الموجة الجديدة: حذر.. حرص.. إصرار.. تنظيم!

الموجة الجديدة: حذر.. حرص.. إصرار.. تنظيم!

خلال الأسبوع الماضي، شهدت محافظتا السويداء ودرعا بشكل أساسي، ومحافظات سورية أخرى، بدايات انطلاق الموجة الجديدة من الحراك الشعبي.

خلال الشهر الماضي، شهد السوريون سلسلة من القرارات، ابتداءً من «جلسة المساءلة» في مجلس الشعب، ووصولاً إلى قرارات رفع الدعم بشكل شبه كامل عن عدد كبير من السلع الأساسية، والتي لم تلتهم الزيادة الاسمية للرواتب فحسب، بل جعلت القيمة الشرائية للرواتب بعد الزيادة أقل منها قبل الزيادة!

كل هذه الأمور أشعلت الغضب والألم المتراكم في صدور المنهوبين، وبدا لهم الأمر كما لو أنّ السلطات تهزأ بهم بسلوكها وسياساتها الاقتصادية- الاجتماعية التي لا ترى حلولاً لمشكلاتها إلا في جيوب الفقراء، وتحرّم على نفسها وعلى الناس، الاقتراب من جيوب الحرامية الكبار والمتنفذين الكبار التي لم تكف عن الانتفاخ يوماً واحداً رغم العذابات الكبرى التي تمر بها البلاد، بل وعبر تلك العذابات.

حذر وحرص

المراقب لتحركات الناس ضمن بدايات الموجة الجديدة، يمكنه أن يلحظ أنّ التحركات يحكمها حتى الآن الحذر، ويحكمها أيضاً الحرص قدر الإمكان على استبعاد أشباح الماضي، أي استبعاد أخطاء الموجات السابقة من الحراك الشعبي السوري.

لا شك أنّ أنصار المتشددين سواء من طرف النظام أو من طرف المعارضة، يتربصون بالحركة، ويسعون إلى جرها نحو النفق القديم نفسه من أجل التحكم بها ومنعها من الوصول إلى أهدافها.
مع ذلك، يبدو واضحاً أنّ قدرة هؤلاء المتشددين أضعف بما لا يقاس مما كانت عليه قبل في 2011. تتلخص أسباب ضعف المتشددين في الأمور التالية:

أولاً: الوضع الدولي والإقليمي اختلف بشكل هائل بين 2011 و2023؛ فالاستقطاب الدولي الذي كان يعطي المتشددين هوامش واسعة للحركة قد نحا منحىً مختلفاً. على الخصوص فإنّ المتشددين من كلا الطرفين لم يعودوا محل ثقةٍ من أيّ من الأطراف الدولية أو الإقليمية، وذلك بغض النظر عن تصنيفات «حلفاء» و«أعداء». من لا يزالون معوّلين على المتشددين بشكل واضح هم الأمريكيون وحلفاؤهم، وهؤلاء بات تأثيرهم أضعف بكثير مما كان عليه في 2011، وأسهم في إضعافه أكثر وأكثر التفاهم الذي يتعمق بين ثلاثي أستانا من جهة، وبينه وبين الدول العربية الأساسية من جهة أخرى، والذين باتوا يعملون جميعاً تقريباً على صفحة واحدة اسمها 2254.

ثانياً: التجارب المرة التي مرت بها الحركة الشعبية، والأثمان المهولة التي دفعتها في طورها السابق، لم تذهب عبثاً، بل تحولت إلى دروس واستنتاجات تختمر في عقول وقلوب الناس؛ فلا العنف مقبول ولا الطائفية ولا التدخلات العسكرية ولا العمل الفوضوي غير المحسوب.

هذا كله لا يعني بالضرورة أننا أمام حركة وصلت من النضج والتنظيم ما يكفيها لتحقيق التغيير المطلوب. ولكنه يعني بالتأكيد أنّ الموجة الجديدة تتلمس خطاها بحذر وبحرص، وليست مستعدةً للانزلاق نحو أيّ من الأفخاخ التي يجري نصبها لها.

وهل يعني ذلك أنّها لن تقع بأيٍّ من هذه الأفخاخ؟ المؤكد أنها لن تقع بأفخاخ قديمة، ولذا ينبغي الانتباه إلى ما يمكن نصبه لها من أفخاخ جديدة. ولكن أياً يكن الأمر فإنّ السير خطوة خطوة، بحذر وبحرص وبإصرار، سيسمح بتجنب معظم إنْ لم يكن كل الأفخاخ.

