معركة أوكرانيا... وما بعدها!

معركة أوكرانيا... وما بعدها!

يقف العالم بأسره، وكما يقال، على رجل واحدة اليوم، متأهباً لتغييرات كبرى تتحقق فعلاً، ومتخوفاً من الاحتمالات الخطرة القائمة دائماً، طالما النخب المالية لديها إمكانات الوصول إلى الأزرار الحمراء المرعبة للأسلحة الأشد تدميراً وفتكاً... ولكن هذا كلّه ليس إلّا المظهر الخارجي لصورة أشد تعقيداً وتشعباً...

قراءة المعركة الجارية اليوم ضمن أوكرانيا، وامتداداتها العالمية التي تصل حتى آخر بقاع الأرض، يتطلب رؤية متوازية لمختلف الأبعاد الفعلية لها، وليس الوقوف عند ما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة في تغطيتها للأمور، والتي تحمل الطابع الدعائي بالدرجة الأولى، لا التفسيري.

ضمن محاولة التفسير، يمكن تثبيت بضع نقاط أساسية:

أولاً: العملية العسكرية الروسية لا تستهدف أوكرانيا بقدر ما تستهدف الناتو وتمدده الخطر والمستمر منذ 30 عاماً وبلا هوادة لتطويق روسيا، وكذا لمحاولة إحكام السيطرة العالمية للولايات المتحدة.
ثانياً: عملية التمدد العسكري الأمريكي خلال العقود الماضية، شملت ضمنياً ضم 14 دولة من فضاء الاتحاد السوفييتي السابق وجواره إلى الناتو، ابتداءً من عام 1997... أي أنها طوقت روسيا بشكل شبه كامل من الغرب. عملية التمدد هذه، كانت ولا تزال نتيجة موضوعية لفرق الكمون بين القوة الاقتصادية والقوة العسكرية؛ أي إنّ التراجع المستمر الفعلي للقوة الاقتصادية الأمريكية وضمناً لسيطرة الدولار عالمياً، كانت تدفع الأمريكي بشكل إجباري للتغطية على هذا التراجع بمزيد من الحضور العسكري، ليفرض بالقوة ما لم يعد قادراً على فرضه بالاقتصاد... ولكن هذه العملية نفسها، أي تعويض الاقتصاد بالعسكر، دخلت مرحلة «تجاوبٍ حادٍ» تراكبت فيه موجتا الاقتصاد والعسكر بشكل يخمّد كلاً منهما، منذ عام 2008 تقريباً، أي مع الأزمة المالية؛ حيث دخلت الولايات المتحدة طوراً تاريخياً جديداً من التراجع لم تعد فيه القوة العسكرية قادرة على دعم الاقتصاد (أي بالتحديد على منع صعود الصاعدين وخاصة الصين)، ولم تعد القوة الاقتصادية والمالية قادرة على الإبقاء على النشاط العسكري بالزخم نفسه، وبالتطور التقني نفسه... وما نراه الآن في أوكرانيا هو أقرب إلى حالة الشلل، حيث لا إجراءات فعلية يستطيع الناتو اتخاذها، سوى التصريحات والعقوبات (وهذه الأخيرة لها آثار معاكسة سنأتي عليها لاحقاً).
ثالثاً: إذا كانت التغيّرات في الميزان الدولي قد تراكمت خلال العقدين السابقين، (اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً)، فإنّ نقطة التحول النوعي فيها هي ما نعيشه اليوم؛ ويبدو أنّ الذروة العسكرية التي نشهدها الآن، (والتي قد لا تكون الذروة العليا)، هي الممر الذي لا مفر منه في دفع عملية الانتقال إلى نهاياتها...
رابعاً: عملية الانتقال هذه، ليست حرباً باردة جديدة، وليست انتقالاً نحو ثنائية أو تعددية قطبية، بل هي أبعد من ذلك وأعمق، (راجع مقالة: أربعة مستويات في قراءة التحول الدولي الجاري، قاسيون العدد 1057، بتاريخ 14 شباط 2022).
خامساً: ارتفاع الصراع إلى مستواه الحالي، بالتوازي مع العقوبات التي تزداد على أساس يومي، وبالتوازي مع ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب وارتفاع معدلات التضخم حول العالم بأسره، وكذا فصل معظم بنوك روسيا عن نظام سويفت العالمي، كل ذلك يحمل مضامين شديدة الأهمية حول طبيعة المعركة الجارية وأبعادها، ضمن ثلاثة مستويات على الأقل:

