صحافة الكيان وداعميه خلال شهر: القلق الظاهر في السطور والرعب الكامن بينها
بعد ما يقرب الشهرين من انطلاق «طوفان الأقصى»، يستمر الكيان الصهيوني في حملته الوحشية على قطاع غزة، وفي الخلفية تصعيد في الضفة الغربية، بما يعكس في جوهره أنّ الكيان يتعامل مع المعركة الحالية بوصفها على أقل تقدير معركة مفصلية ستحدد نتائجها وضع الكيان لسنوات قادمة، إنْ لم نقل إنه يتعامل معها بوصفها معركة مصيرية.
المعركة هذه ليست محصورة بكونها ضد فلسطين والشعب الفلسطيني ونضاله، بل تشكل إحدى مفردات معارك أكبر وأوسع وأعمق، على مستوى الكيان نفسه، وعلى المستوى الإقليمي والدولي؛ فمن وجهة نظر الوضع الداخلي للكيان، تتوج هذه المعركة أزمة داخلية متعددة الأوجه، تفاقمت وتضخمت بشكل متواصل خلال السنوات الخمس الماضية على الأقل، وكانت أزمة الحكم والانقسام الداخلي أكثر تجلياتها وضوحاً، وإنْ لم تكن أكثرها عمقاً وخطراً.
ومن وجهة نظر تموضع الكيان ضمن المنظومة العالمية، فهذه المعركة تجري في ظل ميزان قوى دولي جديد يتراجع فيه صاحب المشروع نفسه، أي الأمريكي- البريطاني، ويتطور فيه الرأي العام العالمي بشكل غير مسبوق لمصلحة القضية الفلسطينية.
في هذه المادة، ننظر في بعض تجليات أزمة الكيان في إعلامه بالدرجة الأولى، وكذلك في بعض وسائل الإعلام الأمريكية.
القلق من تراجع الدعم الأمريكي
لطالما كان وجود واستمرار الكيان مرتبطاً بالدعم الخارجي، وبالأخص الدعم الأمريكي، والذي كان بشكل أساسي دعماً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً / دبلوماسياً، وكذلك الدعم المتمثل بالتأثير على الرأي العام في الولايات المتحدة، من خلال تبنّي سردية قائمة على المظلومية.
في أعقاب العدوان الوحشي على قطاع غزة، خرجت مظاهرات عارمة في الغرب وفي أمريكا نفسها، تعكس تغييرات في الرأي العام العالمي، الأمر الذي أقلق الكيان، ولكن لم يكن ذلك فقط بسبب خسارة الجماهير، وإنما بالتداعيات المحتملة (المفترضة) على الدعم الهائل الذي يتلقاه الكيان من أمريكا والغرب.
قبل أن نشرع في عرض أمثلة مما يجري تداوله إعلامياً حول هذه النقطة، لا بد من توضيح، أنّ الجذر العميق لهذا القلق، ليس محصوراً بخوفٍ من تراجع الولايات المتحدة عن الدعم تحت تأثير الرأي العام؛ فهذا أقل مخاوف الكيان بهذا الخصوص، لأنه يعلم أنّ حدود تأثير الرأي العام على صناعة السياسة في واشنطن، هي حدود ضيقة في نهاية المطاف.
حقيقة الأمر أبعد من ذلك، وربما تتعلق بالدرجة الأولى ليس في الخوف «الإسرائيلي» من «تراجع الرغبة الأمريكية» في دعم الكيان، بل في الخوف من تراجع الإمكانيات الحقيقية لدى الأمريكي في مواصلة الدعم. وأبعد من ذلك، في الخوف من أنّ الأمريكي يرى الشرق الأوسط بأسره ساحة واحدة، هدفه الأعلى الراهن فيها هو إشعالها بأسرها، وذلك بغض النظر عما يمكن أن يلحق بالكيان من أضرار لا رجعة فيها.
تطرقت مقالة في صحيفة «هاآرتس»، في 28 تشرين الثاني، إلى تصويت مقبل للكونغرس الأمريكي بشأن المساعدات الطارئة للكيان، وفيها يقول الكاتب: «إن المطالبات بربط المساعدة بالتزامات «إسرائيل» في مجال حقوق الإنسان في غزة والضفة الغربية، لا تأتي فقط من السيناتور بيرني ساندرز والتقدميين» في الكونغرس، و« إن مسألة ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تضع شروطاً على المساعدات العسكرية «لإسرائيل» ستكون في دائرة الضوء، كما لم يحدث من قبل».
