الخطة ألفا- النسخة الثانية... لماذا  «التطبيع مع النظام»؟ ولماذا «التطبيع»؟

الخطة ألفا- النسخة الثانية... لماذا «التطبيع مع النظام»؟ ولماذا «التطبيع»؟

من يعرف القاموس السياسي المستخدم في سورية، بل وفي معظم الدول العربية أيضاً، يعرف تماماً أنّ كلمة «التطبيع»، هي كلمة محجوزة في الوعي الشعبي وفي الذاكرة الشعبية، وحتى في ذاكرة التداول السياسي الرسمي وغير الرسمي، على أنها تعني شيئاً واحداً: التطبيع مع «إسرائيل»... يكفي أن يقول أي إنسان في منطقتنا: إنه ضد التطبيع، لتفهم من كلامه أنه ضد التطبيع مع الكيان.

كلمة التطبيع متداولة في العالم السياسي الأوسع، وبصيغتها الإنكليزية «Normalization» وصيغها المقابلة في كل اللغات عملياً، وتعني على العموم استعادة الأوضاع العادية أو الطبيعية بين دولتين متخاصمتين، سبق أن كان الوضع طبيعياً بينهما ثم تدهور.
رغم ذلك، فإنّ القاموس السياسي العربي، ولأهمية ومركزية فلسطين ضمنه- سواء في قلوب وعقول عموم الناس، أم على ألسنة الأنظمة- لم يتعامل مع كلمة التطبيع طوال عقودٍ إلّا من موقع الرفض، وكتعبير عن مسألة واحدة فقط، هي كما أسلفنا: التطبيع مع «إسرائيل».
الإصرار على اختراع دورٍ ومعنى جديد لكلمة «التطبيع»، عبر استخدامها في سياق التقارب المتبادل بين النظام السوري وأنظمة عربية، ومن ثم تكرار الكلمة بمعناها الجديد والقديم في آنٍ معاً (خبريات تطبيع أنظمة عربية مع الكيان الصهيوني هي أيضاً خبريات كثيفة التكرار هذه الأيام).. كل ذلك ليس خفيّ الغاية، بل على العكس بيّن وواضح.
الربط هنا ليس لغوياً بحتاً- رغم أنّ هذا الأمر عظيم الأهمية في عالم السياسة وعالم محاولات التحكم والتأثير في الوعي الاجتماعي- بل هنالك شواهده السياسية والاقتصادية البارزة...
1- بأية طريقة يمكن فهم الدور الأردني الذي لم يحد عن اتجاه ثابت مرسوم منذ أيام إمارة شرقي الأردن وإلى الآن؟ هل يمكن للنظام الذي كانت بلاده مقر «الموك»، أن يكون منطلق حلٍ للكارثة السورية؟
2- بأية طريقة يمكن تفسير الاندفاع نحو ما يسمى «خط الغاز العربي»، رغم أنّ أبسط الناس بات يعي ارتباطه بالغاز «الإسرائيلي»؟ أي بالغاز الفلسطيني المسروق؟ (على الرابط ملف كامل أعده مركز دراسات قاسيون حول «خط الغاز «العربي»).
3- هل يمكن للإمارات، بما تلعبه من دورٍ وقحٍ وعلنيٍ في عمليات التطبيع مع الكيان، أنْ تكونَ ظهيراً ومسانداً لأية «مقاومة» ضده؟ أوليست الإمارات والأردن تصرحان علناً أنّ تقاربهما مع النظام السوري هو بغرض إبعاد إيران وحزب الله؟ أولاً تصرح الدولتان ومعهما دول عربية أخرى أنّ عدوّاهما في المنطقة هما إيران وتركيا، بل وتزيدان من حين إلى آخر بأشكال رسمية وشبه رسمية أنّهما تريان «إسرائيل» حليفاً في هذا الاستقطاب؟


السياق العام لـ«ألفا»

