المتشددون السوريون: فلتكن حرباً وليكن خراباً... لا في أوكرانيا وحدها.. بل وفي سورية أيضاً
لم تكد تبدأ أحداث أوكرانيا المستجدة، حتى حدث اصطفاف شاملٌ على مستوى العالم؛ ولم يقتصر ذلك على الدول المنخرطة في الأزمة وتلك التابعة لها أو المتمترسة في خندقها، بل شمل قوى وأحزاباً ومنظمات وشخصيات من كل العالم.
الجهات السورية لم تكن استثناءً، وبات الموقف الشكلي من المعركة (ونؤكد على الشكلي، وسنبين لاحقاً لماذا هو شكلي)، ثنائية إضافية يستخدمها المتشددون من الأطراف السورية في محاولاتهم المستمرة لتأجيل وتعطيل ومنع حل الأزمة السورية.
اتجه القسم الأكبر من المعارضة التي دعمها الغرب منذ اللحظة الأولى إلى تأييد موقفه بشكل كامل. وكان أكثرها تشدداً وتملقاً هو الائتلاف وبعض أشباهه، حيث إن بياناته وتصريحات بعض الشخصيات القيادية فيه ذهبت أبعد من مجرد تأييد الموقف الغربي، إلى «انتهاز» الفرصة لطلب الدعم العسكري!
في 26 شباط، أي بعد يومين من بداية المعركة الأوكرانية، طالب أحد المسؤولين في الائتلاف المجتمع الدولي بـ «دعم الجيش الوطني السوري وإمداده بالعتاد النوعي وبمضادات طيران…، ما يحدّ من خيارات بوتين العسكرية في سورية، ويمنعه من تهديد دول الناتو من خلال القواعد الروسية في الساحل السوري» وأضاف: «أمن أوروبا بات أكثر ارتباطاً بأمن سورية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ما يستدعي التفكير جدياً والسعي فعلياً لدعم الثورة السورية والجيش الوطني ضد النظام المجرم ومن أجل إضعاف الوجود العسكري الروسي في سورية».
قام مسؤول آخر من الائتلاف، في 27 شباط بنشر تغريدة يقول فيها: إن «دعم الجيش الوطني بالسلاح النوعي كفيل بهزيمة نظام الأسد وحلفائه ونحن قادرون على قلب المعادلة العسكرية جذرياً في سوريا، إذا توفر الحد الأدنى من المساندة».
في 1 آذار وفق خبر حول اجتماع له، أكد الائتلاف «على أن المجتمع الدولي اليوم مطالب باستدراك أخطائه في سورية، ووقف التمدد الروسي فيها، وذلك من خلال دعم الجيش الوطني السوري، وإمداده بالعتاد النوعي ومضادات الطيران أسوة بدعم أوكرانيا بها، معتبرين أن دعم الجيش الوطني السوري سيحدّ من خيارات بوتين العسكرية في سورية».
وفي خبر آخر أيضاً في 1 آذار، قام مسؤول آخر من الائتلاف بالقول: «إن كسر شوكة الغطرسة الروسية تبدأ من سورية عبر عودة الدعم السياسي والعسكري والإنساني الحقيقي للثورة السورية، معتبراً أن ذلك سيغير المعادلة ويعيد الاستقرار لسورية وأوكرانيا والعالم أجمع».
هذه فقط بعض الأمثلة لتصريحات هذه الجهة خلال الأيام الخمسة الأولى من المعركة ويمكن أن نضيف إليها أكواماً من المقالات والتصريحات بالاتجاه نفسه، من هذه الجهة ومن أشباهها...