وضوحاً، هناك ما يستدعي قلق الكيان حول الدعم الأمريكي والخطوات غير مسبوقة بربطه بأمور ستجعل تحصيله بسهولة- كما كان سابقاً- أمراً صعباً، بالأخص «إن التصويت الوشيك، إلى جانب الخطاب الناشئ من العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، سوف يضع بلا شك عدسة مكبرة على انتهاكات «إسرائيل» المزعومة لحقوق الإنسان– سواء فيما يتعلق بطبيعة عملياتها العسكرية في قطاع غزة، أو عنف المستوطنين المتزايد في الضفة الغربية– التي ترتكبها «إسرائيل». ويقول المنتقدون: إن هذه الانتهاكات أصبحت ممكنة بفضل الدعم الأمريكي غير المشروط».
بين سطور الكلام الذي ورد في الاقتباس السابق، ليس من الصعب الوقوع على جانب أكثر عمقاً في «القلق من تراجع الدعم الأمريكي»؛ فالمسألة لا تتعلق باشتراطات ترتبط بـ«حقوق الإنسان»، ولكنها تتعلق في الجوهر بأنّ الأمريكي يريد إدارة المعركة بشكل كاملٍ من ألفها إلى يائها، ويريد إلغاء أي استقلال نسبي للكيان في اتخاذ قراراته وإدارة معركته. وبكلام آخر، فإنّ مسألة اشتراط الدعم الأمريكي للكيان، والإعلان عن ذلك الاشتراط، هو في جوهره حصرٌ لقرار الحرب والسلم، جزئياً وكلياً في يد الأمريكي. ناهيك عن أنّ الأمريكي يمكنه استخدام هذه التصريحات العامة حول اشتراط الدعم بحقوق الإنسان، في إطار محاولة تهدئة الرأي العام، وامتصاص غضبه.
بالتوازي مع هذه المخاوف التي عبرت عنها صحافة الكيان، اشتغلت الصحافة الأمريكية في الاتجاه نفسه الذي تكلمنا عنه آنفاً... انتشرت عدة رسائل منسوبة لموظفين في الإدارة الأمريكية، يعترضون فيها على الموقف الأمريكي اتجاه ما يحصل في غزة، ومنهم من استقال على خلفية الموضوع، وضمناً هو اعتراض ليس فقط على الحملة الشرسة الحالية فحسب، بل أيضاً على الدعم الأمريكي غير المشروط للكيان. هذا الانقسام حول الموقف الأمريكي وجد طريقه إلى أعلى مكان في الإدارة الأمريكية، أي البيت الأبيض. في مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 26 تشرين الثاني، بعنوان «البيت الأبيض يواجه انقسامات داخلية بشأن «إسرائيل» وغزة»، يتحدث الكاتب حول بعض التسريبات من البيت الأبيض، والتي ظهر من خلالها أن «العديد من الموظفين يجدون احتضان «إسرائيل» الذي لا يتزعزع أمراً مزعجاً». وفي سياق الكلام حول الدعم الأمريكي للكيان، يذكر الكاتب أنه «لطالما كان فريق السياسة الخارجية لبايدن مدركاً لتأثير منظمات الضغط المؤيدة «لإسرائيل» في واشنطن. لكن التركيبة السكانية المتغيرة للولايات المتأرجحة الرئيسية، مثل: ميشيغان، موطن الجالية العربية الأمريكية المتنامية، تدفع بعض المحللين الديمقراطيين إلى التشكيك في الحكمة السياسية التقليدية» ويضيف الكاتب، أنه «حتى كبار المستشارين قالوا: إنهم يدركون أن الصراع قد أضر بمكانة أمريكا العالمية». ووفق المقالة، «قال مسؤولون أمريكيون: إن بايدن اتخذ نهجاً أكثر تصادمية تجاه «إسرائيل»، علناً وفي السر، في الأسابيع الأخيرة، حتى لو لم يكن ذلك واضحاً دائماً للعامة».
