توجهان حول الوجود الأمريكي في سورية... ما الذي أعاد طرح السؤال؟
ريم عيسى ريم عيسى

توجهان حول الوجود الأمريكي في سورية... ما الذي أعاد طرح السؤال؟

نشرت مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية مقالتين بينهما شهر واحد حول موضوع الانسحاب الأمريكي من سورية، وأتت المقالة الثانية رداً على الأولى؛ حيث حاججت الأولى مطولاً لمصلحة خروج الأمريكي من سورية، وأتى الرد في الثانية من قبل المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جيمس جيفري ليرد بشكل مقتضب جداً أنه يتوجب على القوات الأمريكية البقاء في سورية.

من الواضح، أن المقالة الأولى استفزت جيفري والتيار الذي يمثله في سياسة أمريكا اتجاه سورية، وهو التيار الذي يريد استدامة الأزمة في سورية، لا لتنفيذ مشاريع أو تحقيق نتائج ملموسة لأمريكا في سورية، ولكن لتكون عقبة أمام مشاريع الآخرين، وعقبة أمام إحراز أي تقدم باتجاه الحل السياسي في سورية، الذي سيعيد توحيد سورية والسوريين، ويعيد سورية إلى وضع يمكّنها من استعادة دورها التاريخي في المنطقة، وهذا سيعني تهديداً مباشراً للمشروع الوحيد الباقي لأمريكا في المنطقة: الصهيوني.

المقالة الأولى: «استراتيجية للخروج من سورية: مرافعة دفاعاً عن سحب القوات الأمريكية»

المجلة، وهي مجلة أمريكية تصدر عن مركز الأبحاث الأمريكي المشهور «مجلس العلاقات الخارجية»، نشرت في 10 تشرين الأول الماضي مقالة بالعنوان أعلاه، كتبها «كريستوفر الخوري». وربما نبدأ بالحديث عن هذه المقالة من حيث انتهى الخوري، الذي قال في نهايتها: «بعد ما يقرب من سبع سنوات من وصول أولى القوات الأمريكية إلى سورية، حان الوقت لواشنطن لسحب قواتها. لم يعد الوجود العسكري الأمريكي في سورية إستراتيجياً ذو قيمة؛ بل إنه بات نقطة ضعف». وكان هذا جواباً لسؤال طرحه في بداية المقالة: «هل استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سورية ضروري، وهل هو مُجدٍّ؟»
في محاججته، يقول كاتب هذه المقالة: إنه ضمن معطيات الوضع الراهن في سورية، «كل يوم يمر يزيد من المخاطر على القوات الأمريكية ويُضعف، ولا يُقوي، الموقف التفاوضي للولايات المتحدة فيما يتعلق بما يمكن الحصول عليه من الأسد وروسيا مقابل خروج الولايات المتحدة»، وينصح أن «الولايات المتحدة يجب أن تركز على التفاوض لخروج يضمن لها وبأسرع ما يمكن تأمين مصلحتيها الأساسيتين في سورية: وصول الولايات المتحدة إلى المجال الجوي السوري، وسلامة السوريين الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأمريكية لهزيمة داعش».
ويضيف الخوري، أن المهمة الرئيسية للوجود الأمريكي في سورية كانت محاربة داعش، ولكن الأخيرة لم تعد الجهة الأساسية المسؤولة عن العنف في سورية، ما «يعني أن نشاط ما يقرب من 900 عنصر من الجيش الأمريكي المتمركز في سورية انخفض أيضاً بشكل كبير من ذروته... والقوات الأمريكية لا تقوم بتنفيذ العديد من المهام المشتركة مع قوات سورية الديمقراطية». ونوه الخوري إلى أن آخر العمليات النوعية التي قامت بها الولايات المتحدة ضد داعش كانت في أماكن غير الشمال الشرقي، حيث تتواجد القوات الأمريكية، والتي حققت مهمتها الأصلية، ويمكنها الآن أن تقوم بما يلزم دون الوجود على الأرض. وهنا يقول الخوري: إن المقاربة الأمريكية يجب أن تكون «الانسحاب بشكل ودي بما يكفي للحفاظ على العلاقات مع شركائها السوريين، حتى تتمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في استخدام الاستخبارات البشرية، وتأمين استخدام المجال الجوي السوري. وعلى الرغم من التوترات الجيوسياسية الحالية، فإن خروجاً للولايات المتحدة منسقاً لحد ما مع روسيا هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف».