العملية ألفا، أو «ALPHA, OPERATION»، هي عملية استخبارية أمريكية بالأساس واشترك فيها البريطانيون لاحقاً، وجرى إقرارها والبدء بتنفيذها في بدايات عام 1955، أي مع اكتمال تكون «المجتمع الاستخباري الأمريكي»، في عهد رئاسة أيزنهاور.
في تلك المرحلة كانت الهواجس الأمريكية في الشرق الأوسط تتكثف بالمسائل التالية:
أ- كيف يمكن أن ترث واشنطن القسم الأكبر من «ممتلكات» بريطانيا-وفرنسا بطبيعة الحال، ولكن فرنسا كانت أضعف من أن تدافع عن «ملكياتها»، في حين كان لدى بريطانيا بقيةٌ من قوة- وذلك دون الدخول في صراعٍ حادّ معها، تجنباً لشق صف الغرب في المواجهة المحتومة مع الاتحاد السوفييتي والصين.
ب- كيف يمكن لواشنطن، وضمن عملية التوريث، أن تضع يدها على نفط الشرق الأوسط كلّه، أو معظمه.
ج- كيف يمكن تحويل المنطقة بأسرها إلى «صديقٍ» للغرب وإلى خط اشتباك مع الاتحاد السوفييتي والصين. ضمن هذا الهاجس، كان العمل على «سياسة الأحلاف»، وأهمها في ذلك الوقت: مشروع حلف بغداد.
إحدى نقاط التقاطع الرئيسة بين هذه الهواجس جميعها كانت متعلقة بمستقبل فلسطين، وبالإجابة عن سؤال مركزي هو كيف يمكن للأمريكان:
1- أنْ يرثوا «إسرائيل» من بريطانيا.
2- أنْ يحافظوا عليها بوصفها ذراعاً ضاربة في المنطقة بأسرها بعد أن ظهرت موازين قوى جديدة في المنطقة بعد 1948. ضمن هذه الموازين كان واضحاً أنّ درجة تنظيم العصابات الصهيونية المختلفة (هاغانا، شتيرن، آرغون، وغيرها)، ودرجة تنظيم الوكالة اليهودية وتأثيرها الدولي أعلى بمراحل من درجة تنظيم القوى العربية في حينه عسكرياً وسياسياً.
3- أن يحافظوا عليها بوصفها فاصلاً «طبيعياً» يحجز مصر كونها أكبر القوى العربية وأهمها في حينه، وراء سيناء، بحيث تبقى السويس ممراً «مسالماً» وخاضعاً. وأيضاً لأنّ استقلال سورية ولبنان، وعبر الضغط السوفييتي في حينه إضافة إلى المقاومة الداخلية، كان قد سبق استقلال مصر، وجاء استقلالاً مفتوح الاحتمالات ودون امتيازات فعلية للفرنسيين، وبعلاقات جيدة منذ البداية مع الاتحاد السوفييتي... (وهذا ما فعّل الانقلابات وغيرها من الأدوات عبر التاريخ السوري الحديث، لاسترداد الامتيازات بأشكال غير مباشرة، ابتداءً من اتفاقية التابلاين الأمريكية التي جاء انقلاب حسني الزعيم لتمريرها، ووصولاً إلى سياسات «اقتصاد السوق الاجتماعي»).

 


فاصل ضروري

يأخذنا السرد التاريخي السابق إلى مقارنة إلزامية بين وضع سورية وقواها السياسية أيام «اتفاقية التابلاين» (TAPline اختصاراً لـ: Trans-Arabian Pipeline- «خط الأنابيب عبر البلاد العربية»)، ووضعها اليوم أيام «خط الغاز العربي».
اتفاقية التابلاين هي اتفاقية لمد أنابيب لنقل النفط كانت تنص على مرور خطوط النقل من منابع النفط في الخليج العربي وصولاً إلى ميناء حيفا الفلسطيني. وبعد احتلال حيفا، تم تعديل الخط ليمر من الجولان السوري ووصولاً إلى ميناء صيدا اللبناني، ومنه عبر المتوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة.
وقفت القوى السياسية السورية الأساسية في حينه، وضمنها الشيوعي، وكذلك البرلمان السوري، بشكلٍ حازمٍ ضد هذه الاتفاقية... ليس لأنّ الخط يمر عبر أراضٍ محتلة «إسرائيلياً»، وليس لأنّ هنالك روافد «إسرائيلية» تصب في هذا الخط، وليس لأنّ مصدر النفط فيه «إسرائيلي»، بل لمجرد معرفة تلك القوى السياسية السورية أن المشروع يخدم دول الاستعمار التي تدعم «إسرائيل»!