الرئيس الأمريكي والمعروف عنه قوله في وقت مبكر في حياته المهنية: إنه صهيوني، وإنه لو لم يتم إنشاء «إسرائيل» لبذل جهوداً حثيثة لإنشائها، وفي مقالة رأي له نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 18 تشرين الثاني، قال: «إن العنف المتطرف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية يجب أن يتوقف، ولا بد لأولئك الذين يرتكبون أعمال العنف من أن يخضعوا للمساءلة. والولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ خطواتنا الخاصة، بما في ذلك إصدار حظر على تأشيرات الدخول ضد المتطرفين الذين يهاجمون المدنيين في الضفة الغربية». ولم يمر هذا التصريح دون أن تلاحظه وتتطرق إليه عدة جهات إعلامية «إسرائيلية»، حيث قد تكون هذه المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن وضع أي شروط كهذه على إصدار تأشيرات لدخول مواطني الكيان إلى الولايات المتحدة. على سبيل المثال، في مقالة نشرتها «هاآرتس» 18 تشرين الثاني أي في اليوم ذاته الذي نُشرت فيه مقالة الرأي لبايدن المذكورة آنفاً، يقول الكاتب: إن «قرار الولايات المتحدة بمنع إصدار تأشيرات الدخول للمتطرفين «الإسرائيليين» الذين يهاجمون الفلسطينيين في الضفة الغربية... هو الإجراء العقابي الأبرز الذي اتخذته إدارة بايدن تجاه «إسرائيل» منذ توليها السلطة».
القلق من المواقف الدولية
قلق الكيان من التغييرات على المستوى الدولي لا تقتصر على تراجع الدعم الدولي العسكري من الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، ولكن أيضاً من الانحياز الواضح لفلسطين وللشعب الفلسطيني، وهذا الأمر ليس فقط على مستوى الرأي العام، ولكن على مستوى عدد من الحكومات.
من الواضح، أن الكيان يتابع هذه التغييرات بشكل حثيث؛ حيث نشر موقع «معهد دراسات الأمن القومي» للكيان في 21 تشرين الثاني منشوراً حدد فيه الدول التي تدعم الكيان، وتلك التي لا تدعمه، وعلى الأغلب تغيّرت الخارطة منذ ذلك التاريخ باتجاه ارتفاع عدد الدول التي تراجع دعمها للكيان. وفق المنشور، «لا تزال 59 دولة تعرب عن دعمها غير المشروط «لإسرائيل»»، بينما «39 دولة أعربت عن دعمها للفلسطينيين أو أدانت «إسرائيل».. بعضها عبر عن انتقادات محددة للعمليات البرية «الإسرائيلية» في قطاع غزة، والبعض الآخر... عبر عن دعمه لحماس والنضال الفلسطيني. وسرعان ما تحولت هذه الإدانات إلى أفعال– فحتى الآن اختارت دولتان (بليز وبوليفيا) قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع «إسرائيل»، في حين اختارت دول أخرى سحب سفرائها (على سبيل المثال: هندوراس وتشيلي وكولومبيا والأردن). ومن الجدير بالذكر، أن 9 دول فقط اتخذت موقفاً محايداً، ودعت إلى وقف أعمال العنف على جانبي الجدار. 102 دولة، حتى الآن، لم تبد موقفاً»، ويستنتج المنشور أن «هذه النتائج تعكس اتجاهاً تنازلياً في الدعم الدولي «لإسرائيل»».
ربما أحد المواقف الأكثر إزعاجاً للكيان، لما يحمله من آثار محتملة على كافة المستويات، الدولية والإقليمية، هو موقف روسيا. وهذا لم يمر مرور الكرام من قبل جهات إعلامية أمريكية أيضاً، ومنها صحيفة «واشنطن بوست»، والتي نشرت في 2 كانون الأول مقالاً بعنوان «إطلاق حماس للرهائن الروس يسلط الضوء على موقف بوتين الجديد في الشرق الأوسط». وفق المقالة: «نسبت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية... الفضل في الإفراج عن حامل جواز السفر الروسي ... إلى الاتفاقات المباشرة بين الممثلين الروس وحماس، والتي أشارت إلى أن موسكو تعتزم الاستمرار بها». وتضيف المقالة: «إن المعاملة الخاصة التي تلقاها الروس المختطفون هي مظهر جديد للتحالف المتنامي بين الكرملين وحماس، وهي العلاقة التي يسعى الرئيس فلاديمير بوتين من خلالها إلى تقديم نفسه كزعيم ونصير «لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب». ونوهت المقالة إلى أن «روسيا أعربت في البداية عن «قلقها» بشأن الهجوم، لكنها لم تدن حماس. وبدلاً من تقديم تعازيها «لإسرائيل»، وجهت موسكو أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة والغرب، وألقت باللوم على واشنطن لعقود من الفشل في حل الصراع المستمر منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط، واقترحت أن روسيا يمكن أن تلعب دور الوسيط». ويرى كاتب المقالة أن هذا «قد دق إسفيناً بين روسيا و«إسرائيل»».
