«التمدن» في الصين: من الرؤى والفلسفة إلى الواقع العملي
من المعروف أن الصين تعمل بشكل مستمر على تطوير البنى التحتية في الداخل، وتشارك في الوقت ذاته من خلال شركاتها في الخارج في تطوير البنى التحتية لكثير من الدول، إلا أنّ من يتتبع عملية تطوير البنى التحتية التي تتم داخل الصين، يدرك تماما أن هذا النهوض ليس مجرّد بناء مدن جميلة فحسب إنما الأمر أعمق من ذلك بكثير، إذ إنّ الصين تؤمن بأن تشييد بنى تحتية للمناطق قيد التنمية لا ينهض فقط بالمدن من حيث التكوين الفيزيائي بل يقدّم نهضة على المستوى الفكري والثقافي أيضاً، وبذلك يصبح من غير المستغرب أن يُبنى في قرية نائية وبعيدة مثل «تسيانغ جيانغ» والتي تبعد عن مركز مدينة مقاطعة «تشونشينغ» حوالي 5 ساعات بالسيارة، مطاراً يصلها بمدن الجوار، هي بالفعل فلسفة تنموية تبدأ بالبنى التحتية وتنتهي بالبنية الاجتماعية.
ضعف انتشار العشوائيات
يقلّ انتشار العشوائيات في الصين، فحتى المناطق القديمة هي عبارة عن أبنية طابقية قليلة الارتفاع توحي بالقدم أكثر منها بالعشوائية، وتفسيراً لعدم انتشار العشوائيات فإنه ومنذ تأسيس الصين الجديدة قبل 70 عاماً، شهدت المدن الصينية أسرع عملية تحضر في تاريخ العالم، وهو ما لم يسمح للمناطق العشوائية بالتوسع. إذ أنه وعلى الرغم من وجود بعض المناطق السكنية القديمة، إلا أنها تخضع للتحديث بشكل مستمر من خلال نقل السكان إلى مناطق جديدة مشيدة حديثاً، وتحديث المناطق القديمة. وهو ما يوحي بوجود نوع من العدالة المكانية، إذ تعدّ عدالة التوزيع المكاني من الأسس الجوهرية للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وهي الطريقة لتحقيق الازدهار المشترك وضمان تقاسم ثمار التنمية بين الناس. تشير البيانات إلى أنه في نهاية عام 2018، بلغ معدل التحضر للمقيمين الدائمين 59.58٪، بزيادة قدرها 48.94 نقطة مئوية عن نهاية عام 1949. ويتوقع أن يصل مستوى التحضر في الصين إلى حوالي 70٪ بحلول عام 2035 و80٪ بحلول عام 2050.
وأما فيما يتعلق بالبنية التحتية للنقل، فإنه ومنذ عام 1978 أي منذ الإصلاح والانفتاح، دخلت المواصلات في الصين مسار التنمية السريع من خلال تطوير منظومة النقل السككي وشق طرقات جديدة. بحلول نهاية عام 2018، وصلت نسبة إجمالي الأميال التشغيلية للسكك الحديدية في جميع أنحاء البلاد إلى 132 ألف كيلومتر، كما وصل إجمالي الأميال التشغيلية للسكك الحديدية عالية السرعة إلى 30 ألف كيلومتر، ووصل إجمالي عدد الأميال على الطرق السريعة إلى 4.847 مليون كيلومتر. وهذه التنمية المستمرة للمواصلات لا تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تقلل أيضاً بشكل كبير من تكلفة وقت النقل.
«تانجيالينغ مثالا»
«تانجيالينغ» هي منطقة تقع على أطراف بكين، كانت تتألف من منازل بسيطة وطرق ضيقة وبيئة فوضوية، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلاً، إذ تم إطلاق عملية التحول الشامل لتلك المنطقة في مارس عام 2010، وذلك وفقاً للمبدأ التالي، «إخلاء السكان واستبدال المنازل، والاحتفاظ بالأراضي الصناعية، وتطوير الاقتصاد بشكل جماعي» وبذلك تحولت من قرية نائية تقع على أطراف العاصمة إلى مجتمع حضري حديث. لا بل حتى تحولت المنطقة بكاملها إلى مكان سياحي. يتم العمل على تحديث أية منطقة صينية من خلال اختيار ميزة معينة ومن ثم تنميتها وتطويرها بحيث تصبح علامة مميزة لتلك المدينة، فعلى سبيل المثال فقد تم اختيار «الإضاءة الليلية» كي تكون بمثابة صفة مرافقة لـ «تانجيالينغ» من أجل ترويجها سياحياً، وبذلك تم اجتذاب عدد من السياح بغية رؤية تلك النشاطات الليلية، وترافق هذا الأمر مع رفع شعار «ثقافة + سياحة» «تخييم + شواء» كنوع من الشعارات السياحية التي ستساهم مستقبلاً مع العوامل الأخرى إلى دفع المزيد من القرويين لزيادة دخلهم ليصبحوا أغنياء، ورسم صورة جديدة بشكل مشترك لإنعاش الريف.
