويج لها أن تلتحق الناس بها، فمن يروجها يعرف أنها مرفوضة شعبياً، ولا يمكن أن تستقطب إلا قلةً لا قيمة لها تقريباً... المقصود بالضبط هو إزاحة طيف الرأي العام، بحيث يتغير الرأي الأكثر رواجاً من الرأي المطالب بإنهاء الاستعمار الصهيوني، إلى الرأي القائل بـ«ضرورة» الوصول إلى سلامٍ ما معه.
في هذا المثال بالذات، يمكننا أن نفهم ظهور بعض الشخصيات والأصوات على هامش الحراك الجاري في السويداء، أصوات لا تمثل هذا الحراك ومرفوضة من الغالبية العظمى من المشاركين فيه... وظيفة هذه الأصوات ليست استقطاب الناس صوبها، ولكن بالضبط تحويل الأفكار المنفرة غير المقبولة، ومع التكرار إلى جزء من الطيف العام للآراء، وبالتالي تمييع الموقف العام مع الوقت...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1179