في مقالة أخرى في «هاآرتس» نشرت بتاريخ 8 تشرين الثاني، يراجع الكاتب أكاذيب نتنياهو خلال السنوات الخمس الماضية حول قوة علاقته ببوتين وبروسيا، ويخلص إلى الاستنتاج: «إن استرضاء «إسرائيل» المحرج الصريح لموسكو لم يحقق أي مكاسب ملحوظة. بل على العكس من ذلك، كافأت روسيا «إسرائيل» ليس فقط من خلال استضافة قادة حماس، بل وأيضاً من خلال تعزيز تعاونها مع العدو اللدود «لإسرائيل»- إيران».
إضافة إلى الموقف الروسي، ينظر الكيان كذلك بقلقٍ إلى الموقف الصيني، الأمر الذي تحدثت عنه سفيرة الكيان في الصين في حوار مع الجهة الإعلامية الأمريكية «صوت أمريكا» في 28 تشرين الثاني، حيث نوهت في سياق كلامها إلى أن الصين «لا تعترف بحماس كمنظمة إرهابية» وقالت: إن هذه «نقطة اختلاف مع الصين».
ويتضح من كلام سفيرة الكيان، أن نظر الصين إلى ما يحصل في غزة على أنه جزء من «الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني» لا يناسب الكيان، حيث قالت: إنهم «لا ينظرون إليها على أنها حرب على تنظيم إرهابي يجب تفكيك قدراته العسكرية وقدراته الإدارية. هذا هو هدف هذه الحرب، وهو دقيق للغاية، وقد أوضحنا ذلك بشكل واضح للغاية. ونحن نحاول أن نشرح موقفنا للجانب الصيني، ونقول: إنها ليست حرباً ضد الفلسطينيين». ويبدو أن التغطية الإعلامية في الصين لما يحصل في غزة لا تناسب الكيان، ويلومها على الموقف العام من المسألة؛ في الحوار نفسه، قالت سفيرة الكيان: «منذ بداية الحرب، لم تكن هناك أي تغطية على الإطلاق لمجزرة السابع من تشرين الأول. لأنه على الفور، بدأت وسائل الإعلام الصينية في تغطية الهجمات الانتقامية «الإسرائيلية» في غزة فقط. إذاً، ماذا سيعرفون؟ كنا نحاول موازنة الأمر، موضحين لمتابعينا الصينيين، انظروا، لقد تعرضنا لهجوم وحشي، وقُتلنا، وذُبحنا، وقُطعت رؤوسنا في السابع من تشرين الأول. ولهذا السبب نحن الآن نقول: إنه دفاع عن النفس. إنه انتقام لما حدث في «إسرائيل» في السابع من تشرين الأول».
الموقف الصيني كان واضحاً منذ البداية، الأمر الذي لحظته جهات «إسرائيلية» أخرى، كما ورد في منشور على موقع المركز البحثي في الكيان «معهد دراسات الأمن القومي» في 12 تشرين الأول، والذي ذكر وبامتعاض واضح، أن «بيان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية كان مقتضباً... وعلى الرغم من إدانتها بشكل عام وغامض «للأعمال التي تلحق الضرر بالمدنيين»، إلا أنها لم تذكر حماس بالاسم، ومن الممكن أن تكون [تصريحاتها] موجهة أيضاً إلى «إسرائيل»، التي بدأت هجماتها في غزة» وكذلك الإعلام الصيني الذي «ينظر إلى العمل الإرهابي الإجرامي كجزء من «صراع بين دول»». ويقول المنشور في نهايته: «من المهم التوضيح والتذكير بأن الصين قوة عظمى ومهمة اقتصادياً، لكنها ليست صديقة «لإسرائيل»».