مراكمة الثقة

تنظيم الناس لنفسها وتوسيع المشاركين في الحراك الشعبي، يمر بالضرورة عبر تحقيق انتصارات صغيرة تراكم الثقة لدى عموم المتضررين وتدفعهم إلى الاشتراك الواعي في الحركة.

هذا يتطلب استخدام أشكال متعددة إبداعية بشكل متوازٍ، العريضة، الاعتصام، النقاش والاجتماع، وغيرها... ويتطلب أن يتم العمل عليها بشكل متدرج.

ينبغي ضمناً، تأجيل استخدام أي شكل قبل تحقيق قدرٍ كافٍ من إجماع المنهوبين عليه. مثلاً، لا يبدو أنّ هنالك إجماعاً متحققاً بعد على موضوع «العصيان المدني»، ومن شأن الإصرار عليه أن يضرب المنهوبين ببعضهم البعض، ومن شأن عدم تحققه أن يصيب الحركة في بداياتها الجديدة بخيبة أمل يمكن أن تضعف عزيمتها وتؤخر تطورها.

ولذا ينبغي البحث عن الأشكال الإبداعية التي تراكم جهود الناس، وتراكم ثقتهم، وتستند إلى النقاش فيما بينهم وإلى القناعات المشتركة والمطالب المشتركة، سواء كانت مطلبية أو سياسية... والأكيد أنّ البدء بالمطلبي وبالأشكال المناسبة، سيسمح بتجميع أوسع قاعدة ممكنة للحراك. وحينها يصبح الانتقال إلى السياسي انتقالاً واعياً ينطلق من حاجات الناس نفسها وقناعاتها، ولا يُفرض عليها من فوق، من قبل نخب معارضة أو موالية، كما جرى فيما مضى. هذه العملية هي جوهر تكوين الفضاء السياسي الجديد، وهي جوهر الانتقال بسورية نحو مرحلة جديدة تستعيد فيها وحدتها ووحدة شعبها وسيادة هذا الشعب على نفسه وعلى دولته.

صعود وهبوط... ولكن إصرار وتنظيم!

ربما بين الدروس التي لا تحتاج إلى كثير من الإيضاح، أنّ الحركة الشعبية لم تعد تركن إلى «النخب» ولم تعد تثق بها؛ بل واللافت أنّ هذه «النخب» بالذات، والمعارضة منها خصوصاً، تبدي ميلاً نحو تكرار المكرر ونحو استعادة الشعارات نفسها والأشكال نفسها، في حين أنّ معظم الناس ميالون لبناء حركتهم الجديدة بناء على خبرتهم المتشكلة بحكم ما جرى سابقاً. وأمام هذا المشهد، تبدو «النخب» متخلفةً عن الشارع، بل ومعزولة... وهذا أمر جيد، لأنّ الحقيقة هي أنّ هذه النخب بمعظمها تنتمي إلى الفضاء السياسي القديم نفسه الذي ينتمي إليه النظام، وإنْ اختلفت الشعارات...

ما يحتاج إلى انتباه أيضاً، هو أنّ الحركة ينبغي أن تتمتع بطول النفس، وأن تعلم أنّ الموجة الجديدة لن تكون بالضرورة موجة واحدة متصاعدة ومستمرة للوصول إلى الهدف النهائي. بل من الممكن جداً أن تكون على شكل عدة أمواج متلاحقة متقاربة بين صعود وهبوط.

لذلك، فإنّ النوى الشبابية التي تنظم نفسها وتتناقش في مصيرها ومصير بلادها بشكل يومي، ينبغي ألا تفكر بمنطق «الضربة القاضية» لأنّ هذا لن يكون، بل والتفكير به يسمح بالفوضى ويسمح للمتشددين باختطاف الحركة مجدداً.

النوى الشبابية تحتاج إلى عمل منظم تراكمي ومستمر، ولذا عليها ضمناً ألّا تستهين بأي شكل من أشكال النضال، بما في ذلك النقاش والاجتماع والعريضة المطلبية والاعتصام وغيرها من الأشكال. وعليها أنْ تواصل مراكمة عملها وتنظيمها بغض النظر عن حالات صعود وهبوط المزاج الاحتجاجي في الشارع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1136
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 21:59