وبغرض تحسين البيئة في «تانجيالينغ» تم اتباع تدابير مثل توصيل نظام المياه بشكل سليم، والإدارة البيئية لأماكن وجود بحيرات المياه الصغيرة هذا بالإضافة إلى حماية المنحدرات.
فلسفة متكاملة
تتداخل الرؤى التي تقود التوجّه نحو التمدن في الصين، فللأمر جوانب متعددة، منها الناحية القانونية.
إذ ينصّ «قانون إدارة الأراضي» على ما يلي، «تطبق جمهورية الصين الشعبية الملكية العامة الاشتراكية للأرض، أي ملكية الشعب بأسره والملكية الجماعية للشعب العامل» وهو ما يوفّر ضمانة فعّالة للبناء الحضري وفقاً لاحتياجات التنمية، تمهيداً لغاية أكبر ألا وهي تعزيز التنمية الاقتصادية وتعايش الناس وعملهم بسلام ورضا.
وأما تخطيطياً، فلا بد من ذكر ما ورد في كتاب «ولد الإصلاح مقومات التجربة الصينية»: «تتبع إستراتيجية التمدن في الصين مبدأً تعددياً، يقصد بإستراتيجية التعددية تلك الإستراتيجية الخاصة بالتنمية الشاملة والإقليمية للتمدن، فخلال مرحلة التمدن فإن المددن الكبرى والمتوسطة والصغرى والمراكز تكون جميعها بحاجة إلى التنمية وذلك وفق لمتطلبات التنمية الصناعية، ووفقاً لمبادئ التمايز النسبي والأخذ في عين الاعتبار ظروف التميز في الموارد وحجم السكان ومستوى التنمية الاقتصادية بين المناطق المختلفة، هذا مع الربط بين تنمية المدن العملاقة والكبرى والمتوسطة وبين تنمية المدن الصغرى والمراكز».
من الناحية الجغرافية، في مناطق غرب الصين والتي لم تفتقر إلى التنمية الاقتصادية المتقدمة مع انخفاض نسبي في عدد السكان فإنه قد تمّ التركيز على الأقاليم المركزية وتنمية عواصم المدن وتحويل المدن الصغيرة إلى مدن كبرى. أما في منطقة وسط الصين، ففي الوقت الذي ازدادت فيه عدد المدن والمراكز فإنه قد تمّ التركيز أيضاً على الأقاليم المركزية وتنمية المدن. وفي المناطق المتقدمة اقتصادياً، تمّ الاستمرار في التوسع في المدن الكبرى والمتوسطة بالتزامن مع العمل على ربط المدن الصغرى ببعضها البعض. وقد تم تطبيق المبدأ التالي، عدم المعارضة العمياء لإستراتيجية تنمية المدن الكبرى، وعدم الإفراط في مثالية إستراتيجية تنمية المدن الصغرى، بل يجب التركيز على الربط بين تأسيس المدن الصغرى وتنمية المدن الكبرى.
وعملياً فإن تنفيذ خطة التنمية الإقليمية تمت وتتم عبر تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ودفع عملية التقدم المجتمعي من خلال وسائل التقدم التكنولوجي مع الارتقاء بالمستوى المادي والثقافي للسكان، والقاعدة الأساسية لما سبق هي أن تكون إستراتيجية التنمية لمنطقة ما نابعة من المعرفة الدقيقة بظروف المنطقة.
كما لا بد من ذكر مبدأ التكامل بين الأقاليم وفقاً لكتاب «الزلزال الصيني» فإنه يمكن تقسيم الصين إلى نوعين من الأقاليم، المجموعة الأولى ما أطلق عليه «الاقتصاديات شبه المتقدمة» بينما الأخرى هي «الاقتصاديات الناشئة». وهناك تفاعلات تكاملية ديناميكية ومتبادلة فيما بينهما، بحيث يستفيد إقليم ما من تنمية الإقليم الآخر، وهو ما انعكس على تسريع النهوض الصيني.
خاتمة
عندما يُسمع في نشرات الأخبار تقارير حول ضرورة تنفيذ الرؤى والسياسات بدءاً من القول النظري وصولاً إلى الواقع، قد يعتقد كثيرون أن الأمر عبارة عن شعارات، إلا أنه من يأتي إلى الصين يدرك تماماً أن تلك الرؤى وهذه العبارات، هي واقع عملي سبقته النظرية والفلسفة ولحق به العمل على أرض الواقع بشكل فعلي، وها هو واقع التمدّن في الصين يشهد على هذا الأمر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1136