واستمرت متابعة الموقف الصيني من قبل الكيان، حيث نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» في 31 تشرين الأول منشوراً بعنوان «على خلفية الحرب: الصين تمحو «إسرائيل» من الخريطة»، ورد فيه أنه «تمت إزالة اسم «إسرائيل» من خرائط عملاقي التكنولوجيا الصينيين بايدو وعلي بابا بسبب الحرب مع حماس».
وفي مقالة في الصحيفة ذاتها في 2 تشرين الثاني، تنوه الكاتبة إلى تشابه مواقف روسيا والصين: «ماذا حدث في العلاقات الصينية «الإسرائيلية» منذ 7 أكتوبر؟ ... امتنعت الحكومة الصينية عن إدانة حماس على الرغم من الفظائع التي ارتكبتها، بل وأحبطت، بالتعاون مع روسيا، إصدار قرار في مجلس الأمن يدينها صراحة. وفي لحظة الحقيقة، تمسكت الصين بموقفها التقليدي إلى جانب الفلسطينيين، وتلاشى مظهر الموضوعية الصينية في الشرق الأوسط».
ويحاول إعلام الكيان تفسير هذا الموقف، حيث ورد في مقالة نشرتها «يديعوت أحرونوت» في 1 تشرين الثاني: «تتخذ بكين «الحياد المؤيد للفلسطينيين» وتحاول تقديم نفسها كوسيط أكثر عدالة من الولايات المتحدة، التي «تدعم «إسرائيل» بشكل أعمى». ومع كل الاحترام الواجب لحقوق الفلسطينيين، فإن لديها هدفاً آخر أكثر أهمية: وهو التخلص من الهيمنة الأمريكية العالمية. المال والنفط والسلاح متورطون دائماً في هذا الأمر، وأيضاً محاولة لكسب تأييد الدول العربية».
وضوحاً الموقف الصيني «لم يتحسن»، من وجهة نظر الكيان، حيث ورد في مقدمة لنقاش أجرته «يديعوت أحرونوت» في 29 تشرين الثاني: «منذ أن اندلعت الحرب بالهجوم القاتل الذي نفذته حماس، فإن الصين لم تؤيد «إسرائيل» حقاً. الإدارة في بكين لم تدن المجزرة، وأحبطت قرارات في مجلس الأمن تدين حماس، وتحاول إجبار «إسرائيل» على وقف الأعمال العدائية. وخلال كل ذلك، أرسلت الصين مبعوثين إلى الدول العربية في محاولة لتقديم نفسها كوسيط، وهو العرض الذي رفضته «إسرائيل»».
القلق الإقليمي
لا ينحصر قلق الكيان في تزايد احتمال تراجع داعميه في واشنطن والغرب ككل، أو تراجع قدرتهم على الدعم، ولكن أيضاً قلقه من التغييرات في المنطقة، والتي بدأت تظهر تجلياتها المرتبطة بالكيان. نظرة سريعة إلى التطورات التي جرت في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، تبيّن أنه تكاد لا تكون هنالك قوة إقليمية واحدة غير معنية في إثارة القلق لدى الكيان، من تركيا إلى إيران إلى الدول العربية. ضمن الضربات التي يتلقاها الكيان، من الصعب تحديد الدولة أو القوة الإقليمية التي تأتي على رأس القائمة.
قد يكون الحوثيون الجهة التي تتبادر إلى الذهن بعد اختطاف سفينتين «إسرائيليتين» واعتراض ثالثة في البحر الأحمر. في منشور في 29 تشرين الثاني على موقع «معهد دراسات الأمن القومي»، وهو مركز بحثي في «إسرائيل»، يقوم الكاتب بعرض القدرات العسكرية والأسلحة الموجودة لدى الحوثيين، ويقول: «تتيح هذه الترسانة إمكانية تنفيذ هجمات بعيدة المدى ضد مواقع استراتيجية في جنوب «إسرائيل» باستخدام الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار، في ظل الظروف التي سيعتبرها الحوثيون فرصة لتحقيق التزامهم تجاه إيران، أو القضية الفلسطينية، وكجزء من النضال المتعدد الأوجه للمحور الشيعي ضد «إسرائيل»... أعتقد أن الهجمات المختلفة التي شنها الحوثيون ترجع أيضاً إلى الرغبة في إجراء اختبار تشغيلي لصاروخ إيراني جديد، فضلاً عن مراجعة الإجراءات المضادة للجيش «الإسرائيلي» ضد صاروخ إيراني بعيد المدى، ومراقبة التكتيكات الدفاعية، ودراسة نقاط الضعف في أنظمة الدفاع في البلاد «إسرائيل»».
