عن «روسيا الشبح الإمبريالي».. ارتفاع الخامات والنادي الإمبريالي
بعد الدخول الروسي العسكري المباشر في سورية أواخر عام 2015، بدأت تظهر «تنظيرات يسارية» ترى أنّ روسيا هي «دولة إمبريالية»، وأنّ تدخلها في سورية هو هو التدخل الأمريكي في سورية وفي غيرها.
الهدف السياسي والدعائي من وراء هذا النوع من التنظيرات كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، ويمكن اختصاره بالقول: إنّه إذا كانت التيارات اليمينية بأشكالها المختلفة وضمناً الليبرالية والليبرالية الجديدة، لديها موقفها واصطفافها الواضح والمسبق في الصف الأمريكي وضد أية قوة تعارضه، فقد كان لا بد من اختراع «غطاءٍ إيديولوجيٍ» يوسّع الصف الأمريكي والغربي عموماً، ليشمل صفوف قسم من «اليسار» أيضاً.
واليوم مع الحدث الأوكراني، يعود هذا الطرح من جديد (أي القول بأنّ روسيا إمبريالية)، وبشكل أكثر كثافة وتركيزاً، وإنْ بسطحيةٍ أعلى حتى مما كان عليه في 2016، والأهداف هي هي لم تتغير.
«الشبح الإمبريالي»
نشرت قاسيون عام 2017 دراسة كنت أعددتها بهذا الخصوص، بعنوان «روسيا الشبح الإمبريالي»، وصدرت الدراسة لاحقاً في كتيب صادر عن دار الطليعة الجديدة بدمشق. هدف الدراسة كان محاولة الإجابة عن سؤالين كانا رائجين في حينه: «هل روسيا دولة إمبريالية؟ وإنْ لم تكن كذلك، فهل يمكنها التحول إلى دولة إمبريالية؟».
وبما أنّ الموضوع، وعلى خلفية الحدث الأوكراني، قد تحوّل مجدداً إلى حديث الساعة في عددٍ من الأوساط «اليسارية»، فلا ضير من التذكير بالدراسة المشار إليها، لأنّها ما تزال صالحة من حيث المبدأ على ما أعتقد، حتى وإنْ كانت الأرقام التي استندت إليها قد تقادمت بعض الشيء بطبيعة الحال، لأنها ارتكزت إلى الأرقام التي كانت موجودة في حينه، وبشكل خاص لأرقام أعوام 2014-2016.
سنعرض فيما يلي بشكل مختصر جداً، المنطق الذي بنيت عليه الدراسة وبعض نتائجها، وذلك قبل الانتقال إلى عرض بضع ملاحظات عامة إضافية على أساس المستجدات.
ملخص
«روسيا الشبح الإمبريالي»، كانت محاولةً أولية لتقديم فهمٍ معاصرٍ للإمبريالية، وذلك بالاستناد إلى التعريف اللينيني لها، مع أخذ متغيرات قرن كامل مضى بعد ذلك التعريف بعين الاعتبار.
وعليه، فقد بدأت الدراسة بعرض تعريف لينين للإمبريالية، ومن ثم محاولة فهمه في ظل متغيرات كبرى في القرن العشرين أهمها: 1- الانتقال من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد (الاقتصادي- التبادل اللامتكافئ)، ومنه إلى استعمار ما بعد جديد يدمج الشكلين السابقين عليه، بدأ بالظهور منذ أواسط التسعينات، وبشكل أوضح في العراق وما بعدها. 2- الدولار عملة عالمية، وما الذي يعنيه ذلك في مجمل العلاقات التجارية والسياسية الدولية. 3- التزاوج والترابط بين الدولار وبين التبادل اللامتكافئ، بوصفه الأداة الأهم على الإطلاق في شفط أكبر قدرٍ ممكن من القيم المنتجة مجدداً حول العالم، وليس في دول الأطراف فحسب، بل وفي دول المركز نفسها أيضاً. وبكلمة، فإنّ أداة، أو بالأحرى، نظام (دولار- تبادل لا متكافئ) – والمدعوم بأكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، بات النخاع الشوكي للإمبريالية اليوم، وليس ممكناً رؤيتها وفهمها بشكل ملموس دون فهمه ومعرفة امتداداته وآليات عمله.