أ- بالنسبة لـ«التحالف الغربي»، فإنّ من سيدفع الفاتورة الأساسية هو أوروبا بالذات، وهذا أوضح من أن نقول فيه كلاماً كثيراً. ولكن المهم فيه فيما نعتقد أنه يعني ضمنياً أن الولايات المتحدة نفسها، وفي إطار إدارتها للمعركة من جهتها، وفي إطار إدارتها لتراجعها، تعمل على تدفيع حلفائها بالدرجة الأولى فاتورة التراجع، وهذا ما سبق أن قالت به قاسيون منذ مطالع القرن، حين قالت: إنّ الدولار لن يتراجع بشكل كاملٍ قبل أن يسحب معه اليورو والين وكل اقتصادات «حلفائه» نحو الهاوية... وما نراه من «وحدة شكلية» في صفوف الناتو والغرب اليوم، يخبّئ تحته مباشرة، وعلى بعد سنتميترات قليلة من السطح، شرخاً كبيراً سرعان ما سيظهر مع تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية... وما يمنعه من الظهور بحجمه الكامل حتى اللحظة، عوامل عديدة، ربما من أهمها طبيعة القيادات السياسية المسيطرة على المشهد الأوروبي، والتي امتازت منذ التسعينيات بتدني مستواها وتدني استقلاليتها، بل وفي كثير من الأحيان تبعيتها المباشرة للمراكز المالية المعولمة.
ب- بالنسبة لروسيا والصين وحلفائهما في آسيا وغيرها، فإنّ الإجراءات الاقتصادية والمالية التي يتخذها الغرب، تعني دفعهم دفعاً نحو تسريع عمليات التخلص من المنظومة المالية العالمية القائمة على الدولار. وفي هذا السياق فإنّ فصل قسم أساسي من بنوك روسيا عن سويفت، (ورغم الآلام التي سيحدثها في المدى المنظور، ليس في روسيا وحدها، بل وفي أوربا أكثر، وفي مختلف دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، ولكن أيضاً في كل البلدان النامية التي ستتأثر بشكل كبير وسريع من بوابة الاقتصاد)، نقول: إنّ فصل قسم أساسي من بنوك روسيا عن سويفت، سيكون في المدى المتوسط خدمة كبرى لتسريع عملية الانتقال التاريخي الجارية، لأنها ستعزز الارتباطات البينية بين الاقتصادات الصاعدة، والمعزولة عن الدولار، وستودي بالدولار نفسه في نهاية المطاف إلى تضخم تاريخي يُقرّب نهايته.
ج- بالنسبة لروسيا نفسها، فإنّ الضمان الأهم للنجاح في الانتقال نحو العالم الجديد، ليست السيطرة على كييف ووضع حدٍ لتمدد الناتو الذي امتد ل 14 دولة في محيط روسيا خلال العشرين عاماً الماضية، فحسب (على أهمية هذا الأمر)، بل هو تخليص موسكو نفسها، وروسيا ككل من الارتباط بالمنظومة المالية والاقتصادية العالمية التي يلعب الاقتصاد الروسي ضمنها دور المنهوب عبر التبادل اللامتكافئ ضمن تقسيم العمل الدولي. وكما أِشارت مقالة مركز دراسات قاسيون التي وضعنا رابطها ضمن هذه المادة، فإنّ الفيدرالي الأمريكي والنخب المالية العالمية لا تزال حتى اليوم شديدة التأثير في إدارة الوضع الاقتصادي الداخلي في روسيا، ويستحيل الانتقال نحو العالم الجديد الذي لا يسود فيه الغرب الأمريكي دون توجيه ضربات حاسمة للشراكة بين النخب المالية في روسيا نفسها، وبين النخب المالية الغربية...
ما يدعو للتفاؤل في المسألة ككل، أنّ الذهاب بالمواجهة إلى الحد الذي نراه الآن، والذي تعبر عنه معركة أوكرانيا، يعني ضمناً أنّ المواجهة الداخلية في روسيا ضد النخب المالية، قد دخلت طوراً جديداً (على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ المتضرر المباشر حتى اللحظة من العقوبات الأمريكية هي البنوك والشركات المالية الأكبر ضمن روسيا، وكذا بعض نخبها المالية، التي تكاد لا تخفي ارتباطها وعلاقاتها المباشرة بالغرب ومنظومته الدولارية).

الأكيد، أن المتضرر الأكبر في المدى المنظور من عمليات التضخم الكبرى الجارية حول العالم، وبالدفع الأمريكي بالدرجة الأولى، ستكون شعوب هذا العالم، وضمناً الشعب الروسي... ولكن هذا نفسه، هو ما يعطي دفعاً مزدوجاً، خارجياً وداخلياً، لتعميق الفرز في موسكو نفسها وتصعيده، أي الفرز اللازم لمعركة الانتهاء من علاقات التبادل اللامتكافئ مع الغرب ومن التبعية الاقتصادية، بالتوازي مع ضرب نمط توزيع الثروة القائم... هذا الفرز وهذه المعركة بالذات، هي المعركة الأكبر والأهم، والتي ربما تكون أهم النتائج التي قدح زنادها الناتو نفسه بتعدياته وتماديه... وهذا الفرز وهذه المعركة، أي ضد النخب المالية والاقتصادية المرتبطة بالغرب والناهبة داخلياً، هي الطريق الإجباري بالنسبة لروسيا للانتقال الفعلي نحو العالم الجديد، ودفع العالم بأسره للتحالف مع الصين، ومع كل من في هذا الاتجاه الدولي نحو الآفاق الجديدة...

نقطة إضافية:

اشتداد الصراع الدولي يعني أيضاً أنّ مختلف النقاط المشتعلة والمأزومة في العالم، والمعلق مصيرها إلى هذه الدرجة أو تلك (بالوصول إلى توافق مع الغرب، يعلم الجميع أن الغرب لا يريده، ولا يسعى نحوه، وإنما يعمل فقط على تعميق الأزمات وتأخيرها وتحويلها إلى مستنقعات آسنة)، هذا الاشتداد بالصراع، يفتح الباب نحو حل هذه الأزمات فعلياً، أي نحو حلها بعيداً عن الغرب ورغماً عنه... وسورية ربما تكون العنوان الأهم عالمياً لهذا النموذج القادم من حل الأزمات دون الغرب ورغماً عنه... وربما أحد المؤشرات المهمة بهذا الاتجاه الخبر الذي نشره الموقع الرسمي للكريملين يوم 25 شباط الجاري حول المحادثة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين الروسي والسوري، ومما جاء فيه: «تم بحث التسوية السورية، وعلى وجه الخصوص، تعزيز العملية السياسية ضمن صيغة أستانا...».

 

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1059
آخر تعديل على الأربعاء, 02 آذار/مارس 2022 14:28