كما تشكل الأزمة الجارية مصدر قلق لمن ما زال يعول على جني ثمار الجهود التي صبت في الدفع باتجاه اتفاقات التطبيع بين المحيط العربي والكيان. في مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 29 تشرين الثاني بعنوان «حرب غزة تعقّد الجهود الأمريكية لتطبيع العلاقات العربية مع «إسرائيل»»، تقول الكاتبة: «في حين أنه من غير المرجح أن يؤدي الصراع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، إلا أنه أربك حسابات القوى الخليجية الناشئة التي ترى في «إسرائيل» شريكاً أمنياً محتملاً، وثقلاً موازناً لمنافستها الإقليمية إيران».
من المفيد أن نتذكر أيضاً، أنّ الأزمة الحالية جاءت في وقت كان يكثر فيه الكلام حول الجهود التي تبذلها واشنطن لتحقيق تقارب سعودي مع الكيان، ما أدى إلى تعليق هذه الجهود، وتشير الكاتبة إلى الأمير السعودي تركي الفيصل، في سياق حديثه في مؤتمر في المنامة بالبحرين في 18 تشرين الثاني الماضي، قائلاً: «لقد أظهرت الأزمة في غزة أن جهود السلام الإقليمية التي تفشل في معالجة احتلال الأراضي الفلسطينية هي مجرد وهم» وأنه «للمضي قدماً، فإن أي جهد يجب أن يتناول المطلب المشروع للفلسطينيين بتقرير المصير». وبالرغم من أن الدول التي طبعت مع الكيان سابقاً، مثل: الإمارات والبحرين، لم تتراجع عن التطبيع، إلا أن الرأي العام في هذه الدول قد أجبر «الشركات «الإسرائيلية» على الحد من ظهورها للعامة، حيث لا يشاركون في المعارض التجارية، ويسحبون الإعلانات ويقلصون عدد الوفود الرسمية»، وتضيف الكاتبة: أن البحرين تشهد احتجاجات ضد التطبيع، وضد الكيان، وتأييداً لفلسطين والشعب الفلسطيني، وتنوه إلى أن هذه المظاهرات حصلت على تصريحات من قبل الحكومة في البحرين.
هذا القلق واضح أيضاً في إعلام الكيان، حيث تكلمت مقالة نشرتها «هاآرتس» في 29 تشرين الثاني حول الضرر الذي سيلحق بعلاقات الكيان مع محيطه الإقليمي في أعقاب حربه على غزة. ويبدأ الكاتب بالقول: إن «الصفقات الاقتصادية مع الأردن، والتنسيق الحدودي مع مصر، والصفقات الدفاعية مع تركيا، والتطبيع مع السعودية، كلها تأثرت بحرب غزة. ويتعين على «إسرائيل» أن تتحرك بحذر لتجنب تراجع عقود من التقدم الذي أحرزته في مجال التكامل في الشرق الأوسط». ويقول الكاتب: إن هذا لا يتجلى من خلال الخطابات فقط، بل من خلال الأفعال، وفي هذا السياق يتكلم حول خطة عمل من قبل جهات حقوقية في تركيا وجمعها لأدلة على أن «إسرائيل» ارتكبت جرائم حرب في غزة، وقامت المجموعة «بلقاء بكبار المسؤولين في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لشرح طبيعة الأدلة الواردة في القضية، والمطالبة بتسريع عملية التحقيق ومناقشة طلبهم»، وبالرغم من أنه «لم يتضح بعد كيف تعتزم المحكمة الجنائية الدولية التعامل مع الطلب التركي، لكنها قد تكتسب زخماً عندما تنضم دول أخرى إلى الدعوة»، ويضيف الكاتب: أن «إحدى هذه الدول هي الأردن، حيث بدأ البرلمان بالفعل مناقشة هذه القضية، وكثف وزير خارجيتها، أيمن الصفدي، لهجته المطالبة بمحاسبة «إسرائيل»، أي محاكمتها على جرائم الحرب».
