افتتاحية قاسيون 1063: تباشير عصر جديد
عنونت قاسيون افتتاحيتها الماضية بـ:«نهاية عصر البترودولار؟»، ولم تتأخر الوقائع عن تأكيد ما جاء فيها؛ فقد أعلنت روسيا يوم الأربعاء الماضي أنها ستبيع غازها حصراً بالروبل لـ«الدول غير الصديقة»، وليس بالدولار أو باليورو.
وكانت الهند قد أعلنت الأسبوع الماضي عن صفقة شراء نفط من روسيا بالعملة الهندية، وبمقياس اليوان الصيني للتسوية، وكذلك فقد بدأنا نسمع من دول كبرى بمقاييس إنتاج النفط، منها السعودية، أنها تبحث الانتقال نحو تسعير نفطها المباع للصين باليوان الصيني.
كما هو معروف فإنّ أية عملةٍ في العالم، تأخذ «قيمتها» لا من ذاتها، بل مما تمثله من بضائع وثروات، وبوصفها معادلاً عاماً (بين البضائع)، وأداة للدفع (مقابل البضائع)، وأداة للاكتناز (أي لاكتناز الثروات=البضائع)... وبكلمة، فإنّ العملة ليست هي القيمة بحد ذاتها، بل هي رمزٌ لها... ولذلك فإنّ التبادلات التجارية بين الدول ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت تتخذ من الذهب وقبله الفضة مقياساً ومعياراً، (إذ لا يمكن أن يبيع أحد بضائع حقيقية مقابل مجرد أوراق وصكوك ما لم يضمن أنها تمثل بضائع حقيقية وثروة حقيقية)...
ابتداءً من توقيع اتفاقية بريتين وودز عام 1944، كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، فإن معيار التبادلات العالمية بقي الذهب من حيث الأساس، ولكن أضيف إليه الدولار كعملة عالمية، ولكن شرط أن يغطي الدولار نفسه بالذهب، (أي إن أصحاب الدولار لا يحق لهم طباعته إلا بقدر ما يختزنون من ذهب).
منذ تلك اللحظة بدأ أسياد الدولار بالتلاعب على هذه القاعدة، بداية في السر، ومن ثم ابتداءً من السبعينيات في العلن. وكي يجبروا العالم على مواصلة استعمال الدولار قاموا بأمرين أساسيين: (نشروا أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، وفرضوا تسعير النفط بالدولار ليظهر ما بات يعرف بالبترودلار).
ومن المعروف أنّ النفط هو البضاعة التي تقود كامل سوق المواد الخام بالعالم، وتسعير النفط بالدولار كان يعني ضمناً تسعير كل المواد الخام بالدولار، والقسم الأكبر من التجارة العالمية بالدولار، وبات الدولار الأمريكي بهذه الطريقة معبراً عن ثروات كبرى ليست ملكاً لمصدريه ولا للاقتصاد الأمريكي، بل ثروات عالمية يجري السطو على نسبة معتبرة منها عبر تسعيرها بالدولار.
من حيث الجوهر، فإنّ البترودولار هو عملية «ترقيعٍ» تاريخي لبريتين وودز نفسها، حيث أدى إلى إطالة عمرها. ما نعيشه اليوم من بداية نهاية البترودلار (عبر تسعير النفط والغاز بالروبل أو اليوان أو الروبية أو غيرها)، هو بالجوهر بداية لنهاية بريتين وودز نفسها... ما الذي يعنيه ذلك؟
سمحت بريتين وودز بإنتاج نظام أسعارٍ عالمي قام على أساسه ما بات يسمى «الاستعمار الاقتصادي»، أو ما يسميه الاختصاصيون بـ«التبادل اللامتكافئ»، والذي على أساسه يتم نهب الدول والشعوب المنتجة للخامات وللثروات الأساسية في العالم نهباً وحشياً وإجرامياً، حيث تبيع ثرواتها بأرخص من قيمتها، وتستورد المواد المصنعة خارجها بأغلى من قيمتها، فتخسر ذهاباً وإياباً، بينما يغتني الغرب صعوداً وهبوطاً كالمنشار.
الروبل مقابل الغاز ليس إلا البداية، وليس غاية في ذاته، وإنْ كانت أوروبا سترفض الدفع مقابل الغاز بالروبل، فعليها الدفع إذاً بالذهب، وهذا سيكون أفضل إذ سيحث عملية الانتقال الضرورية نحو عملة عالمية موازية-ثم بديلها، أساسها مجدداً هو الذهب (وعلينا ألا نستغرب إذاً، أنّ أهم ما يجمع دول بريكس الخمس هو أنها أهم دول العالم في إنتاج وتخزين الذهب).
انتهاء عصر البترودلار، هو ضمناً بداية نهاية التبادل اللامتكافئ. ومع انتهاء إمكانات التوسع الأفقي للرأسمالية، ومع وصول معدل الربح الفعلي عالمياً إلى الصفر، فإنه بداية النهاية لأسلوب النهب الإمبريالي ككل... وهذا بذاته يعني انفتاح الأفق أمام عصر جديد للبشرية جمعاء، وضمناً أمام تغييرات جذرية ستكون سورية (لما يحمله موقعها وخصوصيته من أهمية تشهد عليها كل التغييرات الكبرى عبر التاريخ)، أحد عناوينها الهامة، بالضرورة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1063