من هو كريستوفر الخوري؟

قبل الذهاب إلى المقالة الثانية، أو رد جيفري، ربما من المفيد النظر بشكل سريع إلى كاتب المقالة الأولى، كريستوفر الخوري، والذي وُفق موقع «فورين أفيرز» شغل منصب مستشار سياسات العراق وسورية في مكتب المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لهزيمة داعش، من كانون الثاني 2017 إلى كانون الأول 2019، وقد عمل مؤخراً كمستشار أول للسياسات في معهد توني بلير للتغيير العالمي، وهي «منظمة غير ربحية أنشأها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في كانون الأول 2016، لتقديم المشورة للحكومات ولمساعدة القادة السياسيين على بناء مجتمعات منفتحة وشاملة ومزدهرة في عالم يزداد ترابطاً». ووفق أحد المصادر ينحدر الخوري من أصول لبنانية.
المقالة الثانية: «مرافعة دفاعاً عن إبقاء القوات الأمريكية في سورية»
نشرت المجلة نفسها، وبعد شهر من تاريخ المقالة الأولى، أي قبل أيام قليلة، في 10 تشرين الثاني، مقالة ثانية بالعنوان أعلاه، والتي أتت رداً على المقالة الأولى بقلم المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جيمس جيفري. قد يكون من المفيد هنا أيضاً البدء بآخر جملة في المقالة، والتي قال فيها جيفري: «في عصر التنافس الجيواستراتيجي المتزايد، بما في ذلك مع روسيا وإيران، يجب على الولايات المتحدة تجنب التبرع بانتصارات استراتيجية غير ضرورية. قد لا يكون التجميد في سورية جذاباً، لكن من المرجح أن يكون هذا شكل النصر المحدود، من الآن فصاعداً، في سورية، وربما في أماكن أخرى».
يقول جيفري في أول المقالة: إن «الوجود الأمريكي يساعد في إبقاء القوى الإقليمية تحت السيطرة» وإنّ «النهج الأمريكي ينجح في سورية، ولو بشكل متواضع، وتكثر المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة». ويحاول جيفري تسليط الضوء على الأخطاء في محاججة الخوري، حيث يقول: «إن الانسحاب من سورية سيعرض المصالح الإقليمية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي للخطر». ويضيف: إن «النتيجة الرئيسية لاقتراح الخوري، على الرغم من أنه يحاول بحكمة التقليل من شأنها، ستكون منح الروس نطاقاً دبلوماسياً وعسكرياً أكبر لزيادة ضغطهم على تركيا وإسرائيل للانسحاب من سورية أيضاً. في نهاية المطاف... ذلك سيمنح روسيا وإيران نصراً استراتيجياً»، كما أن الانسحاب يعني أن «الولايات المتحدة ستقوم بتحويل عملية فعالة نسبياً داخل البلد تضم 900 جندي فقط– لم يُقتل أي منهم منذ ما يقرب من أربع سنوات– إلى جهد من الخارج ضد داعش».
ضمن رده يقول جيفري: إنّ انسحاب القوات الأمريكية لن يساعد في حل الحرب الأساسية على أساس تسوية سياسية، دون أن يشرح كيف يمكن لتواجد القوات الأمريكية أن يساعد في ذلك، وهذا ليس مستغرباً، لأن كل ما قاله وفعله جيفري- سواء سابقاً عندما كان مبعوثاً إلى سورية أو بعد تركه المنصب- لا يدل بأية حال من الأحوال على أن الحل السياسي في سورية كان على قائمة أولوياته. وهذا ما قلناه عدة مرات في قراءتنا لتصريحاته، وهو يتوافق مع قوله في هذه المقالة: إن الانسحاب سيؤدي إلى إبطال النتائج التي حققتها السياسات الأمريكية «من خلال تنسيق العمليات العسكرية الأمريكية والتركية والإسرائيلية لتجميد النزاع».

مراجعة سريعة لمواد سابقة ذات صلة

ما يقوله جيفري في رده على مقالة الخوري يتماشى تماماً مع السياسية الأمريكية اتجاه سورية، والتي بذل جيفري الكثير من الجهد عليها عندما كان مبعوثاً لواشنطن إلى سورية. وضمن هذه السياسات كانت طريقة تعامل أمريكا مع جبهة النصرة الإرهابية وعملها معها، والتي يمكن قراءة المزيد عنها في هذه المادة من آب الماضي، والتي لخصت عدداً من المواد حول الموضوع. وكانت المقاربة الأمريكية للنصرة تصب في أهداف أمريكا في سورية، والتي مرّرها جيفري في عدة تصريحات ومقالات له، ومن بينها عندما قال في ندوة شارك فيها في منتصف عام 2020: إن وظيفة التواجد العسكري الأمريكي في سورية هي «جعلها مستنقعاً للروس». ولاحقاً، في ذات العام بعد أن أعلن تقاعده، أدلى بتصريحات ونصائح للإدارة الأمريكية الجديدة التي كانت ستتولى السلطة في كانون الثاني 2021، أي إدارة بايدن، وسلطنا الضوء عليها في مادة سابقة، وكان جوهر النصيحة التي قدمها جيفري آنذاك، هو أن الاستقرار في سورية والذي يجب الحفاظ عليه، هو من خلال «الجمود» أي الاستمرار في ذات السياسات التي اتبعتها أمريكا في سورية حتى ذلك الوقت، والحفاظ على الأمر الواقع المتأزم.