ويضيف الكاتب حول الأردن، أن موقفها لم يقتصر على ذلك، حيث «كانت هناك أيضاً مؤشرات أخرى على أن علاقات «إسرائيل» مع الأردن آخذة في التدهور. بعد قرارها استدعاء سفيرها لدى «إسرائيل»، قررت الأردن قبل أسبوعين، تحت ضغط شعبي، تأجيل التوقيع على اتفاق مع «إسرائيل» يحصل بموجبه على المياه مقابل الكهرباء... ولا تقتصر أهمية هذا المشروع على الجانب الاقتصادي فحسب، بل إنه يعكس أيضاً العلاقات الإقليمية المتكاملة التي خلقتها اتفاقيات أبراهام». ويذكر الكاتب: أن «البرلمان الأردني قرر مراجعة كافة الاتفاقيات الموقعة بين «إسرائيل» والمملكة، في حين أعلن وزير الخارجية، الصفدي، في برشلونة في المنتدى الإقليمي لوزراء خارجية الاتحاد من أجل المتوسط، أنه في ضوء سلوك «إسرائيل» فإن اتفاق السلام بين «إسرائيل» والأردن على الرف ويتراكم عليه الغبار». إضافة إلى الأردن وتركيا، يقول الكاتب: إن «العلاقات بين «إسرائيل» ومصر أيضاً شهدت توترات شديدة... وتم تجميد المحادثات بشأن التطبيع مع السعودية، واعتمدت الرياض لهجة قاسية ضد «إسرائيل» ودعت إلى تعليق مبيعات الأسلحة «لإسرائيل»».
القلق حول المستقبل والوضع المحلي
ما حصل في 7 تشرين الأول دفع البعض ضمن الكيان للتفكير بالحلول الممكنة في المستقبل ضمن الإحداثيات الحالية، ولكن أيضاً ضمن ما يمكن أن يترتب على ما يحصل اليوم في غزة، وكذلك في الضفة الغربية والداخل، الأمر الذي جعلهم يفكرون بالمستقبل، وبالتحديد بما يمكن أن يضمن استمرار الكيان في محيط لن يؤدي بنهاية المطاف إلى خنقه ودفعه إلى مصيره الحتمي.
في مقالة في صحيفة «هاآرتس»، في 30 تشرين الثاني، تقول الكاتبة: إن كلا الحلين– حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة– كلاهما غير مناسب. تنطلق الكاتبة من أن «المرء لا يحتاج إلا أن ينظر إلى غزة ليدرك ما الذي يمكن أن يجلبه الفصل الصارم بين «إسرائيل» وفلسطين»، وتقترح «ترابط كونفدرالي يضم دولتين كإطار أفضل لحل الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني»، وتضيف «يعتمد هذا النهج على مؤسسات مشتركة محدودة، وحدود مصممة لحرية التنقل الخاضعة للاحتياجات الأمنية، وحقوق الإقامة على الجانب «الآخر»، وتنسيق السياسات الاقتصادية والأمنية. فهي تقبل التداخل بين السكان لأسباب رمزية وعملية، بدلاً من السعي إلى الفصل العرقي القومي بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين». وتقول: «يكشف التاريخ الحقيقي عن السبب وراء فشل محاولات السلام القائمة على الانفصال فشلاً ذريعاً، ولماذا يشكل الإطار السياسي القائم على التعاون- والوصول المفتوح، وتقاسم الموارد- السبيل الوحيد للمضي قدماً».
بطبيعة الحال، هذا المقترح يحاول وضع تصور للسبيل الوحيد من وجهة نظر الكاتبة للمضي قدماً للكيان واستمراريته، وليس لفلسطين، بالرغم من محاولة تصويره على أنه الحل الأمثل للطرفين. ولكنها فعلياً تعترف بذلك عندما تضيف: «غزة هي الأكثر عزلة، ولها نتائج كارثية، وأكبر تهديد أمني «لإسرائيل». إن الضفة الغربية لا تشكل نموذجاً عظيماً للسلام، ولكنها في الوقت الحاضر أقل بركانيةً من غزة– ولو أن هذا وضوحاً يمكن أن يتغير. وعلى الرغم من التدهور الكامل للقيادة الفلسطينية، وسلطاتها الهزيلة، فإن الضفة الغربية لم تنزلق إلى الفوضى العنيفة. والاقتصاد أفضل قليلاً. هناك جدار قائم، لكنه جزئي ويمكن اختراقه، وكانت حواجز غزة أكثر إحكاماً، وكانت النتائج أسوأ».
