وقد هدأتْ النفوس قليلاً... ما معنى ما جرى في السويداء؟

وقد هدأتْ النفوس قليلاً... ما معنى ما جرى في السويداء؟

طوال عدة سنواتٍ مضت، لم يمرّ شهر واحد تقريباً دون حدث أمني ما في محافظة السويداء؛ ويأتي ذلك الحدث عاصفاً وكبيراً ومصحوباً بأعداد كبيرة من الضحايا، كما في الأسبوعين الماضيين، أو يأتي أقل صخباً، وإنْ لم يكن أقل خطورة.

- السويداء

المشترك هو أنّ حالة التفلّت الأمني وانتشار السلاح والمليشيات والخطف وتجارة المخدرات وشتى أنواع التجارات السوداء، وبالتوازي مع الفقر المتفاقم، والتردي المريع في شتى أنواع الخدمات، هذه كلها هي إحداثيات أساسية ثابتة في وضع المحافظة.

المسؤول الأساسي

قبل أي دخولٍ في التفاصيل، لا بد من القول: إنّ المسؤول الأول والأساسي، قانونياً وسياسياً، عن وضع المحافظة، كما عن وضع سورية ككل، هو مؤسسات الدولة السورية، وبطبيعة الحال النظام السياسي القائم الذي يديرها؛ فبين مصالح الفاسدين الكبار وتجار الحرب وتغوّلهم على البلاد والعباد، والذين يتربحون من شتى أنواع الخراب، وبين الألعاب السياسية التي تصب في منع حل الأزمة، ومنع أيّ تغيير وطني حقيقي لمصلحة الناس، تضيع أرواحٌ وتهدر كراماتٌ ويعمّ الخراب.
بكلامٍ آخر، وبعيداً عن الضياع في التفاصيل الكثيرة، على أهميتها، فإنّ حلاً حقيقياً للوضع الكارثي في المحافظة، لا طريق إليه سوى عبر حلٍ شامل للأزمة السورية ككل، وهذا لن يكون دون تغيير جذري شامل يعيد توحيد البلاد، ويُمكّن أهلها من تقرير مصيرهم بأنفسهم بكل تفاصيله، بما في ذلك طبيعة النظام السياسي الذي يخدم مصالحهم ومصلحة بلدهم.

كلمة حول المليشيات

هنالك أسباب عديدة لانتشار ظاهرة المليشيات؛ فإضافةً للغياب الشكلي لمؤسسات الدولة، (في حين إنها في الحقيقة موجودة بتأثيرٍ كبيرٍ بأشكالٍ مباشرة وغير مباشرة)، ربما يمكن وضع اليد على عاملين هما الأكثر تأثيراً في وجود هذه المليشيات، الأول: هو الوضع المادي المزري للناس، وللشباب خصوصاً، والذين تقطّعت بهم السبل، وبات الراتب الذي يمكن الحصول عليه من الانضمام لإحدى تلك المليشيات طوق نجاةٍ يلجؤون إليه. الثاني: هو البعد السياسي الإقليمي والدولي للمسألة؛ إذ إنّ استمرار الأزمة والتفاقم المتواصل لأوضاع الناس، قد فتح الباب واسعاً أمام شتى أنواع التأثيرات العابرة للحدود، والتي بات بإمكانها الاستثمار في مزيدٍ من التأزيم والخراب، وباتجاه أسوأ أنواع الغايات.

صناعة الرأي

ربما بين أوضح أدوات التأثير في وضع المحافظة، صفحات الفيس البوك المليونية التي تنشط في الفضاء الافتراضي، وتلعب دوراً كبيراً في العمل على توجيه الرأي العام في المحافظة، وفي العمل على تأطيره ضمن اتجاهات محددة.
الملفت بحقٍ في قسم مهم من هذه الصفحات، هي طبيعة الخطاب السياسي الذي تتبناه؛ فهي لا تتبنى بشكل واضح الخطاب التقليدي للمعارضة، ولا الخطاب التقليدي للنظام، ومعلوم أنّ تبني أيّ من هذين المنطقين لن يلقى أي قبولٍ عامٍ، لا في المحافظة ولا في سورية بأكملها.
مع ذلك، فإنّ جوهر الخطاب في عدد مهم من هذه الصفحات، يتركز في الموضوعة التالية: نعم النظام مسؤول عن الوضع، ولكنه ليس المسؤول الأساسي! المسؤول الأساسي هو إيران وحزب الله، والمشكلة مع النظام هي علاقته بكل من إيران وحزب الله، وفي حال تم فك هذه العلاقة فإنّ التفاهم معه ممكن...
أي أنّ الخطاب الموجه نحو تغيير جذري شامل وحقيقي في مصلحة البلاد ككل، يتم تحييده لمصلحة خطاب من نوعٍ آخر، يجعل مشكلة المحافظة ومشكلة البلد بأسرها، هي إيران وحزب الله.
دع جانباً تقييم أدوار إيران وحزب الله، فإنّ الدور الغربي على العموم في هذه الصفحات، هو خارج كل نقدٍ أو استهداف، وكذلك الأدوار «الإسرائيلية» هي الأخرى خارج النقد والاستهداف. الخطاب العام الذي يجري تقديمه، والذي ينتقل في تأييده وفقاً للظرف بين هذه المليشيا وتلك، يبقى ثابتاً في تصوير المشكلة على أنها تختصر في إيران وحزب الله، وفي أنّ النظام السوري ليس مسؤولاً أساسياً عنها، بل مسؤولاً بالتبعية...
نتيجة التأثير المتواصل لهذه الصفحات، وللعمل المباشر على الأرض في السويداء، فإنّ هذه الآراء باتت رائجة إلى هذا الحد أو ذاك. وهو ما سنحاول تقديم تفسير له في نهاية هذه المادة...