العمل ضد الحل السياسي
أول ما يمكن استنتاجه من هكذا تصريحات، أن المتشددين من الأطراف السورية ما زالوا يعملون بعقلية «الحسم» و«الإسقاط»، وبالرغم من بعض التصريحات هنا وهناك حول رغبتهم بالوصول إلى حل سياسي، إلا أن المواقف الفعلية لا تدل إلا على أنهم لم يتخلوا يوماً عن العمل فيما يتعارض ولا يصب في الوصول إلى حل سياسي حقيقي. والتصريحات حول أوكرانيا بما في ذلك المطالبة بالدعم العسكري هي دليل إضافي على أن بعض الجهات المعارضة ما زالت متمسكة بشعار «الإسقاط عبر العسكرة» كخيارٍ أساسي لها، وبالرغم من أنهم يحتلون موقعاً أساسياً في ما يسمى «المعارضة الرسمية» إلا أنهم لم يكونوا يوماً صادقين في العمل على الوصول إلى حل سياسي للأزمة في سورية، ولكن انخرطوا فيه اضطرارياً، لأن ذلك ما طلبته منهم الدول والتي هي ذاتها تضع معوقات أمام الحل السياسي، أكثر من ذلك، فإنّ انخراط هذا النوع من القوى في العملية الشكلية المرتبطة بالحل السياسي، وكما تثبت الأحداث ويثبت سلوكها، ليس له من غاية إلا منع هذا الحل نفسه من التقدم. هذه «المعارضة» تعمل بطريقة متشددي النظام نفسها، وكلاهما لديه الأهداف ذاتها في الجوهر: وضع يدهم على السلطة بالقوة وليس مشاركتها بصيغة يتم التوصل إليها من خلال حل سياسي على أساس التفاوض والتوافق. بالتحديد فإن بعض أطراف المعارضة بمطالبتها بالدعم العسكري من الغرب لمساعدتها في إزالة النظام، فهي ما تزال تحلم بـ«حل» على النموذج العراقي.
تعبيرات مختلفة للموقف ذاته
العمل بهذه العقلية والآلية، أي ضد الحل السياسي التوافقي، ليس جديداً بالنسبة لهذه القوى «الحاكمة» في المعارضة؛ حيث إنهم اعتمدوها منذ بداية فرضهم على السوريين من قبل الجهات التي كانت وما زالت تعمل على استدامة الأزمة وعملية الاستنزاف لسورية والسوريين. جدير بالتذكير هنا أن هذه القوى سواء بشكلها الحالي أو أشكالها السابقة كانت نفسها رافضة لبيان جنيف في 2012، وقبلته على مضض بعد أن توضح أن المناخ الدولي والوضع الداخلي لم يعد ممكناً معه الاستمرار بالرفض.
لاحقاً في 2015 عندما تبنى مجلس الأمن بالإجماع القرار 2254 رفضوا القرار في البداية على أساس تمسكهم ببيان جنيف! (الذي كانوا رافضين له قبل ذلك) واستمروا في ذلك لما يقارب العامين من منطلق أن القرار «تحريف لبيان جنيف»!
لاحقاً، وأيضاً على مضض بات القرار 2254 مطلبهم المتمسكين به، وعلى أساس ذلك رفضوا حضور مؤتمر سوتشي في بداية 2017 وعملوا ضده وحاولوا إفشاله بالتعاون مع شركائهم الدوليين الغربيين، حيث دعوا إلى عدم حضوره وحرضوا ضد من حضره من المعارضة، ورفضوا مخرجاته بما في ذلك الدعوة إلى تشكيل اللجنة الدستورية، والتي لاحقاً وافقوا عليها، بل دخلوها كعنصر أساسي وبنسبة أعطتهم المجال لمساعدة النظام في تأخير تشكيلها لما يقارب العامين.