لكن هناك أيضاً من يرى أن التراجع عن الحرب ليس خياراً، بل إن الحرب هي الخيار الوحيد لضمان استمرار الكيان، ما يعني أن الحرب يجب أن تستمر وإن كان بشكل مختلف، كما ورد في منشور على موقع المركز البحثي للكيان «معهد دراسات الأمن القومي» في 30 تشرين الثاني، والذي يرى أنه يجب الاستمرار، ولكن بطريقة مختلفة: «ومن المشكوك فيه أن يكون هناك من يوافق في «إسرائيل» على وقف كامل للأعمال العدائية»، ولذلك يجب «التخطيط بدقة لاستمرار القتال». وإن كانت الحجة المذكورة مرتبطة بالرهائن لدى حماس، إلا أنه وبالرغم من التباين الهائل بين الخسائر البشرية والمادية، فمن الواضح أن الكيان يرى أنه الخاسر لحد الآن، وأن وقف المعركة يعني إعلان الخسارة والاستسلام، ما يجعل هذه المعركة نقطة مفصلية في الحرب ككل، ونهايتها نقطة تحوّل مهمة بالأخص ضمن الإحداثيات المستجدة والمتغيرة باستمرار على المستويين الإقليمي والدولي.
وهذا ليس مهماً فقط للأسباب الخارجية، ولكن على المستوى المحلي والداخلي في الكيان للمعنويات اللازمة لاستمراره، الأمر الذي تم التعبير عنه في مقالة نشرها موقع «القناة السابعة» للكيان في 3 كانون الأول، حيث يقول الكاتب: «نحن لا نخاف من حماس أو حزب الله. خوفنا هو من أنفسنا، من أننا لن ننهي الحرب بانتصار ساحق ومدوٍ»، ويضيف: «للأسف تراجعت الثقة في الحكومة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، العمليات والحروب التي توقفنا فيها قبل تحقيق النصر بفترة طويلة جعلتنا نفقد الثقة في القيادة السياسية».
خلاصة
المتابع لصحافة الكيان خاصة، وللصحافة الغربية والأمريكية عامة، يجد نفسه أمام مأتمٍ متواصلٍ يسوده الندب والنواح والرعب من المستقبل. ويجد أنّ الكل في الكيان متفقٌ بشكل أو بآخر، أنّ النتيجة حتى اللحظة هي الخسارة، وأنّ النتيجة المتوقعة هي الأخرى، وإلى حدٍ بعيد، الخسارة أيضاً. والفوارق التي يمكن لحظها هي في تقديرات حجم تلك الخسارة وتداعياتها المستقبلية.
بالتوازي، فإنّ وهم الاستقلالية النسبية للكيان عن واشنطن، وحتى لو كان فيه شيءٌ من الصحة فيما مضى، فإنه الآن يتبخر بسرعة قياسية، ويصبح واضحاً حتى بالنسبة للمستوطن الصهيوني العادي أنّ «بلاده» ليست أكثر من أداة بيد الأمريكي، يمكن لهذا الأخير الدفع بها إلى الخراب الشامل إذا اقتضت مصالحه ذلك، خاصة وأنّ كل المحللين الجديين في الكيان تقريباً، يرون أنّ حربهم شيء، وحرب الولايات المتحدة شيء آخر، حتى وإنْ تقاطعت الحربان تقاطعاً كبيراً في هذه المرحلة؛ فتعامل الكيان الهستيري مع فكرة «اشتراط المساعدة الأمريكية»، يعكس فهمه لجوهر هذا الاشتراط؛ أي العمل الأمريكي على الاستيلاء الكامل على قرار الحرب والسلم، جزئياً وكلياً، في إطار الصراع العالمي الذي تخوضه واشنطن لإنقاذ هيمنتها، والذي تقف فيه «أزمة الشرق الأوسط» جنباً إلى جنب مع «الأزمة الأوكرانية» و«التايوانية»، وغيرها من الأزمات، بوصفها ساحات متعددة لحرب عالمية واحدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1151