مخاطر إضافية

بين المخاطر الإضافية الواضحة فيما يجري، العمل على تكريس طابع مركب طائفي- سياسي- اجتماعي واقتصادي للمليشيات؛ فقسم مهم منها يحمل الشكل الطائفي، بغض النظر عن اتفاقه واختلافه من وقت لآخر مع القيادة الروحية الرسمية في المحافظة، وإضافة لحملها تلك الصفة، فهي تحمل السلاح، وتحمل أيضاً أموالاً على شكل رواتب، وتحمل خطاباً سياسياً... وباختصار، فإنه يجري العمل على تقديم هذه المليشيات ليس فقط كـ«منقذ»، بل كممثل شامل للمجتمع دينياً وسياسياً واقتصادياً وإلخ...
هذا الأمر يستهدف- سواء بشكل مقصود أو بحسن نية، ولا شك أنّ هنالك كثراً من أصحاب النية الحسنة- تكريس عزلة جغرافية سكانية؛ وليس مستغرباً في السياق أن تخرج كل بضعة أشهر نغمة منطقة عازلة ونغمة إدارة ذاتية وإلخ.

بعد تاريخي

معلومٌ أنّ الإرث الوطني في السويداء إرث كبير ومستمر في لعب دورٍ مهم في تشكيل ضمائر أهلها وآرائهم. ومعلومٌ أنّ دفعها نحو شكل من أشكال العزلة ومحاولة قطع جذورها الوطنية، هو أمرٌ شديد الصعوبة... لكن أمل من يستهدفون ذلك، هو العلاج طويل الأمد: كلما طالت الأزمة وتعمق الفقر وتعمقت الجريمة واستمر قذف الناس بشتى أنواع الأفكار الانعزالية، كلما زادت مساحة قبولها. وإنْ كان الهدف في مرحلة ما هو التقسيم الفعلي، فإنّ أصحاب مشروع التقسيم الداخليين والخارجيين، باتوا يعلمون يقيناً بأنّ احتمالاته باتت أضعف مما سبق، ولكنهم يزرعون البذار السامة للمستقبل...
الحوادث الأمنية التي تجري من فترة إلى أخرى، وكما هو واضح بالنسبة لأهل المحافظة وللسوريين ككل، وبما فيها هجوم فصيل على آخر، لا تقدم حلاً من أي نوع كان، لا لموضوع المخدرات ولا لموضوع الخطف ولا لغيره من المصائب. بل وأسوأ من ذلك أنها تكرّس زعامات معينة وخطاباً سياسياً معيناً...
تكريس حالةٍ انعزالية طائفية وسياسية، الغرض البعيد منها هو التأثير على شكل الحل القادم في سورية، والذي يُراد له أنْ يكون حلاً ملغوماً بكل إمكانيات الانفجار، يقوده أمراء حربٍ كل في منطقته، ويستمر فيه الخراب ويتعمق، بحيث تغدو وحدة البلاد شكليةً أكثر مما هي عليه الآن، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال إغماض العين عن التقاطع الإجرامي في المصالح، سواء بشكل مخطط أو عفوي، بين أمراء الحرب والفاسدين الكبار والمتشددين من جهة، وبين الجهات ذات المصلحة في التخلص من الإرث الوطني الكبير للسويداء وأهلها، ونقصد بينها بالدرجة الأولى «إسرائيل».

المخرج

كما سبق وقلنا في البداية، فإنّ الحل الحقيقي لن يستند إلى أيّ من الفصائل الموجودة، ولن يستند إلى مؤسسات الدولة بشكلها الحالي وبطريقة إدارتها الحالية، ولن يستند أيضاً إلى أيٍّ من القوى الخارجية المتدخلة؛ الحل لن يستند إلا إلى السوريين في كل سورية، وإلى حل سياسيٍ شامل على أساس القرار 2254، يبدأ بتشكيل جسم حكم انتقالي يمهد الطريق بشكل فعلي لكي يتمكن السوريون من حكم أنفسهم بأنفسهم في طول البلاد وعرضها، وتحديداً، السوريون من حزب الـ95% الذي يرزحون تحت وطأة الفقر والنهب والتسلط ويدفعون كل الأثمان.
حلٌ كهذا لن يكتمل هو الآخر دون خروج كل القوات الأجنبية من سورية، كلّها على الإطلاق، ولكن لن يبدأ إلا بتشكيل جسم حكمٍ انتقالي توافقي يتم من خلاله التعامل مع أزمات البلاد لا بالمفرق بل بالجملة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1082