«ألفا»

قبل الحديث عن هدف ألفا وبعض تفاصيلها، لا بد من لفت الانتباه إلى أنها جاءت جزءاً من الخطة الأوسع لواشنطن في الشرق الأوسط، والتي تضمنت «حزاماً شمالياً» للشرق الأوسط يضم: تركيا وإيران والعراق وحتى باكستان، (وهو ما ركّز عليه حلف بغداد). وحزاماً أوسط يضم الأردن ودول الخليج وفلسطين المحتلة، وهذا صمم لأجله مخطط التعاون الخاص بمياه الأردن، والذي كان هدفه هو محاولة دمج «إسرائيل» في المنطقة، بمساعدة الأردن، واستناداً إلى مياه الأردن... التي تطورت لاحقاً إلى كهرباء الأردن كما تُبين اتفاقية وادي عربة.
أما مصر، فكانت قد أعدت لها الخطة ألفا، والتي تتلخص بضرورة الوصول مع نظامها الجديد، نظام الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر، إلى «صلحٍ» منفرد مع «إسرائيل»، تنطلق مصر بعده لقيادة بقية العالم العربي لعمليات «صلح» مماثلة.
محاولة دفع مصر لأداء هذا الدور، جاءت بأدوات الضغط من جهة، وبأدوات الإغراء من جهة أخرى. والمغريات لم تتجاوز في معظم الأحيان إطلاق الوعود بالمساعدات الاقتصادية والتنموية، وحتى الوعد بمساعدة مالية لمشروع السد العالي، وكذلك المساعدة بصفقات السلاح، وضمن اشتراطات سياسية تخص القضية الفلسطينية، وتخص تموضع مصر الدولي، بما في ذلك الضغط عليها لعدم حضور قمة باندونغ، ومن ثم التلويح بالويل والثبور بعد صفقة الأسلحة الأولى مع الاتحاد السوفييتي عبر الصين عام 1955.
بالتقييم التاريخي لنتائج الخطة ألفا، ورغم أنّه يسجل لعبد الناصر أنه وقف ضدها وقوفاً صلباً حتى آخر يومٍ من حياته، إلا أنّها قد نجحت في الوصول إلى أهدافها بعد ذلك بشكل أو بآخر، عبر كامب ديفيد، التي فتحت الباب نحو وادي عربة وأوسلو.

1044-7

ألفا النسخة الثانية

يُنسب إلى هنري كسينجر، ثعلب السياسة الأمريكية والنصير الشرس للصهيونية، قوله: «لا حرب دون مصر، ولا سلام دون سورية». ولعل القول يتضمن من الصحة الشيء الكثير، والمقصود به طبعاً هو الحرب والسلام بالنسبة للكيان «الإسرائيلي».
الظروف التي تعيشها منطقتنا الآن، تحمل علامات تشابه عديدة مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ على الأقل في أنّ تلك المرحلة والمرحلة الراهنة، كلتاهما مرحلتان انتقاليتان بين توازن دولي قديم وتوازن دولي جديد، وفي أنّ أهم مواقع الصراع الجغرافي حول التوازن الدولي هي منطقتنا بالذات... والتي كانت في النصف الثاني من القرن العشرين النقطة الثانية التي بدأت منها الحرب الباردة بعد برلين مباشرة؛ وأحد شواهد ذلك إضافة إلى الثلاثية التي ظهرت لاحقاً: (حلف بغداد، مياه الأردن، الخطة ألفا)، هي أنّ روزفلت بعد مباحثات يالطا مباشرة، ودون أن يعود إلى الولايات المتحدة، توجه أولاً إلى البحيرات المرة على متن إس إس كوينزي والتقى بالملك السعودي عبد العزيز آل سعود، وبالملك المصري فاروق، وفي لقاءيه هذين، وكما تكشف الوثائق، أن مسألة رئيسة قد ناقشها مع كل من الملكين وهي مسألة الهجرة اليهودية.
مرت معنا، حتى في النص السابق، عدة تشابهات، بما فيها تشابهات شكلية؛ («خط الأنابيب عبر البلاد العربية»، و «خط الغاز العربي»)، (مشروع حلف بغداد أو الحزام الشمالي، ومشروع «الناتو العربي»، ورغم اختلاف بعض المشاركين في هذا وذاك، إلّا أنهما يشتركان في مسألتين أساسيتين: أنّ أحد أعمدتهما هو «إسرائيل»، وأن انتماءهما غربي بحت، ومُعادٍ لروسيا والصين). حتى أنّ بعض الأدبيات الغربية، ولتوضيح أهمية الخطة ألفا، والثلاثية الخاصة بالشرق الأوسط ككل، باتت تسميها مجتمعة بـ«معركة القرن» أي معركة القرن العشرين، بوصفها المكان الذي يمكن فيه كسر التوازن الدولي. وينبغي أنْ يستدعي ذلك إلى الذهن مباشرة «صفقة القرن» الحادي والعشرين، أيضاً لأنّ أصحابها يحلمون بأنها بالتوازي مع جملة مشاريع تتداخل معها، يمكنها أن تحسم موازين القرن الواحد والعشرين...