بعد المقدمة النظرية، انتقلت الدراسة إلى قراءة وضع روسيا في حينه على مستويين، الأول: هو ضمن المحددات الخمسة للإمبريالية وفق لينين، والثاني: هو قراءة وضع روسيا ضمن منظومة (دولار- تبادل لا متكافئ)، أي عملياً ضمن تقسيم العمل الدولي في حينه، والذي لم يتغير كثيراً من حينه، مع أنّه قد بدأ هذه الأيام بالذات بالتغير بشكل عاصف (صفقة الـ 3 مليون برميل نفط بين روسيا والهند بالعملة الهندية مثالاً ومؤشراً على بداية الانقلاب الكوني الذي نعيشه في تقسيم العمل الدولي، وفي دور الدولار وفي دور التبادل اللامتكافئ).
أثبتت الدراسة بالأرقام، أنّه لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار روسيا إمبريالية، لا ضمن المستوى الأول من القراءة، ولا ضمن المستوى الثاني. بل على العكس من ذلك، فقد وضّحت أنّ موقع روسيا ضمن تقسيم العمل الدولي هو موقع المنهوب والمستَعمر استعماراً اقتصادياً من الغرب. وكذلك فقد أعادت التذكير بما سبق أن قاله وتوقعه حزب الإرادة الشعبية في وثائقه عام 2008، وعام 2013 بشكل أوضح، بما يخص التطور المستقبلي لروسيا. الفكرة الأساسية كانت وما تزال، ونراها الآن قد بدأت بالتحقق وإنْ كان من غير الممكن بعد الجزم بأنها ستمضي إلى النهاية في الطريق نفسه... الفكرة باختصار هي التالية:
ليس من مخرجٍ (وإنْ مؤقت) للأزمة العميقة التي تعيشها الإمبريالية اليوم، وبرأسها الأمريكي بالدرجة الأولى، إلا بوضع اليد بشكل كامل على روسيا وثرواتها الباطنية التي تقدر بحوالي 40% من مجمل الثروات الباطنية في العالم، (وهي ضعف الثروات الباطنية الإجمالية لكل من الولايات المتحدة وأوروبا والصين واليابان مجتمعة). ووضع اليد بشكل كامل يتطلب إنهاء وجود روسيا نفسها كدولة واحدة، وهذا ما سبق أن قالت به علناً مادلين أولبرايت.
في ظل هذا التهديد الوجودي، وما نراه اليوم بشكل ملموس في إطار العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة تاريخياً، فإنّ الشعب الروسي في إطار دفاعه عن أمنه القومي، ولكي يتمكن من المحافظة على نفسه وعلى بلاده، لن يكون أمامه أي خيار آخر سوى الاستدارة ضد الرأسمالية في بلده هو نفسه... وهذا الكلام نفسه ليس بجديد بل هو نبوءة عظيمة للينين قال فيها: إنّ الشعوب في سياق نضالها ضد الإمبريالية ستندار موضوعياً للنضال ضد الرأسمالية في بلدانها.
في الفقرتين التاليتين، سنعرض ملاحظتين إضافيتين تصبان في الموضوع نفسه، وتقتربان من قراءة ما يجري الآن حول العالم.
المواد الخام والتبادل اللامتكافئ
يقتصر التفسير الذي نراه في الإعلام للارتفاعات الهائلة في الأسعار العالمية لكل المواد الخام (نفط، غاز، معادن...)، وكذلك للمنتجات ذات القيم المضافة القليلة نسبياً (مثل الحبوب وبعض المحاصيل الزراعية الأساسية، وكذلك الأسمدة وغيرها)، يقتصر التفسير على العلاقة بين العرض والطلب، ضمن حديث عن أنّ محاولة عزل روسيا ونتاجها من هذه المواد، سيشطب من السوق العالمي بشكل آلي جزءاً كبيراً من العرض مع بقاء الطلب على حاله، بل ومع ارتفاعه الذي كان قائماً أساساً مع عودة العجلة العالمية للدوران جزئياً بعد تباطؤ كبير خلال سنوات كورونا... هذا التفسير منقوص ومضلل بشكل كبير.
بداية، فإنّه من الصحيح تماماً أنّ تعريف السعر وفقاً لماركس هو أنه «انحرافٌ عن القيمة» صعوداً أو هبوطاً وفقاً للعلاقة بين العرض والطلب. والقيمة بدورها هي كمية العمل الضروري اجتماعياً المتجسد في البضاعة.