متشددو المعارضة مستعدون للتضحية بالبلاد والعباد
من المؤكد أنه في عالمنا الراهن، لا توجد قضيتان أو مسألتان أو أزمتان في أي مكان من العالم غير مرتبطتين إلى هذه الدرجة أو تلك. لذلك هناك ارتباط لدرجة ما بين الأزمتين السورية والأوكرانية، ولأن المتصارعين الكبار فيهما هم تقريباً ذاتهم، فدرجة الارتباط بينهما غير قليلة أبداً، وهذا يخلق الفرصة لبعض الجهات المنخرطة في الملف الأوكراني أن تستغل ذلك الرابط لتحقيق مكتسبات لها ضد خصومها، وهنا بالتحديد حلف شمال الأطلسي «الناتو» والغرب بشكل عام يحاول إزالة «الخطر الروسي» على مصالحه، وسوف يستخدم أية بقعة في الأرض كملعب لتحقيق مساعيه.
انطلاقاً من هذا الواقع فإن مقاربة الوطنيين من السوريين يجب أن تتمحور حول العمل على عزل الملف السوري قدر الإمكان عن أية تأثيرات سلبية محتملة لأية صراعات قائمة في أي مكان آخر، واليوم بالتحديد عن ذلك الجاري في أوكرانيا. هذا قد لا يعني بالضرورة القدرة على عزله كلياً أو حتى جزئياً، ولكن على الأقل المساهمة في تقليل الآثار السلبية قدر المستطاع، والعمل للاستفادة من الآثار الإيجابية المحتملة.
إذا نظرنا إلى هذه الطريقة بالعمل من خلال التصريحات والسلوك السياسي ومقاربة الحل السياسي ككل للمتشددين من الأطراف السورية فإنها قد صبت على مدى سنوات الأزمة بشكل مباشر أو غير مباشر بتعزيز وزيادة التدخلات الخارجية والغربية خاصة، عارفة أن هذه التدخلات تصب في استمرار وتعميق الأزمة وتعطيل وعرقلة الحل السياسي.
مراجعة مثال ما قام به الائتلاف «المعارض» من تصريحات ومطالبات على أساس ما يحصل في أوكرانيا يصب تماماً في هذه الجهود الهادفة إلى تعميق الأزمة السورية، ولا يمكن فهمها إلا على حقيقتها وهي تسخير هؤلاء لأنفسهم بل وأيضاً محاولتهم تسخير البلاد والعباد ليكونوا في خدمة المصالح الغربية وبالأخص الأمريكية منها، وتحويل سورية إلى بؤرة مشتعلة لمعركة الغرب ضد روسيا، غير مكترثين لإراقة المزيد من الدم السوري وتدمير البلد. بعض هذه التصريحات دعت الغرب بشكل مباشر لفتح جبهة مع روسيا في سورية التي يمكن أن تكون معركة أخرى للضغط على روسيا، وإعادة تأجيج نيران الحرب في سورية. وهذا ليس مستغرباً بالنسبة لبعض من يسمون أنفسهم «معارضة» سورية، بينما لم تطأ أقدامهم الأرض السورية منذ ثلاثة عقود وأكثر.
وبعد أكثر من عشر سنوات على بداية الأزمة، بات من غير الصحيح إطلاقاً تسمية هؤلاء بـ«معارضة الفنادق»، فقد مضى ذلك العهد الذي يعيشون فيه في الفنادق، وباتت لديهم الآن ممتلكات وبيوت وتجارات واستثمارات يعيشون على أساسها بشكل مستقر خارج البلاد، ولا يعنيهم بحالٍ من الأحوال ما قد تدفعه البلاد وأهلها من ويلات إضافية وأنهار دماء على مذبح الجنون الذي يقولون به.
المتشددون من الطرفين: لا نريد حلاً
ما زال المتشددون من الأطراف السورية يعملون بشكل مستمر ومكثف على استخدام كافة الأدوات المتاحة لهم لتعطيل أي تقدم في العملية السياسية، ولعدم الوصول إلى حل سياسي ينهي الأزمة التي يعيشها الشعب السوري، وبالرغم من أن الخطابات السياسية لكل طرف ظاهرياً تهاجم الطرف الآخر وتتهمه بتعطيل الوصول إلى الحل، إلا أنها في جوهرها تهدف إلى غاية واحدة: إعطاء الذريعة للآخر للتعطيل.