عودة إلى «التطبيع مع النظام»

بالعودة إلى مبتدأ الكلام، فإنّ المسار الذي تسعى الولايات المتحدة وكذلك «إسرائيل» إلى دفع المنطقة بأسرها للسير وفقه، وإذا كان يتضمن وصفات عامة من قبيل «ناتو عربي» و «خط غاز عربي»، وإلخ، فإنّه وعملاً بمقولة كيسنجر «لا حرب دون مصر، ولا سلام دون سورية»، وبعد أن تم ضمان الشطر الأول منها للأسف، على الأقل في المدى المنظور، فإنّ التركيز الآن هو على الشطر الثاني.
والتركيز هذا كان قد بدأ بمحاولة إنهاء وجود سورية بأسرها، وبعد تعثر هذا الاستهداف بالدخول الروسي المباشر نهاية 2015، انتقل نحو الاستنزاف العسكري، ثم الاقتصادي، مع العمل على تكريس تقسيم الأمر الواقع وإطالة أمده قدر الإمكان، وصولاً إلى «مساومة تاريخية» يأملها الأمريكي والصهيوني، تتلخص في تفعيل وتكريس استقطاب حاد في المنطقة بأسرها، يصبح فيها العرب ومعهم «إسرائيل» في صف واحد، في مواجهة تركيا وإيران في الصف المقابل، وبالتأكيد روسيا والصين من خلف تركيا وإيران... وهذه بحد ذاتها مفارقة عجيبة بالمعنى التاريخي، ففي اصطفافات منتصف القرن العشرين، ومع نشاط الحركة التحررية العربية، كانت مواقع إيران وتركيا هي المواقع الغربية البحتة... طبعاً بقيت الممالك العربية في خندقها التابع نفسه، اللهم إلّا مصر التي خرجت مع عبد الناصر مؤقتاً، وبدأت ببناء دور مستقل سرعان ما تم الانقلاب عليه بعده.

خلاصة

ما تسميه وسائل الإعلام الخليجية والعربية بعملية «تغيير سلوك النظام»، وبـ «التطبيع مع النظام»، ليس المقصود منه بأية حال من الأحوال فتح الباب أمام علاقات سليمة بين سورية كدولة وبين الدول العربية الأخرى، وليس المقصود منه أيضاً هو خروج سورية من أزمتها أو تحسين أوضاع أهلها... بل المقصود وضوحاً، هو سحب سورية من اصطفافها التاريخي بشكل تدريجي (ولكن سريع)، نحو اصطفاف جديد تصبح فيه لا غربية الهوى اقتصادياً من حيث المتحكمين والفاسدين الكبار ضمنها نظاماً ومعارضة فقط، بل وأيضاً غربية الهوى سياسياً بشكل علني، ضمن استقطاب جديد شرقي- غربي، أداته الأساسية هي حرب الجميع على الجميع ضمن شعوب المنطقة، ولكن مع إبعاد أية حرب، أو حتى معركة، عن «إسرائيل»...
في الوقت نفسه، ينبغي التفريق بين هذا النوع من المخططات الغربية، وبين ضرورة عودة علاقات سليمة بين الدولة السورية والدول العربية، وعلاقات كهذه لا يمكنها أن تقوم بشكل ندي وحقيقي دون حل سياسي شامل على أساس القرار 2254، يسمح لسورية باستعادة سيادة شعبها، وسيادتها الإقليمية، ودورها الإقليمي الذي أرسته الجغرافية السياسية، ولكن قبل ذلك أرساه مؤسسوها الأوائل، ابتداءً من الشهيد يوسف العظمة...

1044-15

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1044
آخر تعديل على الخميس, 18 تشرين2/نوفمبر 2021 15:27