مضمون تعريف ماركس للسعر ما يزال صحيحاً تماماً، ولكن شكل ظهوره قد مرّ باعتقادنا بتطورين كبيرين منذ زمنه وإلى الآن؛ الأول: كان قد غطاه ماركس نفسه في حديثه عن الاحتكارات، ومن ثم غطاه لينين بشكل أشد وضوحاً بحديثه عن الربح الاحتكاري في عصر الإمبريالية، والثاني: هو السعر في عالم التبادل اللامتكافئ...
بداية، فإنّ الاحتكار هو أداة أساسية في التحكم بالعرض، (ناهيك عن أدوات التحكم بالطلب أيضاً، والتي تشمل قائمة معقدة وطويلة من العناصر بين أهمها: عمليات التحكم بالوعي). حين يتحكم الاحتكار بالعرض وغالباً باتجاه تخفيضه مقابل الطلب، فإنّ السعر كانحراف عن القيمة يتحول من عملية عفوية ناتجة عن فوضى الإنتاج الناتجة بدورها عن العمى الرأسمالي الذي يقوده السعي نحو الربح الأعلى، يتحول إلى عملية مخططة ومدارة، بحيث يكون السعر بشكل دائمٍ تقريباً أعلى من القيمة، وبحيث يتحول السعر إلى أداة نهب إضافية فوق النهب الذي يتم أساساً عبر القيمة نفسها (أي أنّ النهب الرأسمالي موجود حتى لو تم بيع أية بضاعة بسعرٍ مساوٍ تماماً لقيمتها، والنهب في حينه هو هو القيمة الزائدة، أي ساعات العمل المجاني التي يضطر العامل لتقديمها بشكل يومي لصاحب العمل، لأنّ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تحرم العامل من إمكانية تجديد قوة عمله، وبكلام أبسط تحرمه من إمكانية إنتاج غذائه وملبسه ووسائل حياته، إلا عبر وسائل الإنتاج ورأس المال اللذان يملكهما، ويجر العامل من رقبته بأغلال ثقيلة، وإنٍ غير مرئية، لكي يتمكن من الحياة فقط عبر مراكمة الأرباح لرأس المال).
في عصر «التبادل اللامتكافئ- الدولار»، فإنّ عملية التحكم بالعرض والطلب تمضي شوطاً أبعد بكثير، وبالذات عبر التحكم في أسواق وآليات تبادل المواد الخام، وعبر تسعيرها بالدولار.
ما يجري حقيقة، هو أنّ الدولار يأخذ قيمته من تسعير المواد الخام به، وليس العكس، ونتيجة للتضخم الفلكي للدولار، فإنّ تسعير المواد الخام به يجعل أسعارها منحرفة نزولاً وبشكل مهولٍ عن القيمة الحقيقية لها.
وباختصار، فإنّ ما نراه اليوم من ارتفاع في أسعار المواد الخام، هو بداية عملية تصحيح تاريخي لهذه الأسعار اقتراباً من قيمها الفعلية، في عالم كل عملاته على الإطلاق متضخمة... وربما أهم من ذلك، أنّ هذا الارتفاع هو بداية لكسر عملية التبادل اللامتكافئ... (بكلام أوضح، فإنّ دول المركز الغربي التي اعتاشت طوال قرون على نهب المواد الخام من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية- بأسعار أقل بكثير من قيمتها، مقابل تصدير المواد المصنعة بأسعار أعلى بكثير من قيمتها- تقف الآن أمام وضع جديد: اذهبوا واصنعوا الهواء إذا شئتم، فالمواد الخام والدول والشعوب التي تملكها تسير الآن نحو تسعير موادها بعملات غير الدولار، وتسير تالياً نحو إنهاء عملية النهب التاريخي التي ازدهرتم ومن ثم تعفنتم على أساسها).
النادي الإمبريالي
لا يزال الحديث عن نادي الدول الإمبريالية- وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وألمانيا وفرنسا- حديثاً صحيحاً من حيث المبدأ، ولكنّه بات رمزياً أكثر من كونه ملموساً ودقيقاً...