على مستوى اللجنة الدستورية ومنذ تشكيلها وانطلاق أعمالها في تشرين الأول 2019 عمل المتشددون من الطرفين سواء في الإعلام من خلال تصريحاتهم أو داخل القاعة على استفزاز الطرف الآخر ودفعه للانسحاب بهدف إنهاء اللجنة الدستورية دون تقديم أي بديل آخر. ويعلم كلاهما: أن إنهاء اللجنة الدستورية في هذا التوقيت وضمن هذه الظروف يعني العودة إلى المربع ما قبل الأول في مسار الحل السياسي. وهذه الممارسات لا تقتصر على اللجنة الدستورية فقط، بل كل شيء يمكن أن يصب في إطالة الأزمة وتعميقها بما في ذلك تثبيت حالة تقسيم الأمر الواقع، وزيادة العقوبات التي لا تطال إلا الشعب وتزيد من معاناته، وإعادة فتح الباب للتدخل الخارجي العسكري وإشعال الجبهات والمعارك، وكلاهما يحاول اليوم من خلال التصريحات حول المعركة في أوكرانيا تحقيق ذلك، سواء باستدعاء التدخل الغربي أو بالقول (على ضفة متشددي النظام) أنّ ما يجري في أوكرانيا، يجب أن يفتح الباب نحو «الحسم العسكري» ضد المناطق التي لا تخضع الآن لسيطرة النظام!
الخلاصة
هذه الدرجة من الاستنفار والتوتر والجنون في طريقة تعامل المتشددين من الأطراف السورية مع المعركة في أوكرانيا، وإن كانت تدل على أي شيء فإنها تدل بالدرجة الأولى على أنّ هؤلاء يدركون تماماً أنها معركة يجري فيها تقويض الهيمنة الأمريكية-الغربية، وبالأخص من خلال حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وبالنسبة لهم فهي معركة مصيرية لأنهم يرون أن قدرتهم على الاستمرار في تصدر المشهد وتعطيل الحل عبر تصدر المشهد مرتبط بعمق بنتائج هذه المعركة.
هذه الطريقة بالتعامل ومنها ما ذكرناه هنا فيما يتعلق بتصريحات بعض الجهات المحسوبة على المعارضة بطلب الدعم العسكري تصب في الأهداف ذاتها التي عمل عليها المتشددون من الطرفين، وبتصعيد ملحوظ في السنوات الماضية وفي محاولات إنهاء اللجنة الدستورية التي يقتصر دورها ضمن شكلها الحالي على إبقاء الحل السياسي حياً ريثما تتغير الظروف إلى المناخ الملائم للحل، والهدف من كل هذا هو إنهاء 2254 وفرص الوصول عبر التوافق والتفاوض إلى حل سياسي شامل يعطي الشعب السوري حقه في تقرير مصيره، ويعيد لسورية سيادتها واستقلاليتها وإعادة تموضعها في دورها التاريخي في المنطقة، وهذا ما لا يريده المتشددون وضمناً الغرب وأمريكا وبالطبع «إسرائيل».
هذا السلوك يتطلب من الوطنيين السوريين اليوم العمل بشكل مكثف لمواجهة أولئك، والدفع باتجاه الحل السياسي الحقيقي والشامل عبر التطبيق الكامل للقرار 2254 والذي لا يمكن تحقيقه في ظل تصدر المشهد والتحكم به من قبل المتشددين من الطرفين. وهذا يعني أن المعارضة بشكلها الحالي لا يمكنها أن تكون حاملاً لهذا الحل، ما يعني أنها بحاجة إلى إعادة هيكلة جدية تعطي الوزن الأساسي فيها للقوى التي تعمل بصدق وجدية ووطنية للوصول إلى حل سياسي، وبشكل يشمل الجميع ولا يقصي أية جهة سياسية سورية، ولا يعطي أية جهة الهيمنة على القرار.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1060