1096-9

ما الذي يمكن فهمه من مقال الخوري ورد جيفري؟

إنّ مجرد وجود نقاشٍ علنيٍ على صفحات الجرائد حول احتمالات البقاء أو الانسحاب، يعكس ليس فقط الحقيقة العامة المعروفة حول وجود انقسام عام ضمن النخبة الأمريكية حول مجمل السياسات الخارجية لأمريكا، بل وأيضاً أنّ هنالك ما يوجد الآن على المحك في إطار تقرير السياسات الأمريكية بما يخص مجمل منطقتنا، وضمناً سورية.
لكي نضع الأمور في سياقها، تنبغي الإشارة إلى أنّ النقاش وبالأحرى الصدام العلني، وعلى هذا المستوى، بين الآراء الداعية للبقاء في سورية، أو الخروج منها، قد اختفى تماماً حتى قبل رحيل ترامب، أي منذ أكثر من عامين. ولم نعد نسمع هذا النمط من النقاشات، وبدا الكل موحداً على رأي واحد هو البقاء، بل والتنظير لضرورة البقاء بغض النظر عن الأزمة وحلها، وإنما ضرورة البقاء لعقودٍ قادمة!
ظهور هذا النقاش العلني، يعني: أنّ المسألة عادت مرة أخرى لتصبح موضع بحثٍ جدي، ليس انطلاقاً من الانقسام الداخلي الأمريكي فحسب، بل وبطبيعة الحال انطلاقاً من الوضع الدولي المستجد بحدته ومخاطره...
يتسم رد جيفري على مقالة الخوري، بشحنة عاليةٍ من الغضب؛ إذ كيف يمكن لأي أحد أن يجرؤ على تقديم اقتراح كهذا (خروج القوات) يقوض وينسف كل ما عملت أمريكا على تحقيقه خلال العقد الماضي في سورية؟ ولكن، الخوري الذي لم نجد له الكثير من المقالات حول سورية، بالتأكيد ليس الوحيد الذي طرح فكرة انسحاب القوات الأمريكية من سورية، ولكن ربما في طرحه يمثل تياراً في أمريكا ينظر إلى الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، وبالتحديد في منطقتنا، أنه لم يعد ذا جدوى ولا يخدم المصالح الأمريكية، أو على الأقل أن مساوئه وخسائره باتت تفوق مزاياه ومكاسبه في إطار الصراع الدولي المحتدم...

نتائج إضافية

ينبغي الانتباه إلى أنّ ما يتفق عليه كل من الخوري وجيفري، وما يمثّلانه، هو أنّ مسألة الوصول إلى حلٍ سياسي وتغيير في سورية ليست فقط خارج قائمة الأولويات، بل هي وبشكل شبه معلن ضمن قائمة المحظورات التي تضر بالأمن القومي الأمريكي...
إذ يجمع الشخصان/ التياران على ضرورة إبقاء يد «إسرائيل» طليقة في تخريبها للمنطقة بأسرها، وسورية خاصة، ويجمعان على ضرورة إبقاء شكل من تقسيم الأمر الواقع في سورية، وهذه أهداف لا يمكن تحقيقها إذا انتقلت سورية نحو حل سياسي شامل على أساس القرار 2254.
وسواء كان التوجه هو نحو انسحابٍ أو بقاء للقوات الأمريكية، فإنّ الاتفاق هو أنّ الحل السياسي ليس أولوية على الإطلاق، وكما أشرنا، هو أقرب لأن يكون تهديداً للمصالح الأمريكية/ الصهيونية. هذا ينبغي أن يبقى في البال حين يلاحظ من يتابع الملف السوري أنّ التحركات الأمريكية بما يخص سورية قد دخلت موجة نشاط خلال الشهرين الماضيين، وإنْ كانت قد بدأت هذه الموجة بالانحسار خلال الأسبوعين الأخيرين.
بدأت الموجة المعنية بعد قمة طهران مباشرة، وتخللتها موجة أعمالٍ متنوعة، بينها العسكري وبينها الدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي، وبينها ما شمل تحريك بعض الدمى ضمن المتشددين في المعارضة، بالتوازي مع استمرار الفاسدين الكبار، وتجار الحرب المتحكمين في الداخل السوري ومتشددي النظام، في دفع البلاد نحو مزيد من الدمار بشكل متسارع عبر سياسات التجويع والتهجير وتدمير أي إنتاج.
هذه المعطيات مجتمعة، وإنْ لم تكن جديدة بالكامل، إلا أنّ الجديد فيها ربما يتمثل في جانبين، الأول: هو درجة التراكم الذي حققته خلال هذه السنوات، والذي وصل أو يكاد إلى عتبة شديدة الخطورة وتفجيرية.
والثاني: هو سرعة الدفع أماماً نحو الهاوية التي يعمل بها تجار الحرب ومجرمو الفساد الكبير، المهيمنين ضمن النظام والمعارضة على حد سواء.
هذه المعطيات، مضافاً إليها خطورة وتسارع الوضع الدولي، تسمح بالقول: إنّ ما يبدو على السطح بوصفه ركوداً وهدوءاً وجموداً في الملف السوري، ليس إلا هدوءاً موقتاً ستليه عواصف كبرى، بما يعنيه ذلك من احتمالات خطرة ومن احتمالات إيجابية، على حد سواء...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1096
آخر تعديل على الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2022 17:48