ما نقصده، هو أنّ المرحلة التي كان فيها وصف دولة ما بأنها إمبريالية ربما انتهت تماماً، فإمبريالية المركز الغربي، إمبريالية البنوك والمجمعات الصناعية العسكرية والشركات الكبرى، أصبحت أكبر وأقوى من أجهزة الدول الغربية ومن الدول نفسها، وهذه الدول نفسها كأراضٍ وموارد وأسلحة وحدود وإلخ، باتت إلى حد بعيد مجرد أداة في يد هذه الاحتكارات الكبرى، والساسة الذين نراهم على الشاشات بمن فيهم رؤساء الدول الغربية هم مجرد موظفين بمراتب عالية وبمرتبات عالية لدى النخبة الإمبريالية.
وفي ظل الإمبريالية، فليست فقط المجتمعات هرمية من حيث حيازة الثروة، بل وأيضاً النخبة هرمية في حيازتها للثروة، وفي حيازتها للسلطة أيضاً. ونتيجة الترابط بين التبادل اللامتكافئ والدولار، فإنّ النخبة العالمية بات ضمنها نخبة النخبة، أي 1% من الـ 1% وربما أقل، وهؤلاء يديرون الاتجاهات الأساسية لعمل الاقتصادات والدول الأوروبية والأمريكية، وكذا للتجارة الدولية.
بكلام أكثر مباشرة، فإنّ الحديث اليوم عن «الإمبريالية الألمانية» مثلاً، هو حديث مجازي، ولا يمكن التعامل معه على أنّه توصيف علمي؛ ولعل السياسات التي تقوم بها لا ألمانيا فحسب، بل وكل الدول الأوروبية هذه الأيام، هي دليل دامغ على أنّ هذه الدول وساستها لا يعملون لتحقيق مصالحها هي، حتى من وجهة النظر الانتهازية الرأسمالية... السياسات التي تنخرط فيها أوروبا اليوم في إطار العقوبات على روسيا، ستكون لها نتيجة مؤكدة واضحة هي إلحاق أضرار كارثية باقتصادات أوروبا وشعوبها ورأسمالييها، وهذه النتيجة قد بدأت بالتمظهر بشكل سريع، ولن تلبث طويلاً حتى تظهر بشكل أكثر وضوحاً بتأثيراتها الشاملة بما فيها الاضطرابات الكبرى الاجتماعية والسياسية.
أي أنّ ما يسمى «الإمبريالية الألمانية» أو «الإمبريالية الفرنسية» لا تتصرف كإمبريالية، ببساطة لأنه ليس هنالك في اعتقادنا شيء اسمه الإمبريالية الألمانية أو الفرنسية... اليوم هنالك نادٍ إمبريالي واحد، وله معلم أساسي هو صاحب الدولار، وأعضاء النادي ليسوا دولاً بل شركات واحتكارات كبرى... وهذا النادي نفسه يقوم اليوم بالتضحية بأوروبا وباليورو لا لشيء إلا لمحاولة تأخير انهيار الدولار، ولتحميل اليورو واقتصادات اليورو فاتورة كان يفترض أن يدفعها الدولار قبل أي أحد آخر...
بهذا المعنى، فإنّ الدول الأوربية نفسها، شعوباً ورأسماليات، ورغم أنها داخلة في علاقات نهبٍ عبر تبادل لا متكافئ مع «دول العالم الثالث والثاني»، إلا أنها هي نفسها أيضاً تخضع للنهب من قبل منظومة (دولار- تبادل لا متكافئ)، وهذا النهب سيتعاظم في قادم الأيام، لأنّ قدرة دراكولا على امتصاص دماء شعوب العالم الثالث والثاني ستتراجع بشكل كبير في المرحلة القريبة المنظورة، ولذا فإنّ دماء أوروبا بشكل مجازي وبشكل فعلي، ستكون الطبق الرئيسي على مائدة الدولار... ولكن مع ذلك، فإنّه حتى لو امتص أصحاب الدولار اقتصاد اليورو حتى آخر قطرة فيه، فإنّ ذلك لن يكون كافياً لتغطية انكشاف التضخم الحقيقي للدولار، والذي نعيش الآن بداياته الأولى فحسب ممثلة بأسعار المواد الخام... فحتى التهام أوروبا بأكملها، إنْ جرى، فإنه لن يؤخر هذه العملية إلا مؤقتاً...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1062